يطلق الفكر الإسلامي ويراد به كل ما أنتجه العقل الإسلامي من العلوم في تاريخ الإسلام، وهو مصطلح لم يكن متداولا عند العلماء السابقين ولم تَجْرِ عباراتهم على وصف العلماء والفقهاء بالمفكرين وإن كان العالم والفقيه وكل مشتغل بالعلوم النظرية مفكرا بالقوة والفعل. والفكر يُعَرَّفُ بأنه حركة النفس في المعقولات[1]، فكل ما يُجَالُ فيه النظر فهو فكر، وممارس هذا العمل العقلي يسمى مفكرا. ويعتبر علم أصول الفقه من أهم ما أنتجه العقل الإسلامي منذ مجيئ الإسلام وانتشاره في الآفاق وظهور حركة التأليف والعلم في العالم الإسلامي.

 وقد عرف العلماء علم أصول الفقه بتعريفات عديدة لا تخرج عن تعريف الإمام ناصر الدين البيضاوي الشافعي 685هـ[2] ، حين عرفه بالقواعد العامة والأدلة الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد[3]، فالحديث عن علم أصول الفقه هو حديث عن أدلة الفقه الإسلامي، أي القواعد التي تنظم الفقه الإسلامي من حيث البناء والأسس ومن حيث الاجتهاد والنظر، فأحكام الفقه الإسلامي يمكن تقسيمها إلى أحكام منصوص عليها ثابتة لا تتغير، وهي المعروفة في الدرس الأصولي بالمعلوم من الدين بالضرورة[4]، وإلى أحكام متغيرة وهي التي ينظر فيها الفقهاء ويستعملون قواعدهم الأصولية المختلفة في الاستنباطات الفقهية والنوازلية، ولذلك لا تسمى المسائل المجمع عليها والمتفق عليها مذهبا، بل المذهب هو اختيار الإمام المجتهد في المسائل المختلف فيها، فلا يقال مذهب مالك والشافعي وجوب الصلاة والحج لأنهما مسألتان منصوصتان متفق عليها لا خلاف فيهما بين الفقهاء قاطبة، إنما ينسب للمذهب ما ليس فيه قَطْعٌ كاختلافهم في حكم انتقاض الوضوء باللمس أو في حكم تقصير الصلوات في السفر وغير ذلك من مسائل الخلافيات التي تُلْفَى في كتب الخلاف العالي[5].

 وقد امتزجت مصنفات علم أصول الفقه بعلوم شتى كالعقيدة واللغة والنحو والمنطق والفلسفة، وذلك للتكامل المعرفي الذي يربط هذه العلوم كما هو مقرر في نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على التكامل والتداخل.

ورغم أن هذا العلم موضوعه الأدلة والأحكام[6] إلا أن المصنفات الأصولية لم تخل من الحديث عن العقائد نظرا لارتباط هذا العلم بالعقائد والاجتهادات الكلامية التي كانت سائدة بين المفكرين الإسلاميين[7]، فكان استمداد هذا العلم من علوم أخرى معروف ومقرر، وأهمها علم الكلام الذي أسسه مفكرو المسلمين من المعتزلة والأشاعرة[8] والماتريدية وغيرهم، ولذلك اصطلح أهل هذا الفن على وجود خمسة مدارس أهمها مدرسة الجمهور ومدرسة الفقهاء الأحناف[9]، والمدرسة الأولى هي المدرسة التي يمثلها علماء المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والظاهرية[10] والمذاهب الفقهية[11]، والمدرسة الثانية هي مدرسة الفقهاء الأحناف وهي تمثل في مجملها طرائق مختلفة في النظر والاستدلال والفكر.

 أما المدارس الأخرى فهي التي تُعْنَى بتخريج الفروع على الأصول[12] أو الجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء[13] أو مدرسة ربط أصول الفقه بالمقاصد الشرعية وهي الطريقة التي أبدع تحرير مسائلها الامام الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة.

