اهتم المسلمون بدراسة الظواهر الطبيعية واجتهدوا في تحليل أسبابها وبيان كيفية حدوثها، ولا غرابة في ذلك فقد تعرضت ديار الإسلام منذ ظهورها إلى سلسلة من الظواهر والكوارث من أوبئة وفيضانات وزلازل استدعت محاولة تفسيرها وبيان سبل مواجهتها، ومن تلك الظواهر التي توقفوا أمامها بالبحث ظاهرة الزلازل في التراث، وفي السطور التالية نعرض لأسباب الزلازل كما رآها العلماء والفلاسفة المسلمين، وكيف دون حوادثها المؤرخون، وكيف تعامل الناس معها.

الزلازل: وصف وتفسير

الزلزلة في كلام العرب هي تحريك الشيء، وفي التنزيل الحكيم (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي حُركت حركة شديدة، وتسمى الزلزلة أيضا الرجفة، ويقال: رجفت الأرض رجفا، أي اضطربت، والراجفة: الأرض ترجف أي تتحرك حركة شديدة.

ويكاد يتفق علماء الشريعة مع الفلاسفة في تعليلهم لأسباب الزلازل في التراث، فيقول ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): “الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب وحِكم.. وأما أسبابه: فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق فإذا انضغط طلب مخرجا فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض”، وهو ما يعني أنه يرى أن الزلازل تحدث لأسباب جيولوجية في طبقات الأرض السفلية، وهو لا يتوقف عند إيراده هذا السبب العلمي لكنه ينفي كذلك بعض الخرافات التي يفسر بها العامة هذه الظاهرة فيقول:

ابن سينا

” وأما قول بعض الناس: إن الثور يحرك رأسه فيحرك الأرض فهذا جهل وإن نقل عن بعض الناس وبطلانه ظاهر فإنه لو كان كذلك لكانت الأرض كلها تزلزل وليس الأمر كذلك” وهنا نلحظ لجوء ابن تيمية إلى البرهان العقلي في تفنيد خرافات العامة وعدم اكتفائه بذكر بطلانها.

ويقتفي أثره تلميذه ابن القيم الذي يصور كيفية حدوث الزلازل على النحو التالي: “لما كانت الرياح تجول فيها، وتدخل في تجاويفها، وتحدث فيها الأبخرة، فتختنق الرياح، ويتعذر عليها المنفذ، أذن الله سبحانه لها في بعض الأحيان بالتنفس، فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم.

وإذا كان ابن القيم يفترض أن الخشية من الله والإنابة إليه هو ما ينبغي أن يفعله المرء حيال الزلازل فإن ابن تيمية يفصل في كيفية التعامل مع الأسباب خيرها وشرها بطريقة بديعة فيقول: “هذه السُنة في أسباب الخير والشر: أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب الله به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر، فأما ما يخفى من الأسباب فليس العبد مأمورا بأن يتكلف معرفته؛ بل إذا فعل ما أمر به وترك ما حظر كفاه الله مؤنة الشر ويسر له أسباب الخير.

هكذا صاغ علماء الشريعة قواعد أو “سنن” حسب توصيف ابن تيمية في التعامل مع الظواهر المختلفة، وهذا الجهد منهم لئلا يكون الإنسان خاملا في مواجهة الظواهر، حتى وإن كانت خارجة عن إرادته، ولا تقع ضمن دائرة فعله.

على الجهة المقابلة فسر بعض فلاسفة الإسلام الزلازل، وابن سينا هو صاحب القدح المعلى في هذا الميدان إذ تناول في موسوعته (الشفاء) أسباب الزلازل بالقول: أن “الزلازل تحدث إما بخروج الرياح المحتبسة، وهو الذي عليه أكثر الزلازل، أو بدخول الهواء في الأرض… وفي أكثر الأوقات فقد يتبع الزلزلة ريح تهب، لأن السبب ينفصل ويخرج إلى خارج، وكثيرا ما يكون وقت الزلازل غمامات راكدة في الجو، ويكون الجو ضبابيا، وذلك لفقدان الرياح في ذلك الوقت..”

لم يكتف ابن سينا إذا بذكر أسباب الزلازل وإنما انفرد بشرح بعض الظواهر الجوية المصاحبة لها، ثم عرج على آراء اليونان في ذلك ودحض قول بعضهم أنها تحدث لسقوط رؤوس الجبال على الأرض ذاهبا أنه لو كان الأمر كذلك لما وقعت الزلازل إلا في المناطق الجبلية وهو غير صحيح، فضلا أنه لم يعثر على بقايا الجبال في المناطق التي تعرضت للزلازل.

التفاعل البشري مع الزلازل

مثلما وصف ابن سينا الظواهر الطبيعية المصاحبة للزلازل، وصف المؤرخون المسلمون كيفية حدوث الزلازل ووقعها على البشر والحجر، وما خلفته من دمار، ويكاد لا يخلو كتاب من كتب تاريخ الإسلام من ذكر للزلازل، فتاريخ الطبري يتضمن عشرة حوادث زلزالية، وتاريخ ابن الجوزي يتضمن 27 حادثا، والكامل في التاريخ يتضمن 56 حادثا، والبداية والنهاية لابن كثير يتضمن 46، والقائمة تطول وسنكتفي منها بذكر بعض نماذج توضح مدى الدمار الذي خلفته وكيفية تفاعل الناس معه.

