في  كل نظام أرضي أو سماوي هناك حدود يقف الناس عندها  يضعها العرف أو العادات أو القانون أو الشرع وتقدر عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى بمقدار رعايته للحرمات التي يسميها البعض خطوطا حمراء.  شهر رجب يذكرنا بالحرمات فهو أحد الأشهر الحرم، وكانت هناك حرمات يراعيها العرب قبل الإسلام، منها حرمة القتال في الأشهر الحرم فإذا دخل شهر رجب نزعوا الحديد الذي في رأس السهم والرمح تعبيرا عن رغبتهم في وقف الحرب مع شدة تعلقهم بأخذ الثأر وتسميتهم للعدوان غزوا.  

كانت العرب تراعي حرمة هذه الأشهر دون وجود مؤسسات دولية توقع العقوبات على المخالفين أو تهدد بها، ولا جهات رقابية كانوا يراعونها تحقيقا للسلم والأمن واحتراما لما ورثوه من دين إبراهيم عليه السلام.

بقي احترام الأشهر الحرم في الاسلام على معنى أوسع مما كان عند العرب، قال ربنا عن الأشهر الحرم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ[1].

حرمات كثيرة ينبغي على المسلم أن يراعيها في الأشهر الحرم وفي غيرها  على رأسها:

حرمة المسلم  فالتأكيد على رعاية حرمات  المسلمين هي من آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع “أَلاَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا[2] ولاشك أن آخر الوصايا هي أهمها  بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف المسلم والمؤمن بقوله:”الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ[3]. فالمسلم والمؤمن هو الذي يراعي حرمات الآخرين فلا يعتدي عليهم بلسانه أو بيده>

راعى الإسلام حرمة المسلم فأوجب احترام التكريم الإلهي له وفي هذا السياق يأتي قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].

وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الاعتداء على هذه الحرمات يؤدي إلى الإفلاس «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[4]، وما أشد حسرة من يمضي عمره في جمع الحسنات ويراها أمام عينه ثم يأتي من يأخذها منه في وقت هو أشد ما يكون حاجة إليها.

حرمة المال: صان الإسلام أموال الناس كما صان أعراضهم وتوعد من ينتهك حرمة المال بوعيد شديد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [النساء: 29-30].

قال صلى الله عليه وسلم «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ».قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللهِ؟قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ. وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ. وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ». قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ[5]. هذا الوعيد الشديد يدخل في القلوب الرعب ويمنعها من الاقتراب من أموال الغير بالرشوة أو بالاحتيال أو بسائر الوسائل والذرائع التي يعتدي بها الناس على أموال بعضهم البعض.

حرمة الجيرة: فهي صمام أمان المجتمعات وقد عرفها العرب في جاهليتهم فمن  شعر عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي     حتى يواري جارتي مأواها

وجاء الإسلام ليؤكد على رعاية حرمة الجار عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»[6] [شروره] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من جار السوء  الذي إذا علم شرا أذاعه وإذا علم خيرا كتمه.  

حرمة الزواج: أكد  الإسلام على حرمة الزواج  فسمى الرابط بين الزوجين ميثاقا غليظا، وبين أن ما يستحله الزوج من أهله ليس بسبب المهر أو غيره، بل بما عبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ[7]. كل هذه النصوص وغيرها يؤكد على حرمة هذه العلاقة، فلا يصح أبدا أن يجعل الرجل من العلاقة الخاصة بينه وبين أهله مادة للحديث بين الرجال أو تجعلها المرأة أداة للتسلية بين النساء، ولا يصح أبدا لكل صاحب دين أو خلق رجلا كان أو امرأة أن يتحدث بالسوء عن من شاركه حياته أثناء التحضير للطلاق أو بعده فهذا ليس من شيم الكرام.

حرمة الصداقة: العرب تقدر لتناول الطعام قدره فتقول: “من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك”، فما بالنا بالمشاركة في الآلآم والآمال والأفراح والأحزان ما بالنا بصداقة تدوم لسنين، ثم بعد ذلك يتحقق في أحد الصديقين أو فيهما معا شيئا من صفات المنافقين فيغدر بعهده ووعده ويفجر في الخصومة ويكشف كل سر ائتمنه عليه صاحبه.

هذه الحرمات وغيرها يذكرنا شهر رجب وغيره من الأشهر الحرم برعايتها وصونها من عدوان النفس الأمارة بالسوء وتحريض شياطين الإنس والجن على انتهاكها، فالعالم أصبح غابة وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وينبغي دائما أن تمتلك زمام المبادرة وأن تكون يدك هي الطولى، هذه الأفكار الخبيثة هل يجد الشيطان شرا منها لكي يحرض الإنسان على الإثم والعدوان وهما من أقصر السبل لنيل غضب الله تعالى.

طريقنا لتحقيق عبوديتنا لله تعالى يمر عبر رعاية المحارم قال صلى الله عليه وسلم:” اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ”[8]،  والتعبير باتقاء المحارم  يرشد إلى ضرورة  الانتباه وأخذ الحذر فإن النفوس تقترب من المحارم شيئا فشيئا حتى تغرق فيها.

والناس إزاء المحارم أقسام، فمنهم من يجاهرون بانتهاكها ويفاخرون بذلك بين من يعرفون ومن لا يعرفون، وآخرون تسفلوا فأحبوا أن ينتشر ارتكاب المحارم بين الناس حتى لا يظهر انحرافهم عن الصراط المستقيم، وقسم ثالث يقع في المحارم في لحظات ضعف أو بسبب بيئة فاسدة، ولهؤلاء نسوق قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

نحتاج إلى تعلم ما حرمه الله حتى لا نقع فيه بغفلة أو سوء فهم، ونحتاج مع العلم بما أحله الله وما حرمه أن نملأ  القلوب بمحبة الله تعالى ومهابته وتعظيم أمره ونهيه.

كلما راعينا الحرمات راعى غيرنا حرماتنا وحسبوا ألف حساب قبل أن يغضبونا. كلما راعينا حرمات الله تعالى في رجب وفي غيره من الأشهر، كانت قدرتنا على لجم من يفكر في الاعتداء على مقدساتنا.