ولأجل ذلك فإن المفكرين الإسلاميين معنيون بمعرفة علم أصول الفقه وجوبا وضرورة، لأن هذا العلم هو قانون الاستدلال وضابطه، ولا يمكن أن يوجد مفكر إسلامي ليس له إلمام بهذا الفن.

و لذلك كان الفكر الإسلامي يضم حقولا معرفية أصيلة أنتجها علماء المسلمين من دونها لا يمكن الحديث عن فكر إسلامي.

وهذا المكون للفكر الإسلامي يضم ثلاثة علوم:

-علم أصول الفقه الذي يضبط قانون الاستدلال الفقهي والكلامي.

-علم العقائد الذي يضبط أحكام المعتقد وقواعد الاعتقاد التي جرى الخلاف فيها بين المفكرين الإسلاميين.

-علم الأديان الذي يعد فرعا من فروع علم الكلام والعقيدة وهو اليوم يفرض نفسه في حقل المعارف الإنسانية نظرا لاختلاف الأديان ووجود حوارات وصراعات بين مختلف أهل الملل والنحل[14].

يخوض المفكرون الإسلاميون اليوم صراعات في مجالات معرفية متعددة، فقد ظهر في عصرنا الحديث عن موقف الإسلام من العلمانية والحداثة والأيديولوجيا والفكرانية[15] والتراث وفلسفة الدين والديموقراطية والحرية..، وهي مفاهيم لا يمكن الخوض فيها دون معرفة تامة بعلم أصول الفقه الذي يضبط قانون الاستدلال وإجراءاته العملية.

ولذلك نجد أغلب المفكرين الإسلاميين والعلمانيين اليوم خاضوا في هذا العلم، نذكر على سبيل المثال أسماء بارزة خاضت في هذا العلم مما يدل على أصالة هذا العلم في الفكر الإسلامي المعاصر وأهميته البالغة في بناء المفاهيم المعاصرة.

(حسن حنفي[16]-طه عبد الرحمن- حسن الترابي[17]-حمدي ذويب[18]-جورج طرابيشي[19] – عبد المجيد الشرفي[20]- حسن حنفي- محمد عابد الجابري– فهمي جدعان[21]- محمد شحرور[22])و غيرهم كثيرلا يحصون كثرة[23].

يقول الدكتور الجابري متحدثا عن الإمام الشافعي باعتباره واضع علم أصول الفقه في تاريخ الفكر الإسلامي من خلال كتابه الرسالة:

“إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي، عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة” وقد أطلق الجابري على هذه القواعد الأصولية اسم “العقلانية العربية الإسلامية”.”[24]

  ولا يخفى على الباحثين في حقل المعارف الإسلامية أهمية كتاب الرسالة للشافعي (204ه) إذ يعتبر هذا الكتاب النص المؤسس لعلم أصول الفقه قبل أن يظهر الإمام الباقلاني (404ه) من خلال كتابه التقريب والإرشاد والإمام أبو الحسين البصري( 436ه) من خلال كتاب المعتمد في أصول الفقه[25] .

  ومثل الجابري من المعاصرين الفيلسوف طه عبد الرحمن الذي خصص جزءا من كتبه ومشروعه الفكري للحديث عن أهمية أصول الفقه[26].

بل إن علم أصول الفقه كان محط اهتمام فقهاء القانون وكليات القانون، ولأجل ذلك كان عرفا أكاديميا تدريس مادة أصول الفقه لطلاب الدراسات القانونية.

وقد خصص كثير من العلماء كتبا أصولية يدرسها طلاب القانون، نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب أصول الفقه للعلامة الأزهري أبو زهرة وكتاب علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب الخلاف وهما كتابان كانا وما زالا محط اعتناء طلاب الدراسات القانونية في كليات الشريعة والقانون.

