لا يكتمل الحديث عن خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما تميزت به من النزاهة واختيار أهل الحل والعقد، ثم بيعة العامة حتى نعرج على الإجماع الذي ذكره بعض علماء السلف على صحة البيعة. وأشرت في المقال هل كانت بيعة أبي بكر فلتة أن إجماع الصحابة على اختيار أبي بكر كان من أصرح أدلة على صحة إمامته، وهو ما ترجح من أقوال الفقهاء[1] وكان من الذين نقل هذا القرار الجماعي[2]:
– أبو الحسن الأشعري، فإنه قدم وقوع إمامته بالإجماع على النصوص المحتملة فقال: أجمع – الصحابة – الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له، وأقروا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي، وسياسة الأمة[3].
– واختار هذا الطريق الإمام الجويني في الغياثي، بل رأى صفقة البيعة طريق انتخاب الأئمة السابقين وليس النص[4].
– وناهض ابن تيمية في المنهاج أدلة من أنكر وقوع إجماع الصحابة[5].
وما استجد في هذا العصر من تشكيك هنا وهناك في شرعية خلافة أبي بكر، أو قول آخرين إن خلافته كسبت بعض الشرعية لاحقا بعد مصالحته مع مخالفيه، يجرنا إلى طرح عدد من الأسئلة، من ذلك: هل دعوى الإجماع وقعت فعلا في بيعة أبي بكر؟ وهل هناك بعض الصحابة تخلف عن مبايعته؟ وهل هذا التخلف يعد ناقضا أو خارما لهذا الإجماع ؟ وللإجابة على هذه الأسئلة نقف معا على بعض الحقائق العلمية.. وبها ندفع الشبهة المذكورة
إجماع الصحابة ممكن وواقع بالفعل
إن تصور الإجماع في عهد الصحابة إبان وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر واقع لا يمكن إنكاره، لا سيما إذا علم أن للإجماع أهله، وكانوا متوفرين آنذاك، وهم فقهاء الصحابة وأصحاب الوجاهة منهم، وهم الذين أطلق عليهم بعد بـ”أهل الحل والعقد. وهذا المصطلح لا يشمل عامة الناس من ذوي الحرف والصناعات، لأن الاجتهاد المطلوب في نازلة؛ جديدة أو مستأنفة لا ينال من علوم الكافة.
ولا أحد أنكر حصول إجماع الخاصة على الأقل في عصر الصحابة، وذلك لتحصنهم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم خروجهم منها، فكان الإجماع في عصرهم متيسرا ممكنا. وأما منكرو الإجماع من السلف، فإنما أنكروه من جهة إحالة حصر أعيان المجتهدين في عصر من العصور، وهذا الخلاف ينحصر في عصور التابعين اللاحقة ولا يتناول زمن الصحابة! وكان من المعلوم أن عدد الصحابة في زمانهم محصور، يمكن تتبع رأيهم بيسر والإحاطة به، لذلك وقع إجماعهم صحيحا مقطوعا به غير متنازع عليه[6]. لذلك نرى الظاهرية والإمام أحمد في – أحد الروايتين – من الطائفة التي تنكر الإجماع، يقصر حجيته على إجماع الصحابة فقط[7]، وهذا بطبيعة الأمر ضيق الخلاف في إجماع الصحابة.
ومن الروايات الصحيحة التي تشهد على اجتماع فقهاء الصحابة بالمدينة في صدر الإسلام ما حكاه ابن عباس أن عمر كان يضن بمجلسه أهل العلم من الصحابة، كهولا وشبانا[8]، وكان يمنع انتشارهم في الأمصار[9]، يفيدنا ذلك أن الإجماع في عصر الصحابة حقيقي بالفعل غير متوهم أو مستبعد!
نازع الخلافة سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق، ما عدا سعدا، فإنه لم يبايع ولم يتأبط شرا
الإجماع بالأغلبية وليس بالإطباق
ثم إن الإجماع المتصور وقوعه، والمقبول من حيث الاحتجاج هو ما اتفق عليه غالب المجتهدين في عصر من العصور[10]، وتقييد التعريف بالغالبية يخرجنا من متاهة إطلاق اتفاق جميع الأمة أو جميع مجتهديها، لأن ذلك مما لا يمكن حصوله في غير عصر الصحابة، ولو وجد وحصل فإنه لا ينفع! إذ المطلوب وجود حكم شرعي لحادثة مظنة الاجتهاد، وهو طلب خاص يتحمله خواص الفقهاء بالنص الشرعي، وإلقاؤه على العامة إجحاف وعديم الفائدة!
أجل، يمكن القول من باب التنظير إن وقوع الإجماع من كافة المجتهدين يكسب الحكم غاية من اليقين والكمال، لكن الأمر ذاته يتحقق بالكثرة أو الأغلبية، وكذلك بأقل الكلفة سيما حين يعسر علينا حصر المجتهدين والإحاطة بآرائهم في الواقعة، فيترك الأعسر إلى الأيسر!
خلافة أبي بكر بالأغلبية
وتبعا لهذه الحقائق المذكورة فإن بيعة أبي بكر الصديق كانت بإجماع الخاصة ثم عامة المسلمين، لم يعلم أحد تخلف عن بيعته، او انتخب غيره، وخرق به الإجماع، يضاف إلى ذلك بعض النصوص الشرعية التي تشير إلى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر للخلافة – هذا وإن اختلف الفقهاء في صراحة دلالة هذه النصوص وخفائها [11]-. وقد تهيأ لأبي بكر إجماع الخاصة في بني سقيفة بالأغلبية يوم وفاة رسول الله، ثم بيعة سائر الناس من عامة المسلمين في المسجد النبوي من اليوم الثاني[12]، وهذا النوع من البيعة وقع للصديق رضي الله عنه على وجه الخصوص للظروف الجديدة التي طرأت على الناس، وكان لا يجمع شتات أمر الناس إلا بتعيين خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم.
رغبة سعد بن عبادة في الإمارة
نازع الخلافة سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق، ما عدا سعدا، فإنه لم يبايع ولم يتأبط شرا، بل استسلم لحجة أبي بكر الصديق البينة، حين ذكره بقوله: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وأنت قاعد: ” قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم “. قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء، وأنتم الأمراء. (مسند الإمام أحمد). وتظهر لنا من هذه الرواية فائدة، أن سعدا بن عبادة تنازل عن موقفه الأول من طلب الإمارة لنفسه، وأذعن لأبي بكر[13].
وأما ما يثار ويعتقده بعض الرافضة من أن عليا رضي الله عنه لم يبايع أبا بكر الصديق فإنه مردود، لا يقبله الدليل، فقد كان علي رضي الله عنه ممن عينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالذكر أثناء بيعة العامة في اليوم الثاني من وفاة رسول الله، حين سأل عن علي والزبير، فأمرهما أن يبايعا خليفة رسول الله، ففعلا ذلك علنا. قال ابن كثير بعد ذكره للرواية السابقة: فيها فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة. وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه[14].