هناك مجموعة من الأحاديث المشهورة بألقاب تدل عليها عند الإطلاق بسبب صلتها القوية بموضوع معين، مثل حديث البطاقة، وحديث الجارية، وحديث الطير، وحديث الجسّاسة، وحديث جبريل، وحديث الأعمال وهكذا. وحديث المسيء في صلاته من هذا القبيل عند العلماء المتأخرين، ويقصد به قصة الصحابي الجليل خلاد بن رافع رضي الله عنه الذي صحح له النبي عليه الصلاة والسلام صلاته فعرف بحديث المسيء في صلاته.
وهو حديث عظيم القدر وجليل الفوائد وعمدة باب صفة الصلاة، ولا يقوم غيره مقامه، وعليه مدار جل أركان الصلاة وواجباتها. بل قال الإمام النووي: “إنه محمول على بيان الواجبات دون السنن”[1]، ولذا لا يكاد يخلو كتاب من كتب الحديث المبوبة من ذكره كأصل في بيان صفة الصلاة وكذلك كتب الفقه المعتنية بالأدلة، إضافة لما تضمنه الحديث من الآداب والفوائد.
نص الحديث الشريف: حديث المسيء في صلاته
عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أن رجلاً دخل المسجد، ورسول الله ﷺ جالس في ناحية المسجد، فصلى ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله ﷺ: «وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل» فرجع فصلى ثم جاء فسلم، فقال: «وعليك السلام، فارجع فصل، فإنك لم تصل» فقال في الثانية، أو في التي بعدها: علمني يا رسول الله، فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»” وقال أبو أسامة، في الأخير: “حتى تستوي قائماً”[2].
وهناك زيادات أخرى ثابتة لم تذكر في هذه الرواية، وستأتي الإشارة إليها في موضعها إن شاء الله تعالى.
واجبات الصلاة في حديث المسيء في صلاته
قال ابن دقيق العيد: “تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر. أما الوجوب فلتعلق الأمر به، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب بل لكون الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر. ويقوي مرتبة الحصر: أنه ﷺ ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي، وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة. وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط”.
ثم قال: “فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكوراً في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكوراً في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه، لكونه غير مذكور في هذا الحديث على ما تقدم، من كونه موضع تعليم”[3].
أركان وواجبات الصلاة وفق حديث المسيء في صلاته
- القيام: لقوله عليه الصلاة والسلام: “إذا قمت إلى الصلاة فكبر” و”حتى تستوي قائماً”، لاسيما في الفريضة.
- تكبيرة الإحرام: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم استقبل القبلة فكبر”.
- قراءة الفاتحة: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن” ومفسر برواية أخرى عند أحمد وغيره “… ثم اقرأ بأم القرآن”[4].
- الركوع: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم اركع حتى تطمئن راكعاً”.
- الرفع من الركوع والاعتدال قائماً: لقوله عليه الصلاة والسلام: “ثم ارفع حتى تستوي قائماً”.
- السجود: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً”.
- الرفع من السجود: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم ارفع حتى تطمئن جالساً”.
- الجلسة بين السجدتين: كما في رواية عند أبي داود: “ثم اجلس على فخذك اليسرى”[5].
- الطمأنينة في جميع الأركان: لقوله عليه الصلاة والسلام “ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
- الترتيب بين أركان الصلاة: يفيد ذلك تعبيره عليه الصلاة والسلام بــ “ثم” بعد ذكر كل ركن.
قال ابن دقيق العيد بعد كلامه: “فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكوراً في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه وبالعكس”، ثم قال مستدركاً: “لكن يحتاج أولاً إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزائد فالزائد، ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت”[6].
قال الحافظ ابن حجر: “قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة، وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها، فمما لم يذكر فيه صريحاً من الواجبات المتفق عليها:
- النية.
- القعود الأخير.
ومن المختلف فيه:
- التشهد الأخير.
- الصلاة على النبيﷺ في التشهد الأخير.
- التسليمتان.
مستحبات غير مذكورة وفق حديث المسيء في صلاته
ذكر الحافظ ابن حجر الأشياء التي لم تذكر في الحديث، وأن الإمام النووي عدها ضمن غير واجبات الصلاة، وهي:
- الإقامة.
- التعوذ ودعاء الافتتاح.
- رفع اليدين في الإحرام وغيره.
- وضع اليمنى على اليسرى.
- تكبيرات الانتقالات.
- تسبيحات الركوع والسجود.
- هيئات الجلوس في الصلاة.
- وضع اليد على الفخذ.
وغير ذلك مما لم يذكره في الحديث ليس بواجب[7].
ثم قال الحافظ بعد ذكره لهذه الأمور: “وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق… فيحتاج من لم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه”[8]. يعني أنه لا بد من جمع طرق الحديث وألفاظه والحكم عليه قبولاً أو رداً قبل الاستدلال بعدم وجوب ما لم يرد فيه. وهذا الذي فعله ابن حجر كما تقدم، وفعله غيره أيضاً من المعاصرين.
ولذا قال ابن دقيق بأن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف:
أحدها: أن يجمع طرق هذا الحديث، ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائد فالزائد. فإن الأخذ بالزائد واجب.
ثانيها: إذا قام دليل على أحد أمرين: إما عدم الوجوب، أو الوجوب. فالواجب العمل به، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه.
ثالثها: أن يستمر على طريقة واحدة، ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر، فيتثعلب نظره[9].
