القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي أوحاه إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم، ورضيه منهجًا خاتمًا لعباده حتى قيام الساعة.. ونحن مأمورون بتلاوته وتدبره وتفهمه، بما يعيننا على الاستقامة في الفكر والسلوك..

حول مشروعية القراءة المتجددة للقرآن الكريم، وضوابطها، ومزالق القراءات المعاصرة؛ التقى “إسلام أون لاين” بالأكاديمي المصري الدكتور خالد فهمي، أستاذ اللغويات بكلية الآداب، جامعة المنوفية، والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.. والذي له رؤية وإسهام في تفعيل القراءة المتجددة للكتاب العزيز، وذلك عبر كتابه الذي صدر مؤخرًا: (كأن القرآن يتنزل من جديد)..

فإلى الحوار:

 

كيف ترون الحاجة إلى قراءة متجددة للقرآن الكريم؟

في سياق الحديث عن هذا السؤال، هناك مشكل كامن وراءه، وهو أن الله سبحانه وتعالى شاءت إرادته أن الوحي ينقطع، بموجب اعتقادنا نحن المسلمين؛ فالقرآن آخر نُسَخ الوحي من السماء.. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عاش المسلمون ما يزيد على أربعة عشر قرنًا حتى يومنا هذا، وهذه المدة الزمنية الطويلة بها عديد من المشكلات والتحديات والصراعات.. فلو أن الوحي مازال يتنزل طوال هذه المدة، إذن لم تكن ثمة مشكلة؛ لأن الوحي حينئذ كفيل بمعالجة ما يطرأ خلال تلك الفترات من مشكلات وتحديات.

أَمَا وقد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم، فهنا ثمة إشكال، وهو أن القرآن الكريم لابد أن يستجيب لمطالب الأجيال القادمة، فيمنحها منهجًا وآلياتٍ ووسائلَ وطرقًا لعلاج المشكلات الحادثة.. فهذا أول سبب حقيقي لفكرة الدعوة إلى تدبر القرآن من جديد، وتجديد قراءته باستمرار..

يضاف إلى ذلك بُعْد تاريخي نستفيده من سلوك المسلمين عبر أجيالهم المتتالية، وهو أن معاودة النظر في القرآن الكريم على هَدْي المشكلات الجديدة سنةٌ ثابتة في الاجتماع الإسلامي.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر القرآن معالِجًا مشكلات راهنة هي مشكلا جيل التلقي، وهذا التفسير مرصود في كتب السنة النبوية، فنجد عند البخاري وغيره بابًا يسمى (باب التفسير)، وهو نشاط النبي صلى الله عليه وسلم في تنزيل القرآن الكريم على مطالب واحتياجات العصر الأول.. لكن في زمن الصحابة وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنهم لم يكتفوا بما عرفوه من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، بل أخذوا يضيفون إلى ذلك تفسيرًا خاصًّا بهم: (تفسير الصحابة)، وهذا يعني أحد أمرين: إما أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير كان ناقصًا؛ وهذا أمر محال عليه صلى الله عليه وسلم.. وإما أن ثمة جديدًا حدث دفعهم ليعاودوا النظر في كتاب الله على هَدْي مطالب الجيل الجديد؛ وهذا هو السبب المقبول لظهور (تفاسير الصحابة) بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.. وأيضًا لظهور (تفاسير التابعين) بعد تفاسير الصحابة. وكذا لظهور كتب متعددة من التفاسير في كل جيل لاحق بعد الجيل السابق.. حتى يومنا هذا.

فظهور تفاسير جديدة متتالية لا يعني قصور التفاسير السابقة عليها، وإنما يعني أن جيل اللحظة الراهنة من حقه أن يستخرج مطالبه وحلَّ مشكلاته من القرآن الكريم؛ وهذا لا يكون إلا بقراءة متجددة للكتاب العزيز.

