رضي من دينه وأمانته، بأن يقال: سبق الحاج” قالها عمر رضي الله عنه؛  منكرا حال من يكون همه أن يتحدث الناس عنه، وأن يكون اسمه على الألسنة، وفي المجامع والأندية، ولو كان سبيله إلى ذلك غير مرضي شرعا.

أخرج مالك في الموطأ: “أَنَّ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ يَشْتَرِي الرَّوَاحِلَ، فَيُغْالِي بِهَا، ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ , فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ، فَأَفْلَسَ، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه -، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الأَسَيْفِعَ، أُسَيْفِعَ([1]) جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجَّ، أَلاَ وَإِنَّهُ دَانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ قَدْرِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ، نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ غرمائه، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ.”.([2])

 قوله: (دان معرضا، أو ادَّانَ مُعْرِضًا) كما في رواية أخرى: يعني استدان معرضا، وهو الذي يعترض الناس، فيستدين من كل من يمكنه الاستدانة منه.

 ومعنى (رين به)، أي: وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، وفيما لا قبل له به.

وقوله: و(إياكم والدين) تحذير منه رضي الله عنه، وذم للدين ” الذي تستعمل فيه الغفلة عن خوف عواقبه، وترك التحفظ منها حتى يعود من هو عليه إلى الأحوال المذمومة التي نزل مثلها بالأسيفع، والتي عسى أن يكون عواقبها في الآخرة أغلظ من ذلك”.([3])

وهذا الأثر أيضا، قد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب بزيادة: أن عمر رضي الله عنه قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا لا يغرنكم صيام رجل ولا صلاته ولكن انظروا إلى صدقه إذا حدث، وإلى أمانته إذا اؤتمن، وإلى ورعه إذا استغنى ثم قال: ألا إن الأسيفع…”.([4])

وشراح الحديث قد خاضوا فيا يتعلق به من أحكام فقهية حول: التفليس، ومعاملة صاحبه في ماله، وما يباع عليه وما يترك، ونحو ذلك مما يتعلق به من أحكام، ولم يقفوا كثيرا عند هذا المعنى التربوي العظيم الذي تضمنه قول عمر رضي الله عنه عن أسيفع جهينة بأنه: “رضي من دينه وأمانته، بأن يقال: سبق الحاج“.  وعمر إنما قال ذلك زجرا له وتحذيرا لغيره من إتيان هذا الأمر، فقد رضي الأسيفع بأن يقول الناس: سبق الحاج، عوضا مما أتلفه من دينه وأمانته بإتلاف أموال الناس فيما لم تكن له ثمرة إلا تحدث الناس بسبقه، إذ كان يسبق الحاج، فيشتري أحسن الرواحل وأسرعها بثمن غال في ذمته؛ ليصل قبل غيره.

وهذا داء يتسلط على بعض النفوس التي لم تتشرب بالإيمان ولم تمتلئ بالحكمة، فيكون همها المفاخرة، وأن يدور ذكرها على ألسنة الناس فحسب، ولم تحسب للعواقب حسابها.

ولو كان سبيلها إلى ذلك مشروعا، لما حمد فعلها لضعف الهمة، ورخص المقصد، فكيف إذا كانت مطيتها إلى ذلك، ظلم، أو إهدار كرامة، وإتلاف أمانة، وتضييع دين.

نجد اليوم -بعدما يزيد على ألف وأربعمائة سنة من حادثة الأسيفع وإغلاظ عمر له القول في ذلك-، من يسير على نفس المنهج ويسلك ذات السبيل.  نجد من يستدين من البنوك أو من الناس- وهو لا يجد وفاء- ليحج أو يعتمر في أغلى الحملات، لماذا؟ ليقول الناس: حج فلان في الحملة الفلانية الفخمة، أو سكن في أفخم الفنادق حول الحرم. وهكذا، ثم بعد ذلك، لا يجد ما يسدد به الدين ويؤدي به حقوق الناس فيعرضها للتلف والضياع.

وقد رضي من دينه وأمانته أن يقول الناس: كيت وكيت. فرضي الله عن عمر لقد كان ملهما كما أخبر عنه الصادق المصدوق: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ “([5]).

