شهر شعبان شهر الاجتهاد في القربات والطاعات، لأنه موسم فاضل ينال الإنسان فيه بركة الوقت بأنواع من العبادات المشروعة اقتداء بسلف الأمة، وتمهيدا لاستقبال شهر رمضان وتمرينا على الأعمال الصالحة. ومما يستلخص مما أودعه ابن رجب في كتابه “لطائف المعارف” عن وظائف شهر شعبان، أنه قسم هذه الوظائف إلى ثلاثة مجالس، وافتتح المجلس الأول بتفضيل صيام شعبان على أشهر السنة غير رمضان مستندا ومستدلا بالحديثين الأساسين الواردين في الباب.

الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وإنها قالت: ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان

ويقول ابن رجب مبينا وجه المفاضلة من الحديث بصيغة السؤال والجواب:” فإن قيل: فكيف كان النبي يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم”؟

فكان جوابه من جهة الأثر والنظر: أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم.

1- أما الأثر: ففي سنن ابن ماجة: أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله : “صم شوالا” فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات. فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم.

2- أما النظر: فكان التفضيل كذلك لشهر شعبان لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي له دون شوال، فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.

فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها؛ فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لما ينقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده

الحديث الثاني: حديث أسامة رضي الله عنه وإنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام:” ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.

صيام شهر شعبان وحِكمه وفوائده
تمور للصائمين

وقد استنبط الحافظ ابن رجب من هذا الحديث بعض معان دقيقة وفوائد جليلة وهي:

أولا: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه،وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك لما روي عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا؟ فقال: “فأين هم عن شعبان”.

ثانيا: وفي قوله عليه الصلاة والسلام: “يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان” إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.

ثالثا: فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر. فكذلك من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.

ماهي فوائد إحياء ساعة الغفلة بالطاعة؟

1- أن إحياء وقت الغفلة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد.

2- أن أفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها. ولهذا المعنى قال النبي “للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون”.

3- أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.

قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.

وهذه المعاني والفوائد المستخلصة من الحديث كانت من دوافع إكثار النبي لصيام شعبان، ثم نبه ابن رجب على أمر فقهي في غاية الأهمية وهو أن:

شهر شعبان فرصة لقضاء الصوم الفائت فرضا أو نافلة

كان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة وما فاته من قيام الليل بالنهار، فكان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان، فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي ، فإن المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه.

فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين.

ومن كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة، فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء.

وإن كان ذلك لغير عذر فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا، وهو قول الجمهور اتباعا لآثار وردت بذلك.

وقيل: يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة.

وفي آخر هذا المجلس أشار الإمام ابن رجب إلى حكمة أخرى جراء صوم شعبان، ألا وهي أن:

صيام شعبان كالتمرين على صيام رمضان

 أنه يستحب للإنسان أن يبدأ بالصيام في شعبان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان؛ من الصيام، وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.

وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء

وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء

وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.

مضى رجب وما أحسنت فيه

وهذا شهر شعبان المبارك

فيا من ضيع الأوقات جهلا

بحرمتها أفق واحذر بوارك

فسوف تفارق اللذات قسرا

ويخلي الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا

بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السلامة من جحيم

فخير ذوي الجرائم من تدارك