إذا أردت أن تعرف أقسام الربا أو أنواعه فليس من السهل الوصول إلى ذلك من خلال الكتب الفقهية القديمة.
ولكن الفقهاء في جميع المذاهب متفقون على حديث الأصناف الستة : الذهب، الفضة، البُرّ، الشعير، التمر، الملح.
ومتفقون على تقسيم هذه الأصناف الستة إلى فئتين : فئة الذهب والفضة، وفئة الأصناف الأربعة الباقية.
ومتفقون على أن مبادلة الصنف بالصنف نفسه، في أي فئة من الفئتين، يُمنع فيها الفضل والنَّساء، وعلى أن مبادلة صنف من فئة بصنف آخر في الفئة نفسها يُمنع فيها النَّساء ويجوز الفضل، وعلى أن مبادلة صنف من فئة بصنف من الفئة الأخرى يجوز فيها الفضل والنَّساء، بل يجوز فيها أيضًا الفضل لأجل النَّساء.
فلو أراد الشارع منع الفضل لأجل النَّساء في الذهب بالقمح لمنع النَّساء كما في الذهب بالفضة.
لم يختلف الفقهاء في هذا وإنما اختلفوا في علة الربا، والقياس على الأصناف الربوية الستة، أو الأصناف الواردة في كل من الفئتين : فئة الذهب والفضة، وفئة الأصناف الأربعة الأخرى.
وفي بداية المجتهد عقد ابن رشد في الربا ثلاثة فصول :
– فصل لما يُمنع فيه الفضل والنَّساء.
– فصل لما يجوز فيه الفضل ويُمنع النَّساء.
– فصل لما يجوز فيه الفضل والنَّساء ( بداية المجتهد 2/96 ).
وكثير من الفقهاء يستخدمون النسيئة والنَّساء بمعنى واحد، وقليلون منهم من يميزون بينهما، وأنا أقترح في هذه الورقة الأخذ بهذا التمييز.
هل ورد لفظ ” النَّسيئة ” في القرآن ؟
قال تعالى : ” ما ننسخْ من آية أو نُنْسِها نأتِ بخير منها أو مثلِها ” ( البقرة 106 ). وفي قراءة : ” نَنْسأها “، أو ” نُنْسِئْها ” ( معجم القراءات 1/243 )، أي نؤخرها أو نؤخر نسخها. والقراءة الأخيرة الثالثة أقرب في الرسم للقراءة الأولى.
وفي القرآن أيضًا : ” إنما النَّسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يُحِلّونه عامًا ويُحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرَّم الله فيُحِلّوا ما حرّم الله ” ( التوبة 37 ). النسيء : تأخير شهر إلى شهر، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يجعلون المحرَّم مكان صفَر فيؤخرونه إليه.
وفيه أيضًا قول الله تعالى عن سليمان : ” فلمّا قضينا عليه الموت ما دلَّهم على موته إلا دابّةُ الأرض تأكلُ مِنْسأته فلمّا خَرّ تبينت الجنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المُهين ” ( سبأ 14 ). والمِنسأة : العصا يؤخّر بها الشيء (مفردات القرآن للراغب ص 804، وعمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 4/192 )
لعل المقصود : تأخير اكتشاف الموت كما في الآية، والله أعلم. وربما لا يصلح استخدام لفظ ” المِنسأة ” إلا في هذه الحالة، وربما يصلح استخدامه في جميع الحالات، وإن كان الأصل ما ذكرناه.
الخلاصة أن ” النسيئة ” لم ترد في القرآن في البيع أو الدَّين أو الربا، إنما وردت في تأخير آية أو تأخير نسخها، أو في تأخير الشهر الحرام، أو في العصا التي أخّرت اكتشاف الموت.
لكن ورد في القرآن لفظ ” الدَّين “، وهو بمعنى النسيئة. يقال : باعه بالنسيئة : أي باعه بالدَّين. قال تعالى : ” إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمّى فاكتبوه ” ( البقرة 282 ). كذلك ورد لفظ الدَّين في سورة النساء، في الآيتين 11 و 12 المتعلقتين بالمواريث والوصايا.
هل ورد لفظ ” النّسيئة ” في السنّة ؟
نعم. قال رسول الله ﷺ : ” لا ربا إلا في النسيئة “، أو : ” إنما الربا في النسيئة ” ( صحيح البخاري 3/98، وصحيح مسلم 4/109 ). وهذا يعني أن النسيئة مظنّة الربا، سواء أكان ربا نسيئة أم نَساء، فإذا لم يكن في المبادلة نسيئة، أي كانت المبادلة يدًا بيد، فلا نسيئة ولا نَساء. ومن ثم فإن ربا الفضل قد لا يحرم إلا إذا اجتمع مع ربا النَّساء.
وقد يجتمع معه في عقد واحد، أو يكون في عقد آخر، كاجتماع بيع وسَلَف، فيزاد في البيع لأجل السَّلَف. فهذه الزيادة في البيع هي الفضل الممنوع، سواء تم التوصل إليه في مبادلة ذهب بذهب ( وما شابه )، أو في مبادلة ذهب بقمح.
