لم تكن المستشرقة الألمانية طائرة الشهرة زيغريد هونكه (1913-1999م) تهذي عندما كانت تكتب كتابها القيّم “شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا“، بل كانت تكشف عن حبّها العميق للعرب وتراثهم وتؤكد حرصها الكبير على الدفاع عن قضاياهم والوقوف إلى جانبهم، من خلال إماطة اللثام عن حقيقية تاريخية تتمثل في أن الحضارة العربية كانت لها أفضال كثيرة على أوروبا في مختلف المجالات الحياتية.

إن قارئ كتاب “شمس العرب تسطع على الغرب” لا بد أنْ يكتشف أنّ المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه لم تكتب هذا الكتاب العظيم بمجرد الصدفة ولا من باب التسلية، وإنما كتبته من باب وعيها الكبير بالأثر البالغ الذي خلّفته الحضارة العربية في أوروبا خلال القرون الغابرة، ونحن هنا لا نقول كلاماً بدون دليل، فالمؤلفة قالت في مقدمة كتابها: “لم يكن من قَبِيل الصدفة بتةً أن أكتب أنا السيدة الألمانية هذا الكتاب، فالعرب والألمان لا تربطهم فقط أيام دولتهم القوية، التي انقسمت الآن والتي بدأت صعودها من جديد بقوة وحيوية وعزم، وإنما هي رابطة قوية من الفكر والثقافة قد وثّقت العرى بينهما، امتدّت جذورها في أعماق التاريخ، واستمرت على مرّ القرون ولا زالت آثارها حتى اليوم” .
لقد استطاعت زيغريد أن تُميط اللثام عن تأثير العرب على أوروبا في مجالات عديدة ومهمة جداً في حياة البشرية، وسنحاول في السطور التالية أن نسلط الضوء على جوانب من هذا الكتاب المهم للقارئ العربي والغربي على حد سواء، نظراً لجودة ودقة المادة العملية التي قدمتها زيغريد بكل وضوح في (588 صفحة) تحتوي العديد من الأبواب والفصول الرائعة فعلاً لا مجاملة.

التجارة والصناعة

قسّمت زيغريد كتابها الرائع “شمس العرب تسطع على الغرب” إلى سبعة أبواب كبرى، وقد استطاعت من خلال الباب الأول “رفاهية حياتنا اليومية” أن تكشف عن أثر الحضارة العربية الجليّ على أوروبا في مجالات عديدة، مثل: التجارة، وصناعة الورق، والصناعة، والاختراعات، وفن الملاحة، والبريد.

فتحت عنوان “أوروبا الجائعة في ظل التجارة العالمية”، تلفت زيغريد انتباه القارئ إلى التأثيرات التي خلّفتها الحضارة العربية في الغرب، حيث تشير إلى أنه في عام 973 أبحر سفينة تمخر عباب الأطلس مارة بالشواطئ الغربية لفرنسا محمّلة بالبضائع المختلفة، وكان على متنها وفدٌ يرأسه سيدي إبراهيم بن أحمد الطرطوشي الموفد من طرف الخليفة الثاني في قرطبة، وكان الهدف من هذه الرحلة أن تقصد قصر الملك الروماني الطائر الشهرة “هوتو” الأول في بلاد الساكس.

ويبدو أن هذه الرحلة قد كشفت عن جوانب عديدة من التأثير الكبير للتجارة العربية في أوروبا، فقد دسّ تاجر من بلاد الفرنجة في يد الطرطوشي قطعاً من النقود العربية تحمل خطاً كوفياً واسماً عربياً والتاريخ التالي (301-392 هـ)، وقد استولى على الطرطوشي عجب كبير حين اتضح له أن في يده قطعاً ذهبية من سمرقند يعود تاريخ سكّها إلى أيام السلطان نصر بن أحمد السمرقندي (333-373 هـ) .
أما في مجال صناعة الورق، فيبدو أن العرب كان لهم دور بارز في هذا الميدان المهم جداً، ففي حوالي عام 751 بدأت الإرهاصات الأولى لصناعة الورق عند العرب حين أدرك الخليفة المنصور (754-775م) قيمة صناعة الورق للكتابة “نظراً لاستهلاك علمائه وكتبته كميات كبيرة منها في وزارته ومجامعه العلمية”، ومن هنا سار موكب صناعة الورق مطوّفاً بالبلدان العربية، ماراً بسوريا ودمشق وطرابلس وفلسطين ومصر وتونس ومراكش وإسبانيا، “ومن عرب صقلية والأندلس تعرّفت بلاد الغرب على هذه المادة كثيرة النفع، التي هي في الحقيقة إحدى دعائم الثقافة والحياة الروحية” .

