قال تعالى : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ( آل عمران : 26 )
كم هم أولئك الذين بسط الله لهم المُلك، سواء على شكل حُكم ممالك أم إمبراطوريات، أم دول، مروراً بأقل من ذلك من كيانات بشرية مختلفة، وزارات ومؤسسات وشركات، وصولاً لكيان البيت. فقد نسي جلّهم أو من كانوا يملكون صلاحيات الأمر والنهي في تلك الكيانات، أن المانح والمعطي هو الله، وهو من قرر لهم في علم الغيب أن يبسط في ملكهم، وهو من قرر لهم ما ستكون تلك الممالك بعد حين من الدهر، طال أم قصر. لكن كما أسلفنا، ينسى كثيرون هذه الحقيقة الحياتية.
كم من الملوك اليوم ومثلهم الأباطرة أو الزعماء والوزراء، أو المديرين ومن على شاكلتهم وعلى اختلاف درجاتهم وممتلكاتهم، على صلة بالله ودرجة من الوعي عالية، وفهم واضح أن ما يملكه ليس سوى أمانة من الله قد شرّفه الله بها، ومطلوب بالتالي منه أداء حقها كما يجب؟
لا شك أنهم قليل قليل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه: لما افتتح رسول الله – ﷺ – مكة، وعد أمته مُلك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات. من أين لمحمد مُلك فارس والروم؟ وهم أعـز وأمنع من ذلك. ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله { قل اللهم مالك الملك. تؤتي المُلك من تشاء وتنزع المُلك ممن تشاء..}
المُلكُ ليس حكماً فقط
قد يفهم كثيرون منا أن الآية وهي تتحدث عن المُلك، أنه هو الحكم أو الإمارة والرئاسة فقط. لكن الآية أشمل وأوسع.
كيف فسر الإمام فخر الدين الرازي الآية ؟
إذن هي حقيقة حياتية، واقرأ التاريخ لتعلم دقتها وتكرارها في كل زمان ومكان. وهل كان في زمن موسى عليه السلام من هو أكثر قوة وامتلاكاً للمال والجاه والسيادة والقرار من فرعون؟ لكنه تناسى تلك الحقيقة، وأن ما عليه من مُلك وجاه وقوة وبأس، إنما من عند ملك الملوك. فطغى وتجبر حتى انتزع الله منه كل ذلك في ليلة وضحاها، بل أذله وأغرقه في البحر، لتلقيه الأمواج بعد ساعات من غرقه هو وجنوده على الشاطئ، جثة هامدة يشاهدها بنو إسرائيل، رجالاً ونساء وأطفالا.. فهذا الذي كان ملكاً مهيباً عظيماً بالأمس، صار اليوم ذليلاً مبتلاً ومتسخاً بأعشاب البحر ورماله.. ويذكر قصة وروده على النار إلى يوم القيامة، يقرأه الناس في القرآن إلى قيام الساعة، جزاءً مهيناً له في الدنيا قبل الآخرة.
فرعون النسخة العربية، عمرو بن هشام أو أبا جهل، كان سيداً من سادات مكة. وجيها غنياً وصاحب كلمة. لكن بكفره وعناده وحماقته، أذله الله أشد الإذلال، فتحول بين ليلة وضحاها أيضاً، من سيد وزعيم قرشي مهاب الجانب، إلى جثة مقطوعة رأسها، مرمية في بئر قديمة مهجورة، وربما فوقها جثث أخرى من جثث سادات وصناديد قريش، وقد أذلهم الله بكفرهم وحماقتهم، والأمثلة من هذا النوع قديماً وحديثاً، أكثر من أن نحصرها وذكرها في هذه المساحة المحدودة.
ماذا يعني هذا؟
من المهم حين تتأمل هذه الحقيقة الحياتية في الآية الكريمة، أن تتساءل بينك وبين نفسك وأن الأمر لا يعني أو يقتصر على أولئك الملوك ومن على شاكلتهم، بل هو يعنيك أنت أيضاً. فقد تكون اليوم وزيراً صاحب كلمة وصلاحيات واسعة، لكنك في غفلة من الزمن، وفي زحمة الأضواء والشهرة، تتناسى أن ما أنت عليه إنما هبة ونعمة من الله تستلزم منك شكراً وحمدا.
تشكره سبحانه بالعمل على إصلاح ما أفسده غيرك، واحقاق الحق، والعمل على ما يفيد البلاد والعباد، وليس نفسك ومن حولك.. فتلك العزة التي أنت عليها قد تتحول فجأة إلى نقمة. فقد تبيع آخرتك بدنيا غيرك، وتفسد أكثر مما تصلح، وغير ذلك من مسببات سحب المُلك منك، لتجد نفسك سريعاً خارج مجال العزة والقوة، بل ذليلاً قد لا تملك من أمر نفسك شيئا !
إنه أمر مخيف فعلاً .
ما الدرس المستفاد من قصة صاحب الجنتين ؟
لا تغتر بكثرة أموالك وأملاكك أو كثرة أولادك وعلو مكانتك الاجتماعية، بل ولا حتى عافيتك وصحتك، وتنسب كل ذلك إلى نفسك وجهدك وذكائك وشطارتك، وتنسى الواهب عز وجل. فإنه في لحظة وأخرى، قد تخسر كل ما تملك، سواء بيدك أو بيد غيرك، حتى لا تجد بعدها من كانوا يحيطون بك من حشم وخدم وبطانة، وربما حتى أولادك وأهلك وقبيلتك.
وربما وجدت نفسك وحيداً مفلساً غارماً، أو على سرير مرض لا تجد زائراً يؤنس وحشتك ويخفف مواجعك الجسدية والروحية، ولا يأبه لوجودك أحد وما كنت عليه في زمن مضى.. إن كل ذلك قد يحدث في وقت لا يمكنك تصوره وتوقعه..
وبالتالي كخلاصة لهذا الحديث، أدعو نفسي أولاً ومن ثم غيري، ألا ننسى الحقيقة الحياتية التي تحدثنا عنها، وأن نتأملها بخشوع وتدبّر حين نتلوا قوله تعالى { قل اللهم مالك الملك تؤتي المُلك من تشاء وتنزع المُلك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير}.