فإذا كانت هناك زيادة في مبادلة ذهب بذهب فهذا هو ربا الفضل الصريح الممنوع، وإذا كانت هناك زيادة في مبادلة ذهب بقمح فهذا في حكم ربا الفضل الممنوع، إذا اتُخِذتْ حيلةً للربا.
واعلم أن مبادلة ذهب بذهب هي مبادلة ربوية يُمنع فيها الفضل والنَّساء معًا، وأن مبادلة ذهب بفضة هي مبادلة ربوية يُمنع فيها النَّساء دون الفضل، وأن مبادلة ذهب بقمح هي مبادلة عادية غير ربوية يجوز فيها الفضل والنَّساء، ويجوز فيها أيضًا الفضل لأجل النَّساء، ومن هنا قال الفقهاء في البيع : إن للزمن حصة من الثمن.
هل ورد لفظ ” النَّساء ” في القرآن ؟
لم يرد بهذا اللفظ في القرآن، والقول هنا كالقول هناك في ” النسيئة “.
هل ورد لفظ ” النَّساء ” في السنّة ؟
نعم. قال رسول الله ﷺ لما سئل عن الصرف : ” إن كان يدًا بيد فلا بأس، وإن كان نَساءً فلا يصلح ” ( صحيح البخاري 3/72 )، وفي رواية أخرى : ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا ( صحيح مسلم 4/100 ). وربما يكون هذا الحديث الذي رواه البخاري أصلاً عند الفقهاء للقول بربا النَّساء. ذلك لأن البدلين في الصرف لا يجوز تأجيل أي منهما سواء كان هناك فضل ( زيادة ) في البدل المؤجل أو لم يكن. فإن كان هناك فضل كان هناك ربا نسيئة، وإن لم يكن هناك فضل كان هناك ربا نَساء. ويجب أن نلاحظ أن الصرف ضرب من ضروب البيع، لا يجوز فيه ربا النَّساء، أما في القرض فيجوز لأن القرض قائم على الإحسان، والبيع قائم على العدل، كما سبق أن قلنا.
ربا النَّساء لم يكن معروفًا
ربا النَّساء كما قال الجصاص في أحكام القرآن لم تكن تعرفه العرب. وربما لا يعرفه كثير منهم حتى اليوم. وربا النَّساء جاء في السنّة، في أحاديث الربا، صراحة بالاسم إما في نصوص الشرع أو في نصوص الفقهاء. وفهمه عند الناس أصعب من فهم ربا النسيئة. حتى إن كثيرًا من ” العلماء ” ظنّوا أن 100 دينار اليوم بـ 100 دينار بعد سنة ( قرضًا ) ظنوا أن هذا من العدل، وحقيقته أنه من الإحسان.
كذلك فإن كثيرًا من المفسرين ظنّوا أن قوله تعالى : ” لا تَظلمون ولا تُظلمون ” في سورة البقرة، يعني أن القرض إذا ردّه المقترض إلى المقرض كان هذا من العدل الذي لا ظلم فيه للمقترض ولا للمقرض. والحق أن هذا من الإحسان، ولولا ثواب الله للمقرض لكان المقرض مظلومًا. ومن ثم فإن معنى ” لا تَظلمون ” أي بالزيادة على رأس مال القرض، أما ” لا تُظلمون ” فمعناها : لا تُظلمون بالثواب، أي إن ثواب المقرض في القرض سيكون على قدر إحسانه في مبلغ القرض ومدته.
وبهذا ترى أن ربا النَّساء يدقّ فهمه حتى على العلماء قديمًا وحديثًا. وربما يدخل هذا في قول الغزالي ( – 505هـ ) بأن مسألة الربا من أغمض المسائل، وقول ابن كثير ( – 774هـ ) بأن باب الربا من أشكل الأبواب على أكثر أهل العلم، وقول الشاطبي ( – 790هـ ) بأن الربا محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين ، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم.
يؤيد ذلك ما فعله بعض العلماء أيضًا، منهم ابن القيم ( -751هـ )، من تقسيم الربا إلى ربا جليّ وربا خفيّ، وجعلوا ربا النَّساء من الربا الخفيّ. ولا شك أن ربا النسيئة هو من الربا الواضح الذي لاشك فيه كما قال الإمام أحمد، أما الخفي أو المشكل في الربا فهو ربا البيوع، بل هو بالتحديد ما يتعلق بالعلة والقياس على الأصناف الستة الواردة فيه. فمن العلماء من رفض القياس، ومنهم من قاس، ولكنهم اختلفوا في علة القياس. هذا الاختلاف هو الذي يدخل في المسائل الغامضة والمُشْكِلة.
* مأخوذ من دراسة “النَّسيئة والنَّساء هل هما بمعنى واحد ؟” تأليف د. رفيق يونس المصري.