ويمكن أن نضيف سببًا ثالثًا للسببين السابقين- اللذان هما سببان عقليان- يُستفاد من منهج الشريعة وأصول التفسير.. هو أن علماء القرآن يقررون أن النشاط التفسيري قائم على عمودين: عمود ثابت لا يتغير، وهو تفسير القرآن بموجب قواعد اللسان العربي: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3)، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28). وقواعد اللغة لا تتغير إلا إذا ماتت اللغة أو اختُرقت وغُزيت؛ وهو أمر غير حاصل في اللغة العربية.

أما العمود الثاني فهو قواعد الزمان. وابن عباس رضي الله عنهما له قول مهم، هو أن القرآن يفسره الزمان؛ أي أن على كل جيل من أجيال المسلمين المتلاحقة أن ينظر في الكتاب العزيز على هَدي من مشكلات هذا الجيل (أي الزمان)، ثم يفهم هذه المشكلات في أصول قواعد اللسان.. وبتطبيق هذين الأمرين يَنتج لنا تفسيرٌ جديد: متفقٌ مع القدماء في الأصول اللغوية وما تقتضيه، ومختلفٌ عنهم في أنه يستجيب لمشكلات هذا الجيل الراهن.

فمن حيث مقتضيات العقل وموجبات أصول التفسير، نحن بحاجة إلى تدبر جديد للقرآن الكريم.

 

القول بضرورة هذه القراءة المتجددة للقرآن الكريم، ألا يفتح الباب أمام تطويع النص القرآني للواقع، أو لإسقاط الواقع عليه؟

بشكل نظري، نعم كل قراءة جديدة تحتمل هذا الهاجس؛ لكن، وكما أشرنا، عندنا في أصول التفسير “عمود ثابت”، أُشبِّهه بكتلة مغناطيس ضخمة تستطيع أن تجذب إليها قطعة الحديد المتغيرة الدائرة في فلكها.. فمتى تنحرف قطعة الحديد؟ تنحرف إذا خرجت عن المجال المغناطيسي..

إذن، متى تنحرف القراءة الجديدة؟ وما هي حدود المرونة المسموحة لها؟ إنها حدود اللسان العربي الذي يُشبه قطعة المغناطيس.. وهذه الحدود هي العمود الثابت الذي لا يتغير.. أما العمود المتغير فهو قواعد الزمان.. فإذا ابتعدنا عن المجال المغناطيسي، أي قواعد اللسان، انحرفنا.. وبسبب هذا الابتعاد عُرِف في تراثنا التفسير الشاذ، أو التفسير الباطني، أو غير المقبول.

فأحد شروط التفسير ألا نستخرج شيئًا مخالفًا لما كان يُعرف من دلالات الألفاظ ساعة نزول القرآن الكريم.. وكمثال على هذا، فإن “الزنا” محرم في الإسلام بنصوص ثابتة قطعية الثبوت والدلالة، ومعناه اللغوي معروف وواضح.. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الأنعام: 32).. فإذا جاء أحدهم- كما في بعض التفسيرات الشيعية والباطنية- وفسره بأنه ليس إلقاء نطفة رجل في رحم من لا تحل، وإنما إلقاء العلم لمن لا يستحق؛ فإننا نحكم على هذه القراءة بالرفض والشذوذ ولا نقيم لها وزنًا؛ لأنها خالفت المعنى اللغوي المعروف من كلمة “الزنا” المرادة بالتحريم بنصوص ثابتة لا لبس فيها.

أما إذا فهمنا بأن الآية السابقة تفيد أيضًا تحريمَ مشاهد التعري، أو تحريم الميوعة في الكلام، أو تحريم استعمال المرأة المتعرية في الإعلانات- وهذه حادثة جديد لم تكن معروفة ساعة تنزل القرآن- فإننا نعتبر هذه القراءات صحيحة، ومازالت تدور في “المجال المغناطيس”، أي في دائرة الدلالات اللغوية المعروفة للآية الكريمة؛ فبين هذه المشاهد والإعلانات، والزنا: جزء مشترك؛ هو التعري.. كما أن الميوعة في الكلام سبيل إلى الفاحشة.