الخلاصة
لا يمكن الجزم بحصر حديث الباب وجعله حكما وفيصلا دائما بين واجبات الصلاة من غيرها، بل إذا قام دليل قوي من غيره على وجوب شيء في الصلاة فإنه يتعين الأخذ به. ولكن يبقى الحديث مرجعاً ومشعراً لمعظم أمور الصلاة اللازمة لأنه سيق مساق التعليم والتصحيح، وفي موضع ووقت شدة الحاجة إلى بيان ما يبطل الصلاة عند الخلل به.
الجوانب الفقهية والأدبية في حديث المسيء في صلاته
حوى حديث المسيء كثيراً من الفوائد المتنوعة قد أشار إليها الشراح من خلال شرحهم لاسيما النووي وابن دقيق وابن تيمية وابن رجب وابن الملقن وابن حجر وغيرهم. ويحسن تلخيصها في جانبي الفقه والآداب على النحو الآتي.
الفوائد الفقهية
يستفاد من الحديث بعض المسائل الفقهية المهمة في الصلاة ومنها:
- ضابط الطمأنينة عند أهل العلم: هو استقرار الأعضاء في محلها، أو حصول السكون وإن قل، مثل قدر الذكر الواجب. والأصل فيه حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي ﷺ: “حتى يعود كل فقار مكانه”[10]. ويبين خطر الاختلال بالطمأنينة في الصلاة ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً، لا يتم ركوعاً، ولا سجوداً، فلما انصرف من صلاته، دعاه حذيفة، فقال له: منذ كم صليت هذه الصلاة؟! قال: قد صليتها منذ كذا، وكذا، فقال حذيفة: ما صليت، أو ما صليت لله صلاة -شك مهدي-، وأحسبه قال: لو مت، مت على غير سنة محمد ﷺ[11].
- وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة: وأن من أخل ببعض واجبات الصلاة لا تصح صلاته ولا يسمى مصلياً بل يقال: لم تصل.
- عدم المؤاخذة بالواجب المتروك عن الجهل: حيث لم يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام المسيء صلاته بإعادة جميع ما مضى من الصلاة التي أخل بأركانها، وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة لأن وقتها باق فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها، وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته.
- دليل على أن من أساء في صلاة تطوع فإنه يؤمر بإعادتها: وهذا مما يتعلق به من يقول بلزوم النوافل بالشروع، ووجوب إعادتها إذا أفسدها.
- جواز تأخير البيان في المجلس للمصلحة: لأن زيادة قبول المتعلم لما يُلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم خوف الفوات، إضافة إلى أنه أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة.
- أن القيام في الصلاة ليس مقصوداً لذاته وإنما يقصد للقراءة فيه: لأن شرف قراءة القرآن يقتضي أن يقرأ حال القيام دون حالة الركوع والسجود.
- دليل على وجوب التكبير بعينه لنصه عليه بقوله ﷺ: “فكبر”: أي بلفظ الله أكبر، تعبداً به لفظاً ومعنى دون غيره من الألفاظ.
الفوائد الخاصة بالآداب الشرعية
في هذا الحديث العديد من الآداب والفوائد ومنها:
- دلالة على أن فعل الجاهل بغير علم في العبادات لا يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا تجزئ: لقوله عليه الصلاة والسلام: “فإنك لم تصل”.
- استحباب السلام وتكراره على قرب المتلاقيين: وأنه لا يشترط في تكراره التفرق، ووجوب الرد عليه في كل مرة، كما ورد في رواية أخرى.
- أن صيغة الرد: “وعليكم السلام” أو “وعليك السلام” بالواو جائز بل مستحب عند الجمهور.
- أنه ينبغي للجاهل أن يسأل التعليم من العلماء، والاعتراف بعدم العلم: وأن يقربه “والذي بعثك بالحق ما أُحْسِنُ غير هذا، فعلمني”، وفي رواية “فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ”[12].
- وجوب النظر إلى صلاة الجاهل فيها، وتعريفه الصواب وما جهله: وأن ذلك ليس من باب التجسس ولا الدخول فيما لا يعني. حتى قال بعض الصحابة: “وقد كان النبي ﷺ يرمقه في صلاته ونحن لا نشعر”[13].
- الرفق بالمتعلم والجاهل في التعلم وملاطفته وإيضاح المسألة له، وتلخيص المقاصد والاقتصار على المهم: دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها.
- استدراج المتعلم بفعل ما جهله مرات، لعله أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا فيتذكره فيفعله من غير تعليم وأمر: وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ بل من باب تحقيق الخطأ، وفعله عن جهل لا عن غفلة ونسيان.
- أن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه: يستحب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة.
- أن العالم إذا رأى من تلاميذه أو أتباعه أمراً منكراً أن ينكره باللطف ثم يرشده إلى الصواب.
خلاصة القول
الحديث هو بيت قصيد الصلاة ودعامتها، فالعناية به رواية ودراية هي عناية بالصلاة التي هي قائد عمل الإنسان. فصلاحها يعني النجاح والفلاح في الدارين. هذا يدعو إلى الاهتمام الزائد بهذا الباب.
تسمية الحديث
يجب التنبيه على أن تسمية الحديث بحديث المسيء ليس تنقيصاً في حق الصحابي الجليل ولا الحط من شأنه، بل من باب اختيار أحسن الألفاظ – كما قال الشيخ ابن عثيمين – أن لا نقول: حديث “المسيء في صلاته” لأن هذه العبارة لم ترد عن الصحابة، ولأن الإساءة تكون في الغالب عن قصد، ولكن نقول حديث “الجاهل في صلاته”[14]. وربما من أجل التحفظ ومراعاة مكانته لم يرد اسمه الصريح في روايات الحديث كثيراً، وإنما يكتفى بقولهم: “دخل رجل” دون تسمية اسمه.