قبل الحديث عن سكرات الموت ، إنّ الأرواحَ التي أودعها اللهُ في أجسادنا مخلوقةٌ بلا شك، وهي لا تعدمُ ولا تفنى، ولـكنَّ موتَها بمفارقةِ الأبدان، وعندَ النفخةِ الثانية تُعادُ إلى الأبدانْ، وقد دلَّتْ على ذلك الأحاديثُ الدالةُ على نعيمِ الأرواحِ وعذابها بعد مفارقةِ الأجسادِ إلى أن يُرجِعها الله إليها، وقد أخبر سبحانه أنَّ أهلَ الجنةِ ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾ [الدخان: 56] وتلك الموتةُ هي مفارقة الروح الجسدَ. وقد ذَكَرَ لنا كتاب الله وسنة نبيه الحالات التي تمر بها الأرواحُ عند خروجها من الجسد، ثم مآلها وحالها في حياة البرزخ، وفي هذا المقال نتحدث – من خلال آيات القرآن الكريم – عن صفة خروج روح المؤمن وهي التي تخرج بسهولةٍ ويسر، ويُبَشَّرُ عند ذلك بالنعيم والجنان والسعادة فيفرحُ وتقُّر عينُه.

أولاً: قال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *﴾ [يونس: 62 ـ 64]، وفي قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة﴾:

الأول: الرؤيا الصالحةُ يراها المسلم أو تُرَى له.

والثاني: المراد بذلك بشرى الملائكةِ للمؤمن عند احتضارهِ بالجنة والمغفرة، ويدلُّ على هـذا حديث البراء رضي الله عنه عن رسول الله (): «إنّ المؤمنَ إذا حَضَرَهُ الموتُ، جاءه ملائكةٌ بيضُ الوجوهِ، بيضُ الثيابِ، فقالوا: اخرجي أيتُها الروحُ الطيّبةُ إلى رَوْحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان، فتخرجُ تَسِيلُ كما تسيلُ القَطْرَةُ مِنَ في السقاءِ ».

وكِلا المعنيين صحيح، ولا تعارُضَ بين هذيْنِ التفسيرين[اليوم الآخر في القرآن العظيم والسنة المطهرة ص، 58].

قال ابن كثير: يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيًّا كان لله وليًّا  فلا خوفٌ عليهم أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة ولا هم يحزنون على ما وراءهم في الدنيا. [تفسير ابن كثير – ط العلمية، 4/ 242].

قال السَّعدي رحمه الله: أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.

وأما في الآخرة، فأولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبَّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونْ}

وفي القبر ما يُبشِّرُ بهِ مِنْ رضا الله تعالى والنعيم المقيم.

وفي الآخرة تمام البشرى بدخولِ جناتِ النعيم، والنَّجاة من العذاب الأليم [تفسير السعدي، ص 368].

وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأنٍ وفي كلِّ عمل وفي كل حركة أو سكون وهمْ أَولياءُ الله، والمؤمنونَ بهِ الأتقِيَاءُ المراقبونَ لهُ في السِّرِّ والْعلنْ. أولياءُ الله هم المؤمنون حقَّ الإيمان والمَّتقون حقَّ التقوى، والإيمان ما وقرَ في القلبِ وصدَّقهُ العمل، والعملُ هو تنفيذُ ما أمر الله به واجتناب ما نهى اللهُ عنه [في ظلال القرآن، 11/1804].

ثانياً: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *﴾ [فصلت: 30 ـ 31]، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ أي: أخلصوا، وفي قوله تعالى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، يُبَشَّرونَ عند خروج أرواحهم، وفي القبر، ويومَ خروجهمْ مِن قبورهم، قال تعالى: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *﴾ [الأنبياء: 103].

 وقوله: ﴿أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ أي: ممّا تَقْدُمُونَ عليهِ مِن أمرِ الآخرةِ على ما خلَّفتمُوهُ من أمرِ الدُّنيا من ولدٍ وأهلٍ ومالٍ أو دَيْنٍ، فإنّا نخلفنكم فيه فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير.

ثالثاً: قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *﴾ [النحل: 31 ـ 32].

يُخبِرُ الله تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنَّهم طيِّبون، أي: مخلَّصون من الشِّرك والدنس وكل سوء، وأنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم، وتبشرهم بالجنة، وأن وفاتهم تكون طيبة سهلة، لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما تُقبضُ بهِ روح الكافر والمُخلِّطِ.