 

إذن، ما أهم الضوابط التي ينبغي الالتزام بها حتى نُبقي على أصالة النص القرآني ومعاصرته في آن واحد؛ أي بعيدًا عن تجميد النص أو تجاوزه؟

تتمثل أهم هذه الضوابط في ضابطين أساسيين، كما أشرنا، وهما مستمدان من تعريف القرآن الكريم تعريفًا موجزًا بأنه (كلام الله).

فالضابط الأول يتعلق بكون القرآن (كلام)، من أول الصوت إلى النص.. وهذا الكلام عربي؛ فينبغي أن يُفهم في ضوء ما تمليه قواعد اللغة العربية، من حيث الدلالة والاشتقاق وغير ذلك. فمثلاً، الجملة الاسمية التي لا توجد بها قريبة زمنية، تكون منفتحة على الزمان؛ فإذا قال القرآن {اللَّهُ أَحَدٌ}، فهذا يعني أن الله أحد في الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يجوز ادعاء تخصيص دلالة الآية بزمانٍ ما.

أما الضباط الثاني فيتعلق بكون القرآن (كلام الله)، أي يُفهم في ضوء كونه وحيًا مُنزَّلاً من الله، وليس مجرد كونه (كلام).. وهذا ما تكفل ببيانه علوم القرآن؛ من الناسخ والمنسوخ، أسباب النزول، المكي والمدني، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد، وغير ذلك.

ثم نضيف لهذين الضابطين ضابطًا ثالثًا، وهو مقاصد القرآن؛ المتمثلة في رحمة الناس، وهداية الناس، وتعاون الناس.. والقرآن بالأساس هو كتاب هداية لا علوم (Science)؛ وإن كانت فيه إشارات عن الجغرافيا والتاريخ والجيولوجيا وغير ذلك، لكن بهدف خدمة الأساس الذي أعلن عنه.. وينبغي أن نحترم اعترافات النص القرآني عن نفسه إذ يقول في مفتتحه: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، كما قال فيما أُمرنا أن ندعو به ونردده في صلواتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6).

فإذا دعوتُ إلى المحافظة على النسيج الوطني الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم، وإلى أن يتضامن أصحاب الرسالات السماوية الذين يشتركون في تقرير فكرة الألوهية وفكرة الوحي وفكرة النبوة، ضد غيرهم ممن لا يؤمنون بذلك.. إذا دعوتُ إلى هذا انطلاقًا من قوله تعالى في سورة الروم {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1- 5)، فأنا مُحقٌّ في دعوتي؛ لأن الله سمَّى انتصار أصحاب وحي سماوي على عبدة النار: نَصْرًا له؛ أي حين انتصر الروم على الفرس.. ودعا المسلمين إلى الفرح بدائرة قريبة من دائرتهم الدينية؛ حيث انتصر من يشتركون معهم في عدة مبادئ على آخرين لا رابطة مشتركة تجمعهم مع المسلمين.

فدعوتي هنا تتفق مع مقصد من مقاصد القرآن، وهو تعاون الهويات المتقاربة، ممن يؤمنون بالإله وبالوحي؛ فهم أقرب إلى بعضهم البعض ممن ينكر هذه المبادئ.

أما من يزعم بأن هذه الآيات خاصة بمكة، وبالتالي غير صحيح ما يمكن أن يُستنبط منها من دلالات معاصرة.. فنرد عليه ادعاءه بأنه يقيد النص القرآني بلا دليل، ويخالف مقاصد القرآن.

بقي لنا ضابط رابع، وهو عدم مخالفة إجماعات القرآن الكريم.. وهو ضابط مهم جدًّا.. فمثلاً، القرآن الكريم له مراد من تحقيق العدل؛ ومن ثم، فكل ممارسة تتجه إلى الظلم هي ممارسة حرام، وأيُّ تطويع للنص القرآني في هذا الاتجاه هو تطويع حرام؛ لأن القرآن الكريم دائمًا يمتدح العدل ويذم الظلم، حتى لو كان في سياق الفصل بين مسلم وغير مسلم، مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء: 105)، الذي أنصف يهوديًّا من مسلم.

