لله تعالى في التاريخ أيام يخفض فيها ويرفع ويعز ويذل ، ومن هذه الأيام عاشوراء حين  نجى الله موسى وقومه من فرعون وجنده ، وفي نجاتهم آيات مبهرة تدل على قدرة الله تعالى وقيوميته على الكون ونصرته لعباده الصالحين، وإذا أردنا أن نعرف بعض نعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام المتعلقة بنجاتهم في عاشوراء علينا أن نقرأ قوله عز وجل ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾.

  نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة ورد منها في هاتان الآيتان: نعمة تحقيق الكرامة الإنسانية ، والانعتاق من أسر يضيق الخناق على النفوس والأرواح وعلى الأديان والأبدان ، ونعمة انتقال القيادة من البغي إلى العدل ، وتحول النعم من يد من لم يعرف ربه ولم يشكر فضله إلى عباد الله الصالحين الذي يطيعون ربهم ويحفظون عهده ويقفون عند حدوده.

أصل الاحتفال بعاشوراء ونشأته

وقد عبر النبي عن مشاعره تجاه هذه اليوم العظيم من أيام الله تعالى فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : “مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ ” فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ. أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ. وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. ‌فَصَامَهُ ‌مُوسَى ‌شُكْرًا. فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ” فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ . وَأَمَّرَ بصيامه.» ومن الجدير بالذكر قول الإمام النووي :« كَانَ يَصُومُهُ كَمَا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ فَصَامَهُ أَيْضًا بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوِ اجْتِهَادٍ ‌لَا ‌بِمُجَرَّدِ ‌أَخْبَارِ ‌آحَادِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ»[1]

مفهوم الشكر في الإسلام وأهميته

إن الشكر عبادة عظيمة تدل على وجود عين بصيرة تدرك ما منحنا الله تعالى من إحسان وفضل ، ولعل العبد الشاكر حين يتأمل في نفسه يكتشف مواهب في أعماقه تظهرها أقدار الله تعالى وابتلاءاته ، وكم من نعم موجودة في ذواتنا لم نشعر بها من قبل قد تظهر في أوقات المحن وقد تحتاج إلى شخص آخر يكتشفها، وقد تحول اكتشاف المواهب إلى فن متخصص له أهله الذين خبروا النفس الإنسانية. وبعد التأمل في النفس وإدراك ما وهبنا الله تعالى من نعم على المسلم الذي يحب بقاء هذه النعم وتنميتها حتى تزداد وتتسع أن يشكر الله تعالى بلسانه وقلبه وجوارحه.

وقد جعل الله تعالى مقابل الشكر الكفر  ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الزمر: 7], على المسلم أن يشكر الله باللسان والقلب والجوارح. 

تصنيف النعم: حسّية وروحية

نعم حسية: وإذا نظرنا إلى نعم الله تعالى علينا وجدنا منها ما تدركه الحواس من زوجة وأبناء ومال وعافية وجاه وغير ذلك من نعم خاصة بالعبد وحده ونعم أخرى عامة لكل بني آدم مؤمنهم وكافرهم طائعهم وعاصيهم وكل يؤخذ منها وفق ما قسمه الله تعالى له.

نعم روحية : وهناك نعم روحية هي سبب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة؛ كالهداية للإسلام ، والتوفيق للعمل الصالح ، والمعونة من الله تعالى للعبد على ذكره سبحانه وشكره وحسن عبادته ، والمحبة في قلوب الخلق ، ونعمة معرفة الله تعالى بآثار قدرته ومظاهر رحمته وإحسانه للمخلوقات ، ونعمة العلم النافع الذي يدل على الله وييسر الحياة الإنسانية ، واختيار أحسن الأقوال من بين ما نسمع من غث وسمين.

النعم التي تنزل على غيرنا : وهناك نعم نزلت على أقوام لم نرهم ، بيننا وبينهم قرون طويلة ، ومع هذا البعد الزماني والمكاني فإن من سنة نبينا أن نشكر الله تعالى على هذه النعم التي لم نرها ولم تنزل علينا.

صيام عاشوراء كدرس للوحدة الدينية

لقد تعود الناس على شكر الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ، ولكنهم يشكرون الله على النعم التي تصيبهم وينتفعون بها ، بينما في عاشوراء نحن نشكر الله تعالى على نعمة نجاة بني إسرائيل وبيننا وبينهم – بل بين النبي والزمن الذي عاش فيها موسى وقومه  – عشرات القرون ،فلماذا نشكر الله تعالى على نعمة لم تنزل علينا ومر عليها مئات السنين؟؟!!

هذا الشكر الذي نقوم به من خلال عبادة صيام عاشوراء يعبر عن المعنى العميق للوحدة الدينية بين الموحدين والارتباط بينهم مهما كانت الفواصل الزمانية والمكانية وهو أحد الدروس العظيمة التي نستفيد منها في صيام عاشوراء.وهذه الوحدة بين المؤمنين بالله تعالى أتباع الأنبياء تمتد عبر التاريخ كما تمتد عبر الجغرافيا .

إن النبي ومن معه حين صام عاشوراء شكرا لله تعالى على نجاة موسى وقومه ، يلفت أنظارنا إلى أحد معاني الإيمان التي ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا وهي  الشكر على انتصار الإيمان وخذلان الكفر ، فكل خطوة يخطوها المؤمنون في مشارق  الأرض ومغاربها تزداد فيها قوتهم وترتفع رايتهم ويعلو الحق وينتشر نوره ويخبو الباطل ويخيب سعيه كل ذلك نعم تعود على أهل الإيمان، عليهم أن يقدروها قدرها وأن يشكروا الله تعالى عليها فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ، وإذا فرح منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالتهنئة وشكر الله عز وجل ، قال الإمام النووي: « قد يكون من شرعه تعظيم الأيام التي تظهر فيها الرسل ويُدِيلُ الله لهم على الكفرة، واستحسان الصوم فيها.»[2]

وقال الإمام العيني «في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام إنما صامه شكرًا لله عز وجل في إظهاره موسى على فرعون»[3]

الشكر عن طريق العبادات

لقد سن لنا النبي طريقا لشكر الله عز وجل على النعم العظيمة ؛فلما منّ الله تبارك وتعالى على نبيه بمغفرة ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر،  كانت إحدى أدوات  شكر النبي على هذه النعمة العظيمة هي قيام الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتين ،ولما سأل عن سبب هذا الاجتهاد في العبادة ،قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟[4]

ولما منّ الله تعالى على نبيه بنعمة الكوثر، وهو حوض عظيم من شرب منه مرة لم يظمأ بعدها ، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن ،وجّهه الله تعالى للشكر عن طريق عبادتي الصوم والنحر ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 1-2] 

الشكر عن طريق عدم مظاهرة المجرمين

﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص: 17]  قال الشيخ ابن عاشور :«دل هذا النظم على أن موسى أراد أن يجعل عدم مظاهرته للمجرمين جزاء على نعمة الحكمة والعلم بأن جعل شكر تلك النعمة الانتصار للحق وتغيير الباطل ،لأنه إذا لم يغير الباطل والمنكر وأقرهما فقد صانع فاعلهما، والمصانعة مظاهرة.»[5]

ولأن الشكر منزلة عزيزة لا يستطيع الوصول إليها إلا الصالحون من عباد الله تعالى قال سبحانه ﴿وقليلٌ مِنْ عِبادي الشَّكُورُ﴾ [سبأ:13].

تنزيل PDF