وإذا كان الغربيون يزعمون أن “فلافيو جيوجا” هو مخترع البوصلة، فإن زيغريد قد ذهبت إلى عكس ذلك عندما قالت: “وحقيقة الأمر أن فلافيو عرف هذه الآلة عن طريق العرب، بل إنه لم يكن أول شخص في بلاد الغرب عرفها”، ثم أوضحت أن “بطرس فون ماريكور” نقل في عام 1269م عن العرب مباشرة معلوماته عن المغناطيس وعن كيفية استعمال البوصلة، وفي حوالي عام 1320م بدأ الإيطالي “فلافيو جيوجا” الحديث عن اكتشافه البوصلة .

والحقيقة أن اختراعات وإبداعات العرب لم تقتصر على ما سبق ذكره، بل يبدو أنها امتدت إلى مجال صناعة الصواريخ، وهنا نجد زيغريد تطرح سؤالاً تاريخياً مهماً وهو: لمن ندين باختراع الصواريخ وتطويرها؟ ثم تجيب: “وإننا نسمع الجواب دهشين من فم المؤرخ رشيد الدين من قصر السلطان العربي: (إن قبلاي خان كان قد تقدّم إلى البلاط العربي بطلب يرجو فيه إيفاد مهندس له كان قد أتى من دمشق وبعلبك، وقد بنى أبناء هذا المهندس الثلاثة: أبو بكر وإبراهيم ومحمد مع الجماعة التي صحبتهم سبع آلات ضخمة وأتوا بها إلى المدينة المحاصرة)” .

ويبدو أن كلام المؤرخ رشيد الدين السابق قد دفع زيغريد إلى طرح أسئلة أخرى من قَبِيل: هل كانت القذائف التي استقبل بها القائدُ المصري فخر الدين -صديقُ فردريك الثاني- الجيوشَ الفرنجية وملكها القديس عام 1249م لدى الحملة الصليبية اليائسة قذائف عربية؟ وفي محاولة للبحث عن إجابة تشفي غليل القارئ، نقلت زيغريد كلاماً لرسول أندلسي محارب يقول فيه: “إنه كلما انطلقت قذيفة في الفضاء كان يبلغ التأثر بملك فرنسا مبلغاً كبيراً، فيصيح بأعلى صوته (سيدي الحبيب، ارحمني وشعبي من الكارثة)”.
ولا تخجل زيغريد من التصريح برأيها بكل شجاعة، حيث نجدها تقول “إن العلماء العرب وضعوا -على أية حال- نظرية تركيب البارود المندفع في القرن الثاني عشر”، ثم تضيف أن “عرب الأندلس في إسبانيا هم أول من استعمل القذائف النارية في أوروبا لأهداف عسكرية، فأصبحوا بذلك أساتذة الأوروبيين أيضاً في هذا الحقل” .

وقد يكون من الغريب القول إن العرب تميّزوا في فن الملاحة قديماً، ولكن يبدو أن هناك تعبيرات وأسماء تؤكد هذا الأمر، فمن أسماء أنواع السفن: دُوّ، ودنجي، وكارافيل، وشراع البزان، والجلفاط، كما كان العرب سبّاقين إلى اختراع فكرة البريد السريع عندما استخدموا الحمام الزاجل، الذي يعد “أسرع من البرق وأخف من الغيمة، وكان لدى العرب ساعي البريد المنتظم وحامل الأخبار السرية”، تقول زيغريد.

تاريخ الأرقام

في الباب الثاني “العالم والأرقام”، عرّجت زيغريد على تاريخ الأرقام عند البابليين والإغريق وشعوب عديدة، ثم قامت بتتبّع موكب الأرقام العربية في رحلتها الطويلة من الهند إلى أن وصلت إلى الغرب لتصبح تراثاً عالمياً، فأشارت إلى استخدام العرب للأعداد العربية في القرن الثاني عشر، وتعلّم “الأمم المتحضرة” الأرقام من العرب ثم استخدامها، مؤكدة أنه “ولو لا تلك الأرقام لما وجد اليوم دليل تليفونات أو قائمة أسعار أو تقرير للبورصة”.
إن اهتمام العرب الأرقام لا يَخفَى على من يتتبع التاريخ بطريقة منصفة، فقد كتب العرب عن الأرقام كتباً عديدة، حيث ألف محمد بن إبراهيم الفزاري كتابه “السند هند الكبير”، وألف ابن الآدمي كتابه “عقد اللآلئ”، وألف محمد بن موسى كتاب “حساب الجبر والمقابلة”، وألف أبو كمال “الطرائف في الحساب”، ولهذا فإن “الأرقام العربية احتلّت بلاد الغرب، وقامت بدورها في العلوم والرياضة والاقتصاد على مر الأيام خير قيام”، كما تقول زيغريد.