 

من الملاحظ أن القراءات المعاصرة في تجديد الفكر والدعوة، حتى تلك التي يختلف معها البعض، تحاول أن تنطلق من القرآن الكريم، وأن تُوجِد لها مظلة من توجيهاته ومقاصده.. ما دلالة ذلك؟

لاشك أن هذا يدل على “مركزية” القرآن الكريم.. ونحن نجد أن “أصول الفقه“، كمجال علمي محدد، هو أول علم لفت إلى مركزية القرآن، بوصفه المرجعية الحاكمة.. بل قبل “أصول الفقه” نجد القرآن ذاته قد عبَّر عن نفسه تعبيرًا دقيقًا جدًّا ساعة وَصَفَ نفسه في إطار “مصادر المعرفة” بأنه (مُهيمِنًا عليه)، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48).

فمصادر المعرفة متنوعة جدًّا، تتمثل في الحس، الملاحظة، عمل العقل، الحَدْس، المعرفة القلبية، إضافة إلى الكتابات وعلى رأسها الكتب السماوية. والقرآن الكريم جعل نفسه مهيمنًا على كل مصادر المعرفة السابقة والمعاصرة واللاحقة؛ انطلاقًا من حقيقة ثابتة واضحة، وهي أن الله عز وجل الذي أنزل الكتاب العزيز هو العلَّام العليم العالم المحيط القيوم.. إلى آخر تلك الصفات التي تعني أنه سبحانه محيط بعلم السابق وبعلم الآن وبعلم الغد.

فجاء الأصوليون وجعلوا القرآن الكريم في قمة المصادر المتفَق عليها، يليه السنة النبوية، يليهما الإجماع.. وذلك عند كل المذاهب الفقهية؛ ثم تختلف المذاهب بعد ذلك فيما يلي هذه المصادر الثلاثة.

ثم حدث بعد ذلك توسيع لهذا النطاق الذي تحكمه المرجعية؛ بحيث لا يكون فقط في الإطار التشريعي المحدود المتعلق بالأحكام، وإنما انتقل إلى الفكر، وانتقل في وقت مبكر للغاية.. فنجد ابن رشد، في كتابه الشهير (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، يقول: “يجب علينا إن ألفينا [أي وجدنا] لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات، واعتبارًا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان؛ أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه؛ وما كان منها غبر موافق للحق نبَّهْنا عليه، وحذَّرْنا منه، وعذرناهم”.

فالقراءات المتفِقة مع القرآن الكريم والمختلفة معه تعي جيدًا فكرة “مركزيته”.. لكنني أستطيع أن أفرز- في إطار الفكر وفي إطار الحركة- بين من يستدعي القرآن الكريم مرجعيةً حاكمة لضبط النظر والحركة، ومَنْ يستدعيه مرجعيةً مراوغة لتمرير أفكار انحرافية.. وهذا الوعي يتحقق من خلال الضوابط الأربعة السابقة.

 

ثمة قراءات كثيرة حاولت الاقتراب من النص القرآني بمنظار مختلف؛ مثل محمد أركون، محمد شحرور، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبوزيد.. كيف ترون هذه القراءات، وماذا عما بينها من اتفاق وافتراق؟

في البداية، أنا ضد تكفير أي حركة اجتهادية.. دعنا نشتغل على المنجَز لا على الأفراد.. ويمكن القول بأن محاولات التجديد في التفسير حديثًا بدأت بمحاولات الإمام محمد عبده، فقد صنع تفسيرًا جديدًا، واستكمله من بعده تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا وإن كان تُوفي قبل أن يتمّه.. وكانت جهود محمد عبده منصبةً على ما يشغل الأمة في ذلك الوقت، وهو علاقة الإسلام بالعلم، وإزالة التناقض بينهما؛ فبدأ بتفسير بعض الآيات على ضوء العلم؛ مثل تفسير الحسد تفسيرًا علميًّا فيزيائيًّا، والطير الأبابيل بالجراثيم.. ووقف العلماء ضد ذلك على قاعدة الضوابط التي أوضحناها سابقًا؛ وهي أن قواعد اللسان العربي وبعض قواعد التنزيل لا تسمح بمثل هذه التفسيرات.. ورأينا هجومًا قاسيًا على الإمام محمد عبده بسبب ذلك، لكن دون تكفير.

