عنيت أديان العالم بالتطرق إلى الموجود في المجتمع من ظاهرة الزواج والتعدد، فكانت للأديان مواقف وشرائع وطقوس نحو ذلك. قد تُخلق لظاهرة التعدد مبررات لإكسائِها لباس التدين والتقرب إلى الله، كما قد تُصنع لها أعذار لنزع صفة التدين منها! يسعى هذا المقال إلى محاولة عرض الأمر عرضا علميا؛ لا منتهجا موقف السياسين الذين يخاطبوننا بما يروق لنا، ولا سالكا موقف العاطفة والمشاعر الجيّاشة: نسائية كانت أم رجولية، ومن هنا لعل ما يروق للكثير مفتقدٌ في هذا المقال!

ما قبل التعدد، لماذا الزواج؟

يخبرنا القرآن الكريم أن من طبيعة “الإنسان الرجل” أنه مخلوقٌ مفطورٌ جِبلّةً على حبّ النساء: “زين للناس حب الشهوات من النساء..” والنساء مما حُبّبْن إليه عليه السلام من دنيا الناس، ديدين الأنبياء من قبل، ما يبين لنا حكمة كون الرسل بشرا. وقد خلق الله للرجل طِبقا لذلك زوجه ليسكن إليها. ومن هنا لا بدّ للدِين الذي يعتبر الواقعية وفطرة الإنسان من مراعاة هذه الحقيقة وجعلها باباً من أبواب التدين، وإلّا اعتبر فاسدا ومتنطعا وغاليا في تعاليمه، وعليه: “لا رهبانية في الإسلام” “وأتزوج النساء” وإن من أهم مبدأ الجزاء يوم القيامة من جنس ما يلبي هذا “حور العين.” على أن جملة مستلزمات تترتب على إشباع هذه الفطرة، كالولادة والتناسل، مسؤولية التربية، وحقوق أخرى، فالزواج تلبية نصف الدين.

علاقة الحياة الاجتماعية بالتدين

لا ينشأ الدين إلّا ليخاطب الإنسان ويلبي احتياجاته الاجتماعية، كان النسل وطلبه من حاجات البشر، لذلك تكفل الإسلام بحفظه، وجعله ضمن مقاصده الكبرى، فدعا إلى العفة، وستر العورة ووضَع ضوابط للعلاقات التي تجمع بين الرجل والمرأة، وحرّم الزنا. وشرع الزواج طريقا مندوبا للتناسل والارتباط العاطفي بين الجنسين، وإشباع الغرائز بينهما. ولعل من هنا يصح دوران الأحكام الخمسة على الزواج: فإن النكاح يكون واجبا لو خشي الإنسان العنت، وملك القدرة والباءة، وقد يكون مستحبا لو توفرت لديه الباءة والقدرة واعتدل عنده الهيجان بحيث لا يصل إلى الوقوع في العنت، وقد يكون مباحا لمن خاف العجز عن الإيفاء بحقوق الزواج، كما يكون محرما لو ترجح أن ارتباطه في الزواج يؤدي إلى ضياع حقوق المرأة، ويكون مكروها لو كان من قبيل الترف والشكل ويتخلله قصور في الحياة الزوجية مع رضاها.