علوم الطبيعة

لم يكن خافياً على زيغريد الدور البارز الذي قدمته الحضارة العربية للغرب في مجالات العلوم الطبيعة على اختلافها، لذلك نجدها تخصص الباب الثالث “السماء التي تظلّلنا” للحديث عن إبداعات العرب في علم الفلك وعلم التنجيم، وعلم الرياضيات والحساب، وبناء المراصد الجوية، واختراع الساعات الشمسية ونظارات القراءة.

ففي مجال علم الفلك، تحدثنا زيغريد عن عالِم الفلك والرياضيات موسى بن شاكر، الذي كان يسكن في قصر صديقه الحميم (الخليفة المأمون)، وقد خلّف أبناء ورثوا عنه هذا العلم، وبعد وفاة موسى بن شاكر أعطى المأمون عناية كبيرة لأبناء صديقه الحميم الثلاثة (محمد، أحمد، الحسن)، فأصبحوا من أساطين علم الفلك والرياضيات والميكانيكا والأدب والسياسة، وقاموا “بإجراء قياسات فاقت ما قام به بطليموس وفلكيُّ القصر المروزي”.

وقد كان للعرب اهتمام ملحوظ ببناء المراصد الجوية، ومن أشهرها: مرصد المأمون في بغداد ودمشق، ومراصد الخليفتين الفاطميين: العزيز والحاكم بأمر الله في القاهرة، ومرصد عضد الدولة في حديقة قصره ببغداد، وقد اعترف الفرنسي “سيديو” بتميّز العرب في هذا المجال فقال: “لقد توصل فلكيُّو بغداد في نهاية القرن العاشر إلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما دار فيها من كواكب ونجوم بالعين المجردة، دون اللجوء إلى عدسات مكبّرة أو منظار.

وإذا كان العرب قد تميّزوا في مجال رصد السماء بالعين المجردة، فقد تميّزوا أيضاً في اختراع ساعات الشمس فتمكنوا بواسطتها من تحديد موضع الشمس في كل حين، ومن تحديد الوقت وصنع التقاويم الزمنية، ومن أبرز العلماء العرب الذين اهتموا بمدار الشمس ثابت بن قرة الذي قام بقياس علو الشمس ومدة السنة الشمسية، والبتاني الذي قام بقياسات جنوح “سمت الشمس” بشكل أدق، فأوجد طرقاً جديدة لقياس عرض الأماكن .

والظاهر أن اختراع النظارات يعود إلى الحضارة العربية أيضاً، فقد كان العالم المجرب أبو الحسن ابن الهيثم أول من اخترع نظارات للقراءة، وقد صرّحت زيغريد بأن “تأثير هذا العربي النابغة على بلاد الغرب عظيم الشأن، فسيطرت نظرياته في علمي الفيزياء والبصريات على العلوم الأوروبية”. بيد أن ابن الهيثم ليس العالم العربي الوحيد الذي سبق العلماء الغربيين إلى الاكتشافات العلمية المهمة، بل هناك مجموعة من العلماء العرب الذين سبقوا غيرهم من العلماء بحوالي بسبعمائة سنة تقريباً إلى التحقيقات الكبيرة الهامة في العلوم والرياضيات، ومن هؤلاء العلماء الرواد: ابن سينا والغزالي والفارابي والخوارزمي.

العلوم الطبية

تحت عنوان “الأيدي الشافية”، تُبحر بنا زيغريد في عالم الطب المعقّد كي تكشف لنا عن الأثر الكبير الذي تركته الحضارة العربية في الغرب من خلال هذا العلم، فتحدثنا عن مستشفيات العرب المتميزة وعن الأطباء العرب ورواتب وسمعتهم، كما تحدثنا عن اهتمام العرب بمجالات الطب المختلفة، كالأمراض الباطنية والعقلية والعصبية، وطب العيون، وتأسيس مهنة الصيدلة.

إننا إذا نظرنا إلى مجال المستشفات، سنلاحظ أن المدن العربية شهدت بناء مستشفيات كبيرة ومستوصفات متنقلة محمولة بين القرى ومستوصفات خاصة بالسجون، ففي مدينة قرطبة وحدها كان هناك خمسون مستشفى في أواسط القرن العاشر، وفي بغداد كان هناك مستشفى عضد الدولة، وفي دمشق مستشفى النوري، وفي القاهرة المستشفى المنصوري، ولم يكن تأسيس المستشفيات وقفاً على الخلفاء والسلاطين أو الرجال الأغنياء، وإنما دأب أيضاً على تأسيسها الأطباء، من أمثال: سنان بن ثابت، وثابت بن سنان.