واستمر هذا النوع من النظر الجديد في القرآن الكريم حتى انتهى إلى اتجاهين أساسيين؛ الأول: يتمثل فيمن يدخل إلى القرآن الكريم بِنِيَّة سابقة وليس له تأهيل. وأشهر هذه النماذج د.مصطفى محمود رحمه الله في كتابه (القرآن.. محاولة لفهم عصري)، ووجد من العلماء من يرد عليه، مثل د.بنت الشاطئ رحمها الله. ود.مصطفى محمود رجل رجَّاع إلى الحق، ولهذا لم يُدرجه أحد ضمن الكتابات المخرِّبة للنشاط التفسيري.

أما الاتجاه الثاني: فيتمثل في المذكورة وغيرهم.. وإذا بدأنا بنصر حامد أبو زيد فلن نجد له نشاطًا تفسيرًا، وإنما كانت له اجتهادات في إطار معرفته ببعض العلوم العربية، وتخصصه الأساسي البلاغة.. ولما طبّق ذلك في كتابه الشهير (مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن)، حدثت منه بعض الأخطاء؛ التي لم تكن تمثل مشكلة كبرى، لولا أنه مدَّ الحبل على آخره وبدأت هذه الاجتهادات والأخطاء تنال من ثوابت القرآن ضمن الرؤية الماركسية للقرآن، ليس كنشاط تفسيري له، وإنما باعتبار القرآن مرجعية.

فالقرآن الكريم في تصور أبوزيد- وهو ابن بار للتفسير الماركسي للنصوص والتاريخ- كتابٌ يُتجاوَز، يُقرأ في إطار لحظة تاريخية واحدة. وهذا هو الفخ الذي يقع فيه من لم يفهم بشكل صحيح حقيقة الرسالة الخاتمة وانقطاع الوحي.. فيظن القرآن كتابًا تاريخيًّا، أو تاريخانيًّا كما يقول الماركسيون.. لكنه لو فهم أن الله تعالى جعل نظم القرآن الكريم بطريقة معجزة تجعله عابرًا للزمان حتى لو انقطع الوحي، لما وقع في أخطائه.

وهذا ينطبق على محمد عابد الجابري.. لكنه أقل الأسماء المذكورة في منحنى “الانحراف”؛ وذلك من جانبين؛ الأول: أنه لم يقصد النيل من القرآن، وإنما هو يهتم بمراجعة طبيعة العقل العربي وعمل العقل العربي على مستويات البيان، والأخلاق، وسؤالات التراث.. وكتب تفسيرًا للقرآن في إطار هذه المراجعة، وحسب أسباب النزول، وهو مدخل مشروع في إعادة القراءة للقرآن.. لكن لأنه ليس من ذوي الاختصاص في قواعد اللسان (كتلة المغناطيس)، وإنما في الفلسفة؛ حدثت منه أخطاء، لكنها ليست أخطاءً قصدية.

كما أن هذه الأخطاء- وهذا هو الجانب الثاني- ليست ضمن أعمال مؤسسة تهدف إلى إسقاط التصور الإسلامي اعتمادًا على القرآن! كما هو حال آخرين، مثل محمد أركون ومحمد شحرور؛ اللذين توافر عندهما نية والعمد والقصد، بمحددات وقرائن لا حصر لها؛ مثل التمويل، الإقامة في الغرب الفرنسي، وجود مؤسسات داعمة مثل (مؤمنون بلا حدود)، الإلحاح على هدم ما توارثته الأمة من نظام اللسان في النشاط التفسيري.

فالأمر مختلف كلية مع أركون وشحرور، ولا يمكن أن ندرج أعمالهما ضمن الاجتهاد والمقبول.. لأنهما يريدان تطبيق مناهج نقدية غربية على القرآن، دون اعتبار أن هذه المناهج صيغت للتعامل مع (الكتاب المقدس)؛ الذي هو ذو طبيعة تاريخية ولغوية مغايرة تمامًا لطبيعة القرآن الكريم..