“الأنا” وبواعث التعدد

يظهر إذاً أن الطبيعة البشرية هي المدخل الأساسي لموضوع الزواج، ويتساوى في الأمر في الرجل والمرأة على حد سواء غالبا، أو على الأقل لا يخالف هذا فطرة أحدهما، وأما التعدد فأصله يرجع إلى رغبة الرجل في تكرير الزواج لأسباب خاصة، وهنا يختلف الرجل في إشباعه لغريزة “الأنا” وإرضائها من المرأة. وتشمل “الأنا” حبّ الذات، وحب التملك والتفرد به، وهذا ما جبل عليه الإنسان، والشرع راعي هذه الصفات، فإنه لم يمنع مبدأ التملك، ولكن هذّبه. فالرجل في الغالب مثلا لديه ميول فطري إلى التعدد في الزواج إشباعا للأنا، في وقت تكمن رغبة الزوجة في الإحتفاظ على زوجها،والانفرد به ورفض مشاركته ضرات أخريات؛ إشباعاً للأنا! ولو حملت المرأة القلم لسطّرت مبررات “اللاعدالية” من منظور أنثوي، مهما بلغت من الإيمان ما بلغت! ولو ترك الخطاب في مقابل ذلك للرجل لملأ الكتب بمبررات تبين “عدالية” زواجه المتكرر، وموافقته للسنن الكونية وإن كان لا يملك مثقال ذرة من إيمان.

ظاهرة التعدد قديما وحديثا

عَرفت المجتمعات القديمة التعدد، وكان يُنظر إليها بوصفها ظاهرة اجتماعية مرموقة، تصاحبها النظرة الإجلالية وإكساب صاحبها مزيد وجاهة والمكانة الاجتماعية، وقد أدركنا أجدادنا على هذه الظاهرة، وكان الموقف النسائي تجاه هذا هو القبول المطبق، رغم الكراهية، وعد تسويغه فطرةً وغيرةً لدى النساء.

لكن مع تمدّد الزمان وانتشار العلم والتركيز على رفاهية الحياة، وكثرة النداءات إلى المساواة والحرية وحقوق الأقلية والنساء والأطفال، ظهرت عزوف أغلبية الرجال عما وجدوا عليه آباءهم، و”اصطفّ” بعضهم مع أمهاتهم وأخواتهم في عدم الميل لقبول التعدد، علما أن دور القوامة لم تعد للرجل كاملا كما كان، وذلك لاستقلالية المرأة عن الرجل غالبا براتبها نتيجة تعليمها وعملها، ومشاركتها الرجل قسطا من نفقات البيت. فبدأ صوت أغلب النساء يصدع بالرفض العلني لظاهرة التعدد، وعدِّها خيانة للعشرة الزوجية، وعدم الرد الجميل لمن صبرت وتحملت الأيام الخالية. وهذا التراجع يتسم بالعالمية كذلك، فليس خاصا بمنطقة دون أخرى، كما أن هذا التراجع لا يشمل دينا دون آخر.

ظاهرة التعدد في ميزان التدين

الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع حدودا للتعدد، وكان مفتوحا في الأديان الأخرى. وكثير من رجالات التوراة والإنجيل وأنبيائها عدّدوا فوق أربع، والأمر صحيح في الأديان الهندية. ولعل حكم التعدّد في الإسلام يأخذ حكم الزواج مع التركيز على الباءة والاستطاعة وتبعات مسؤولية تربية الأولاد والعدل في ذلك.

فمن حق الرجل التعدد بشرطه، دون أن ينخرط في عاطفة دعوى أن التعدد خير من غيره، وأنه من عمل الرسول. وفي مقابل ذلك على المسلمة التسليم للشريعة الإسلامية إيماناً ورضا “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم”، ولا ينبغي طلب الفراق والتضجّر وهدم الأسرة باسم الخيانة الزوجية، وعدم الوفاء بالعشرة تغليبا للعاطفة على العقل. فلا يمكن منع التعدد إرضاءً للمرأة وغيرتها، كما لا يمكن فتح بابه مطلقا إرضاءً للرجل!

أخيرا، صحيح أن المدخل إلى الزواج هو إشباع الغريزة تدينا وعفافا. وقد يؤيد تلبية ذلك عوامل أخرى، مثل الجمال، أو الجاه والنسب، أو المال، لكن لا معنى لتلكم بدون الدين الذي يكون مقياس التصرف في هذه العوامل. لم يُعنَ المقال بسرد مبررات التدين، ولا حصر سلبيّاته بل هو محاولة لربط جوانب حياة الإنسان بالدين والتدين.