سؤال حجية الإجماع في العقائد والفقهيات: إن الإجماع قبلته الأمة مع وجود الخلاف في حجيته وجزئياته ومسائله، فقد نازع الشيعة والمعتزلة في حجيته وعد قولهم شذوذًا.. والأمر فيه يتعلق بصمام أمان للأحكام التشريعية العقدية والفقهية، ودليل تبعي مستنبط من القرآن والسنة يشير من طرف خفي وجلي إلى مفهوم الأمة؛ حيث الاجتماع على الكلمة الواحدة، والحكم العقدي والفقهي القطعي الواحد أو الأغلبي.

ولو صحت مسألة واحدة في الاجماع- مع قبول الأمة له- فهذا كافٍ في اعتباره حجة.. فلئن لم يقتنع البعض بالأدلة التي سيقت لإثبات حجيته.. فإنهم ولا مناص سيقتنعون بضرورته التشريعية..

فالإجماع على عبادة الواحد الأحد والإيمان بالرسل والملائكة هو من مسائل الإجماع في العقائد، كما أن وجوب الصلاة والحج على القادر إجماع فقهي عملي..

الاجماع يعبِّر عن مفهوم الأمة في ضمير علماء الأمة ورجالاتها ومفكري الأمة ومثقفيها والمسلمين أجمعين..

أو ليس الخلاف الفقهي مُـجْمَعًا على اعتباره..؟

الجواب: بلى، هو معتبر..

والإجماع في الأمة متفَقٌ على قبوله في الجملة، ولا يضر خلاف الواحد والاثنين.. كما هو مذهب الأصوليين في الإجماع (ابن المنذر وابن خويز منداد من المالكية) فليس مذهبهم على مسلك واحد.

كيف وقد صحت فيه مسائل كثيرة؟ فهل ينازع أحد في تواتر القرآن؟ وهل ينازع أحد في حرمة الموبقات وما فصّل القرآن تحريمه، من أكل الميتة ولحم الخنزير وغير ذلك من المسائل..؟

أنا أظن والله أعلم، أن من أوتي جدلاً يمكن أن يجادل إلى أبعد حدود.. حتى في ثبوت القرآن كما فعلت بعض فرق الشيعة الغالية، وفي ثبوت السنة كما يفعل القرآنيون والمستشرقون ومن سار على دربهم قديمًا وحديثًا..!

 خلاصة رأيي أن يقال: هناك إجماع قطعي وضروري.. وهناك إجماع حاجي أغلبي يراعى فيه خلاف الواحد والاثنين، رفعًا للحرج على الأمة. وعليه يحمل قول أحمد في نفي الإجماع؛ فهو نفي للإجماع السكوتي والإجماع المدعى مع وجود الخلاف.

فالإجماع من الأمة تحتاجه من قبيل المصالح الحاجية للأمة، وهناك إجماعات مدعاة يمكن مناقشتها وردها.. ولا يمكن أن تكون بحال حجة على الآخرين، ولا يمكن أن تستعمل لإسكات حركات التصحيح الفقهي والعقدي. والإجماعات العقدية معتبرة، وما جرى فيه الخلاف ينزل منزلته، كما نص على ذلك الطوفي وابن رشد والمسناوي وغيرهم من فقهاء الإسلام ومجتهديه.

وللحافظ ابن حزم كلام مهم ودقيق في الإجماع يحسن نقله في هذا المقال المقتضب؛ قال في “المحلى” (9/ 4): “لا تحل دعوى الإجماع إلا في موضعين:

  • أحدهما: ما تيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنه عرفوه بنقل صحيح عنهم وأقروا به.
  • والثاني: ما يكون من خالفه كافرًا خارجًا عن الإسلام؛ كشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وصيام رمضان، وحج البيت، والإيمان بالقرآن، والصلوات الخمس، وجملة الزكاة، والطهارة للصلاة، ومن الجنابة، وتحريم الميتة، والخنزير، والدم، وما كان من هذا الصنف فقط”.

وقال في “الإحكام” (4/ 141- 142): “فإن قيل: فقد صححتم الإجماع آنفًا، ثم توجبون الآن أنه لا معنى له. قلنا: الإجماع موجود كما الاختلاف موجود، إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك، إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله الذي نقله إلينا أولو الأمر منا، على ما بينا فقط، ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما:

إما وحي مثبت في المصحف، وهو القرآن.

وإما وحي غير مثبت في المصحف، وهو بيان رسول الله .

قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ( النحل : 44)

وقال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} ( النجم : 3 – 4)

ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها:

  1. إما شيء نقلته الأمة كلها عصرًا بعد عصر؛ كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك، وهذا هو الإجماع. ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه.
  2. وإما شيء نُقِل نَقْل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله ؛ ككثير من السنن، وقد يجمع على بعض ذلك، وقد يختلف فيه؛ كصلاة النبي قاعدًا بجميع الحاضرين من أصحابه، وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر، يخرجهم إذا شاء، وغير ذلك كثير.
  3. وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغًا إلى رسول الله ؛ فمنه ما أجمع على القول به، ومنه ما اختلف فيه.

فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البته؛ ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري، ويقول بما لا يفهم، ويدين بما لا يعرف حقيقته. وبالله تعالى التوفيق، وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل” أ.هـ.

قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى معلقًا على كلام الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: “هذا الذي ذهب إليه المؤلف هو الحق في معنى الإجماع والاحتجاج به، وهو بعينه المعلوم من الدين بالضرورة. وأما الإجماع الذي يدعيه الأصوليون فلا يتصور وقوعه ولا يكون أبدًا وما هو إلا خيال. وكثير ما ترى الفقهاء إذا حزبهم الأمر وأعوزتهم الحجة ادعوا الإجماع ونبزوا مخالفه بالكفر، وحاش لله. إنما الإجماع الذي يكفر مخالفه هو المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة..”.

والحمد لله رب العالمين..