ولهذا، فإن الغربيين أنفسهم يقرون بحقيقتين أساسيتين: استحالة استعادة النص الأصلي للإنجيل؛ لأنه لا وجود للإنجيل الأصلي في العالم… إضافة إلى وجود أكثر من 36 ألف فرق بين نسخ الإنجيل في العالم!! وللتفصيل في ذلك يمكن الرجوع لكتاب سامي عامري (استعادة النص الأصلي للإنجيل في ضوء قواعد النقد الأدنى.. إشكاليات التاريخ والمنهج)، والذي يذكر فيه أن الغربيين أنفسهم يعترفون بذلك، على العكس من النصارى العرب الذين مازالوا يجادلون في تحريف الإنجيل!

فقواعد التأويل التي يتبعها أركون وشحرور ظهرت في مناخ علمي يفيد بأن نص الإنجيل ليس هو النص الأصلي.. أما القرآن الكريم فهو من ساعة أنزل حتى يومنا هذا نصٌّ ثابت منزَّه عن التحريف، زيادةً أو نقصانًا.. فكيف يجوز أن نستخدم مناهج واحدة في التعامل مع القرآن والإنجيل؟!

ونضيف إلى هذا الخلل في التسوية بين القرآن الكريم وغيره، الغرضَ أو الهوى أو التوظيف أو القصد إلى الإضرار.. وهو الأمر الذي لا يظهر بالوضوح نفسه عند آخرين كما عند أركون! هناك حالة حفاوة كبيرة، ودعم لوجستي غير محدود لنموذج أركون في اغتيال النص القرآني وهدم النموذج المعرفي في التعامل معه.

 

ما الذي حرصتم على إيصاله من خلال كتابكم (كأن القرآن يتنزل من جديد)؟

حرصت في هذا الكتاب على حزمة مقاصد:

أولاً: أنا مؤمن بأن القرآن الكريم هو المرجع الحاكم للأمة، ويستطيع أن ينتشلها من أزماتها ومشكلاتها. وهذا الإيمان النظري ينبغي أن يواكبه إيمان عملي بالتشغيل. فكان هذا الكتاب الذي به نظرات متفرقة تنبثق من عدة آيات بحثًا عن تدبر وتأمل جديد.

ثانيًا: أنا مؤمن بقيمة تخصصي العلمي، اللسانيات، والذي أعتبره “العمود الثابت” للنظر في الكتاب العزيز.. وقد أردت إصدار هذا الكتاب على خلفية دارس متخصص.. والمسلمون في عهودهم السابقة لم يكونوا يكتبون في النظرية اللغوية بمعزل عن التطبيق، بل كان اللغويون لهم نشاط تفسيري.. فابن فارس وهو واحد من أعظم من أسسوا نظرية فقه اللغة في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)، له نشاط تفسيري، وقد جُمع تفسيره مؤخرًا.. وابن جني، مشغِّل قواعد النظرية اللغوية على شروح المتنبي، وعلى شروح أرجوزة أبي نواس.

ثالثًا: يبقى العالِم المسلم نموذجًا مختلفًا لشخصية العالم، في أنه أقرب للموسوعية.. أي يمزج بين المجال الشرعي واللغوي والتجريبي.. وهذا نموذج مستمَد من طبيعة القرآن الكريم؛ الذي هو كتاب شريعة، ويدعوك أن تفهم الشريعة بالدليل وبالعلوم العربية، كما يطلب منك تطبيق ما فهمته وتعلمته..

وهذا تجلَّى في كتابي، الذي حاولت التعبير به عن توظيف تخصصي اللغوي وتشغيله في هدايات القرآن، قاصِدًا التجريب والتطبيق.. وأنا بصدد إصدار طبعة ثانية له بعد إضافة ما يقرب من ثلث حجمه الأصلي، مع تنقيح وتعديل.. وقد أردتُها أن تكون طبعةً ثانية، لا جزءًا ثانيًا؛ حتى تكون أقرب لفكرة “إعادة القراءة” له.. هذه الإعادة التي نطالب بها على نحو أوسع فيما يتصل بالقرآن الكريم.