كما يمكن أن نذكر في هذا الصدد اعتناء الدراسات اللسانية بعلم أصول الفقه نظرا لارتباط هذا العلم الوثيق بعلوم اللغة[27].

كما لا يغيب عنا اعتناء المستشرقين بهذا العلم نظرا لأصالته في الفكر الإسلامي ونذكر على سبيل المثال أصول الفقه المحمدي للمستشرق الألماني جوزيف شاخت[28].

إن الحديث عن أصالة علم أصول الفقه في الفكر الإسلامي هو حديث عن مكانة هذا العلم في الدراسات الفكرية المعاصرة، فإن كان المتقدمون قد خاضوا  في كتبهم الأصولية معارك كلامية دارت رحاها حول قواعد علم الكلام المعتزلي والأشعري[29]، فقد أصبح تخصص الفكر الإسلامي يفرض  على الباحثين في حقل الدراسات الأكاديمية المعاصرة الإلمام بهذا العلم المِلِّي الشريف[30]، فكان علم أصول الفقه علما أساسيا في هذا الحقل المعرفي فلا نستغرب ظهور دعوات إلى تجديد علم أصول الفقه من مختلف التيارات والطوائف[31].

لأجل ذلك أردت في هذا المقال المختصر الإلماع إلى أهمية هذا العلم وأصالته في الفكر الإسلامي-القديم والمعاصر- وضرورة الاعتناء به في مختلف التخصصات الشرعية، فإذا ادعى الغزالي في المستصفى بأن من لا يعرف علم المنطق فلا ثقة في علومه، فيمكن الادعاء بأن من لا يُلِمُّ بعلم أصول الفقه فلا وجه لتسميته بالمفكر الإسلامي ولا انتساب له لهذا الحقل المعرفي المعاصر.


[1] أنظر رسالة الحدود للتفتزاني ص 15.

[2] منهاج الوصول ناصر الدين البيضاوي.

[3] منهاج الوصول للبيضاوي.

[4] أنظر حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات التنقيح للعلامة الطاهر ابن عاشور مبحث الإجماع.

[5] كتب الخلاف العالي ككتاب المغني لابن قدامة وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد ابن رشد.

[6] أنظر كلام صاحب المراقي الأحكام والأدلة الموضوع في شرح البنود.

[7] يظهر ذلك في الكلام عن التحسين والتقبيح العقليين وتكليف المعدوم والتكليف بالمحال وغيرها من المسائل الكلامية.

[8] صدر لي تحقيق كتاب العلامة القاضي الديباجي  كان حيا سنة478 الذي شرح به كتاب التمهيد للباقلاني وقد أوسعه مباحث أصولية رغم أنه مصنف في علم الكلام والعقيدة حيث شرح من خلاله كتاب الباقلاني العقدي المعروف بتمهيد الأوائل وتحرير الدلائل.

[9] و للأحناف عبارات خاصة في تعاريفهم ومن أهم كتبهم في أصول الفقه كتاب تقويم الأدلة في أصول الفقه للدبوسي 430هـ .

[10] الظاهرية منهج فقهي قائم على الحكم بظواهر النصوص التي تسع الأحكام ويعتمد نظرية معرفية يقينية قائمة على إنكار القياس المؤدي للظن في الاستنباط الفقهي وأهم رجالاته الامام ابن حزم الذي شهر المذهب، وهو مذهب سني معتمد في تاريخ المذاهب الفقهية السنية يحرم التقليد ويدعو إلى الاجتهاد.

 [11] أنظر الجامع لمسائل أصول الفقه  الدكتورعبد الكريم النملة ص7.

[12] مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للعلامة التلمساني المالكي.

[13] وهي طريقة ابن السبكي في جمع الجوامع.

[14] علم مقارنة الأديان من العلوم الأصيلة في تاريخ الفكر الإسلامي أنظركتاب الفكر الإسلامي في الرد على النصارى عبد المجيد الشرفي.