قال ابن الجوزي رحمه الله: وفي وقت نزولها عليهم قولان: أحدهما: عند الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد فعلى هذا في معنى «أَلَّا تَخافُوا» قولان:

أحدهما: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، قاله مجاهد. والثاني: لا تخافوا على ما أمَامكم، ولا تحزنوا على ما خَلْفكم، قاله عكرمة، والسّدي. والقول الثاني: تتنزَّل عليهم إذا قاموا من القبور، قاله قتادة فيكون معنى «أَلَّا تَخافُوا»: أنهم يُبشِّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة. [زاد المسير في علم التفسير، 4/ 51].

{كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} لسخطِ اللهِ وعذابه، بأداء ما أوجبه عليهم من الفروض والواجبات المتعلقة بالقلب والبدن واللسان من حقه وحق عباده، وترك ما نهاهم الله عنه.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} مستمرِّين على تقواهم {طَيِّبِينَ} أي: طاهرين مطهرين من كل نقص ودنس يتطرق إليهم ويدخل في إيمانهم، فطابت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته وألسنتهم بذكره والثناء عليه، وجوارحهم بطاعته والإقبال عليه، {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: التَّحيَّةُ الكاملة حاصلة لكم والسلامة من كل آفة. [تفسير السعدي، ص439].

وقد سلمتم من كل ما تكرهون {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الإيمان بالله والانقياد لأمره، فإن العمل هو السبب والمادة والأصل في دخول الجنة والنجاة من النار، وذلك العمل حصل لهم برحمة الله ومنته عليهم لا بحولهم وقوتهم. [تفسير السعدي، ص439].

رابعاً: قال تعالى: ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *﴾ [الفجر: 27 ـ 28]، وهـذا يقالُ لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضاً، كما أنَّ الملائكة يبشّرون المؤمنَ عند احتضاره، وعند قيامه من قبره، فكذلك ها هنا.

يقال ذلك للنفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: يا أيتها النفس المطمئنة ‌ارجعي ‌إلى ‌ربك أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته راضيةً أي في نفسها مرضية أي قد رضيَتْ عن الله ورضيَ عنها وأرضاها فادخلي في عبادي أي في جملتهم وادخلي جنَّتي وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هاهنا. [تفسير ابن كثير، 8/ 390].

خامساً: قال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ *وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *﴾ [الواقعة: 88-91].

هـذه الأحوالُ الثلاثةُ: هي أحوالُ الناسِ عند احتضارهم: إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممّن دونهم من أصحاب اليمين، وإمّا أن يكون من المكِّذبين بالحقّ، الضَّالِّين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله، ولهـذا قال تعالى: أي المحتضر وهم من فعلوا الواجباتِ ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *﴾، وتركوا المحرّمات والمكروهاتِ وبعضِ المباحاتِ، قوله: أي فلهم رَوحٌ ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾، وتبشِّرهم الملائكةُ بذلك عند الموت ﴿فَرَوْحٌ﴾، أو الراحة من الدنيا، والروح: الفرح جنةٌ ورخاءُ فرحمة ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾. وكلُّ هـذه الأقوال متقاربةٌ صحيحةٌ، فإنَّ مَنْ مات مقرَّباً حصل له جميع ذلك من الرحمة، والراحة، والاستراحة، والفرح، والسرور، والرزق الحس أي: لا يموتُ أحدٌ من الناسِ حتّى يعلمَ مِنْ أهلِ الجنّةِ هو أَمْ مِنْ أهل النار بذلك، تقول لأحدهم: سلامٌ لك، أي لا باسَ عليك، أنتَ إلى سلامةٍ، أنتَ من أصحاب اليمين.

ويكون السلام على المؤمنين عند ثلاثة مواضع: عند قبض روحه في الدنيا، يسلم عليه ملك الدنيا، وعند مساءلته في القبر، يسلم عليه منكرٌ ونكيرٌ، وعند بعثه في القيامة، تسلِّمُ عليه الملائكةُ قبلَ وصوله إلى الجنة، ويكونُ ذلك إكراماً بعد إكرام.


المراجع:

تفسير ابن كثير، أبو الفداء ابن كثير، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1419ه.

تفسير السعدي، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، 2000م.

زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج ابن الجوزي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1422ه.

اليوم الآخر في القرآن العظيم والسنة المطهرة، عبد المحسن المطيري.

الإيمان باليوم الآخر، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير الطبعة الأولى.