وقد كانت للأطباء العرب سمعة طيبة جداً، كما كانت هناك مراقبة لعمل الأطباء بدقة لتفادي الأخطاء الفنية القاتلة، فقد أصدر الخليفة المقتدر عام 931م أمراً بالتحقيق مع الأطباء للتأكد من حيازتهم على تصريح بالعمل، ومن ألمع الأطباء العرب: ابن سينا الذي كان “أول من اكتشف أن سرطاناً موضعياً يعطي عوارض السرطان العام في الجسم”، وأبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا (الرازي) الذي امتاز بمعارف طبية واسعة شاملة لم يعرفها أحد قط منذ أيام جالينوس، وابن النفيس الذي اهتم إلى جانب مهنة الطب بعلم البيان والمنطق والفلسفة، وعلي بن رضوان رئيس نقابة الأطباء في القيروان.
أما مهنة الصيدلة، فيبدو أن العرب هم المؤسسون الحقيقيون لها، حيث “كانوا أول من افتتح الصيدليات العامة، وذلك في العام الثمانين من القرن الثامن في ظل حكم الخليفة المنصور (..)، وكان في كل مدينة مفتّش خاص يفتّش تحضير الأدوية ويراقبها” .

سلاح المعرفة

“سلاح المعرفة” هو العنوان الأساسي للباب الخامس، وفيه تحدثنا زيغريد عن شغف العرب بالقراءة والكتابة، وسطوة اللغة العربية، وقد افتتحت هذا الباب بمقولات عربية مشهورة تحثّ على الاستمرار في طلب العلم، مثل: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”، و”حبر الطالب أقدس من دم الشهيد”.

ويمكن القول إن دائرة شغف العرب بالقراءة والكتابة بدأت تتسع بعد نزول القرآن الكريم، فأقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير، و”نمت دور الكتب في كل مكان نمو الشعب في الأرض الطيبة”، فنشر ابن النديم في بغداد كتابه “الفهرست” الذي يضم جميع أسماء الكتب العربية، وفي الأندلس كانت قرطبة تجتذب طلاب العلم من أنحاء الشرق والغرب بمدارسها العليا ومكتبتها العظيمة التي جمع لها الخليفة الحكم الثاني نصف مليون من الكتب القيمة، وفي القاهرة رتّب مئات العمال والفنيين في مكتبتي الخليفة مليونين ومائتين من المجلدات .

وأكدت زيغريد أنه في الوقت الذي كان الأمراء الغربيون يعترفون بعجزهم عن القراءة والكتابة ولم يكن في دير القديس جالينوس (خلال عام 1291م) من الكهنة والرهبان من يستطيع حلّ الخط، كانت هناك آلاف مؤلفة من المدارس في القرى والمدن العربية تستقبل ملايين البنين والبنات يكتبون على ألواحهم الخشبية ويقرؤون القرآن الكريم.
ولم تنسَ زيغريد أن تعرّج على الجامعات العربية التي كانت من العناوين البارزة في الحضارة العربية، حيث بدأت تزدهر في القرن التاسع، فجذبت إليها منذ عهد البابا سلفستروس الثاني عدداً من الغربيين، فصار لها الفضل “في إيصال أعمال الفلاسفة والعلماء القدماء وآثارهم للعالم الحديث”.

توحيد الشرق والغرب

وفي الباب السادس “موحِّد الشرق والغرب”، تشير زيغريد إلى محطات من “توحّد فيها الشرق مع الغرب على أساس من الصداقة والثقة والاحترام المتبادل”، أما في الباب السابع والأخير “عرب الأندلس” فتحدثنا عن ازدهار حضارة العرب في إسبانيا، فتقول إن الحضارة الأندلسية الفريدة من نوعها “لم تكن قائمة على أساس فارسي أو إغريقي، بل كانت عربية صرفة أكثر من الحضارة العربية في أي مكان آخر”.
وفي ختام هذه المقالة، يمكن القول دون مبالغة إن كتاب زيغريد “شمس العرب تسطع على الغرب” يُعدُّ بحق من الكتب الاستشراقية المنصفة الخالدة، ولهذا فإنه سيظل يمثّل رقماً صعباً وإضافة نوعية إلى المكتبات العربية والغربية في كل زمان ومكان.


[1] زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، 9.

[2] نفسه، 22.

[3] نفسه، 46.

[4] نفسه، 47-48.

[5] نفسه، 49.

[6] نفسه، 50-51.

[7] نفسه، 146.

[8] نفسه، 329-330.

[9] نفسه، 353.