  • ذكر ابن عساكر في حوادث سنة (233ه)” أن دمشق زلزلت يوم الخميس 11 ربيع الآخر، فقطعت ربعا من الجامع، وتزايلت الحجارة العظام، ووقعت المنارة، وسقطت المنازل والقناطر، وامتدت في الغوطة فأتت على داريا والمزة وبيت لهيا وغيرها، وخرج الناس إلى المصلى يتضرعون إلى قريب نصف النهار فسكنت الدنيا”.
  • ذكر الطبري في حوادث سنة (245 ه) ” أنه زلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف ألف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم.
  • ذكر الذهبي في حوادث سنة (253ه): “فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق، دامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران، وهرب الخلقُ إلى المصلى يجأرون إلى الله، ومات عدد كبير تحت الردم، وامتدت إلى أنطاكية، فيقال أنه مات من أهلها عشرون ألفا، ثم امتدت إلى الموصل، فزعم بعضهم أنه هلك بها تحت الردم خمسون ألفا”.
  • ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة (434ه) ما نصه” وردت الأخبار الصحيحة بوقوع زلزلة عظيمة بتبريز هدمت قلعتها وسورها ودورها ومساكنها وأسواقها وأكثر دار الإمارة… وأن الأمير لبس السواد وجلس على المسوح لعظم هذا المصاب”.
  • وذكر ابن الأثير في حوادث سنة (444ه) أنه “كانت بخراسان أيضا زلزلة عظيمة خربت كثيرا، وهلك بسببها كثير، وكان أشدها بمدينة بيهتي فأتى الخراب عليها، وخرب سورها ومساجدها، ولم يزل سورها خرابا إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، فأمر نظام الملك ببنائه فبُني.
  • كما ذكر أيضا في حوادث سنة (479ه) “وفيها كانت زلازل بالعراق والجزيرة والشام، وكثير من البلاد، فخربت كثير من البلاد، وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء فلما سكنت عادوا”.
  • وذكر أبو شامة، أنه في ” ليلة الخامس والعشرين من جمادى الأولى [سنة 552ه] وافت أربع زلازل وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس… فلما وافتهم الزلزلة في ليلة الاثنين التاسع والعشرين من رجب ارتاع الناس من هولها، وأجفلوا من منازلهم والأماكن المسقفة إلى الجامع والأماكن الخالية من البنيان خوفا على أنفسهم”.

هذه النصوص السالفة تسمح لنا بالاستنتاج أن التفاعل الإنساني مع الزلازل جاء على مستويين:

 الأول مستوى تفاعل عموم الناس وهو يأخذ صيغ عدها بعضها إيماني مثل: التضرع إلى الله والدعاء إليه، وبعضها يدخل في إطار التدابير الإنسانية في مواجهة الزلازل وفي مقدمتها مغادرة المساكن والدور إلى الأماكن الخالية من البنيان، والثاني مستوى تفاعل الدولة، ويقصد به الإجراءات التي تتبعها في مثل هذه الحالات الطارئة، وكشفت النصوص أنها قامت بإجراءات ثلاث، هي: إظهار مظاهر الحداد ولبس السواد مراعاة لخواطر المكلومين، وتعويض المتضررين بعوض مادي، وإعادة عمارة ما تهدم من دور ومساجد ومؤسسات.

المصنفات التراثية في الزلازل

لم يترك المسلمون بابا من أبواب التصنيف إلا وصنفوا فيه، فلا تخلو المكتبة التراثية من أي فن أو علم من العلوم، ولذلك لا عجب أن نجدهم وضعوا بعض مصنفات في الزلازل، ويذكر الأستاذ عبد الله يوسف الغنيم أن أقدم إشارة إلى مصنف عربي في الزلازل هو تلك الرسالة التي نسبها ابن النديم في (الفهرست) إلى الفيلسوف الكندي وعنوانها (علم حدوث الرياح في باطن الأرض المحدثة كثير الزلازل)، وهذه الرسالة لم تصل إلينا فيما وصل من تراث الكندي.

الفارابي

وهناك رسالة وضعها مؤرخ دمشق ابن عساكر تناول فيها ظاهرة الزلازل في عصره، وعنوانها (الأخبار بالدلائل على الإنذار بحدوث الزلازل»، وهي مخطوطة لم تنشر بعد، وتوجد نسخة منها في المكتبة الوطنية بتونس، وللإمام السيوطي رسالة بعنوان (كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة)، وهي منشورة وفيها حصر بحوادث الزلازل منذ ظهور الإسلام حتى أوائل القرن العاشر، ومن رسائلهم الفريدة في موضوعها (تحصين الزلازل من هول الزلازل) لابن الجزار، ذكرها حاجي خليفة، وهي منشورة في مجلة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وكما يبدو من عنوانها تناقش كيفية تشييد المنازل على نحو يقيها التأثر بالزلازل.

خلاصة القول، أن المسلمين اعتنوا بتفسير أسباب الزلازل ووصفها، وأتوا في مصنفاتهم على ذكر آثارها في البلاد وكيف تصدى لها العباد.