[15] يطلق طه عبد الرحمن مصطلح الفكرانية على مفهوم الأيديولوجيا  مقابلا به مصطلح عبد الله العروي.

[16] خصص له كتابا ضخما سماه من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه مكون من جزأين(تكوين النص-و بنية النص).

[17] له رسالة مشهورة في تجديد أصول الفقه.

[18] مفكر علماني كتب في الاجماع حاول جاهدا إنكار حجية الاجماع متعسفا في استعمال الأدلة لخدمة أطروحته العلمانية.

[19] من خلال مشروعه النقدي نقد نقد العقل العربي.

[20] عبد المجيد الشرفي مفكر تونسي علماني له كتاب الفكر الإسلامي في الرد على النصارى وبحوث حول أصول الفقه أنظر الإسلام بين الرسالة والتاريخ الصادر عن دار الطليعة، وثلاثية لبنات الصادرة عن  دار المدار الإسلامي .

[21] من خلال كتابه المهم أسس التقدم عند مفكري الإسلام وقد صدر بطبعات عديدة آخرها طبعة الشبكة العربية للأبحاث.

[22] من الانتقادات الموجهة للمهندس محمد شحرور محاولاته التجديدية للفقه الإسلامي من خلال القفز على قواعد هذا العلم، وقد كتب في ذلك كتابه نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي فقه المرأة حيث ظهر في كتابه تسيب منهجه الاستدلالي الفوضوي وخوض في الفقه الاسلامي من غير دراية بأصوله مما شكل له تخبطا في المنهج الذي نتج عنه آراء فقهية شاذة.

[23] و بحكم تخصصي في علم أصول الفقه من خلال الكتابة فيه وممارسة التدريس لمتونه، فقد فتح عيني على دراسات فكرية نذكر منها سؤال الدين والأخلاق في الغرب الإسلامي بين مشروعي طه عبد الرحمن وعبد الله الجابري والعقائدية في الحوار الإسلامي العلماني من خلال أعمال طه عبد الرحمن وعبد الله العروي وكتاب  المنهج الأصولي للإمام المتكلم أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري.

[24] أنظر تكوين العقل العربي 89ص .

[25] وبعدهما ظهر البرهان للجويني والمستصفى للغزالي وهما يعتمدان على الباقلاني وقد تناولت في كتابي المنهج الاصولي مقالة ابن خلدون حول مدار كتب هذا العلم وقمت بنقدها لأنها اهملت واغفلت  كتاب التقريب والارشاد للباقلاني وهو معتمد الجويني والغزالي، صدر الكتاب عن دار الخزانة الأزهرية.

[26] أنظر تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن وكتاب مداخل تجديد علم أصول الفقه عند طه عبد الرحمن للدكتور أحمد مونة.

[27] نذكر في هذا الصدد كتاب دراسات تداولية في أصول الفقه -العموم والخصوص- للباحث سعود الزدجالي الصادر عن دار الفارابي.

[28] طبع في دار المدار الإسلامي كما أن للمستشرق المعاصر وائل حلاق دراسات جديدة في أصول الفقه تستحق الدراسة والنظر.

[29] و قد جرت محاولات معاصرة إلى تخليص علم أصول الفقه من المباحث الكلامية العقدية في ثوبيها المعتزلي والأشعري ونسبتها إلى مصطلح أهل السنة والجماعة وهي محاولات متهافتة تفتقر إلى المنهجية العلمية لأنها أقصت وأغفلت نظرية التكامل المعرفي في العلوم مع محاولة الانتصار لعقائد أهل الحديث.

[30] نسبة إلى الملة الإسلامية وهو مصطلح جرى تداوله عند الفيلسوف أبي الحسن العامري في كتابه الإعلام عن مناقب أهل الإسلام.

[31] ظهرت دراسات عديدة تحاول بيان ماهية التجديد الأصولي وقد ناقشته في كتابي المنهج الأصولي  للإمام الباقلاني .