والمحدث هو الملهم الذي يجري الصواب على لسانه أو يخطر بباله الشيء فيكون بفضل من الله تعالى وتوفيق.

ويؤكد ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عمر أن النبي -صلي الله عليه وسلم -قال: “إن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جعل الحق على قلب عمر ولسانه”([6]).

إن مبالغة الناس في المظاهر، وصرفهم للأموال الطائلة، والتكلف من أجل ذلك رياء وسمعة، خلل كبير، لا بد من معالجته، ولا سيما إن ترتب عليه تضييع حقوق الناس وأموالهم.

ولا ينحصر هذا في مجال أو حالة بعينها كالحج، أو العمرة مثلا، بل لا حد للحالات ولا حصر للأساليب.

فمناسبات الزواج مثلا، مجال رحب لهذه الداء، رغم ما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة أدناها: أن يثقل المرء كاهله بالديون، فلا يجد صفو الحياة، ولا سعادة الزوجية بسبب تبعات ذلك الدين وهمه.

 ضف إلى ذلك أن المغالات، والمبالغة في تلك الأمور من أسباب انتشار العنوسة وكثرة الطلاق لما يترتب من مفاسد على تلك الحفلات والرحلات، وشهر العسل وغير ذلك مما هنالك.

والغالب كون مقصد من يأتي تلك الأمور هو: أن يقال لصاحبها مثل ما قيل للأسيفع: سبق الحاج، ومثلها في واقعنا اليوم، فعل فلان فيما أتى به من مهر، أو هدايا، أو حفلة الزواج، أو في التطواف في شهر العسل ببلدان العالم، أو في الوليمة التي دعى الناس إليها، أو في السيارة الفاخرة التي اشتراها، أو القصر الذي بناه، فعل مالم يفعل غيره وأتى بما لم تأت به الأوائل.

وساعد على انتشار هذا الداء واستفحاله، تسهيل البنوك ومؤسسات التمويل المختلفة، للقروض والمعاملات التمويلية، فصار المرء يأخذ من المال ما شاء بفوائد عظيمة وأرباح عالية ولا يبالي، ثم يتعثر في السداد فتضاعف البنوك التجارية فوائدها الربوية، وترفع البنوك الإسلامية القضية إلى المحاكم، وقد تكون النهاية إلى السجن.

 كما أن وسائل التواصل الحديثة، ساهمت هي الأخرى في تعزيز هذا الأمر وانتشاره، فما يأتيه المرء من هذه الأمور يصوره في حساباته المختلفة وينشره ليتحدث الناس عنه. فيغار الفقير من الغني، فيسعى لمطاولته.

ولا هم لأكثر أولئك، ولا غاية إلا أن يقول الناس فيهم قولا حسنا، ولكن ما ذا لهم بعد.

لا شك أن بعضهم قد يشمله الوعيد العظيم الوارد في حديث أبي هريرة المشهور. قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أن الله تبارك وتعالى ‌إذا ‌كان ‌يوم ‌القيامة ‌ينزل ‌إلى ‌العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال.

فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟

قال: بلى يا رب.

قال: فماذا عملت فيما علمت؟

قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت،

وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك،

ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟

قال: بلى يا رب،

قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق،

فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت،

ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟

فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت،

فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء ، فقد قيل ذاك “، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة»([7]).

لا بد من تصحيح النية، ورفع الهمة، وتحسين المقصد، فإنما لكل امرئ ما نوى.

ولا بد من علاج هذا الداء، والتحذير منه كما حذر منه الملهم الفاروق بقوله: “رضي من دينه وأمانته، بأن يقال: سبق الحاج”.


[1] – أسيفع تصغير أسفع والأسفع هو الذي أصاب خده لون مخالف لسائر لونه من سواد.

[2] الموطأ حديث رقم: 2685. لكنه رواه بسند منقطع وقد وصله الدارقطني في العلل: 2/ 147.

[3] – شرح مشكل الآثار للطحاوي: 11/73.

[4] – التلخيص الحبير لابن حجر: 3/104.

[5] – صحيح البخاري، حديث رقم: 3469.

[6] – مسند أحمد،  حديث رقم: 5697 .

[7] – رواه الترمذي حديث رقم: 2382 ، وصححه الألباني.