من قصص العرب قبل الإسلام، أن عاملاً متواضعاً يدعى عصام الجرمي كان في بلاط النعمان بن المنذر، ملك الحيرة وأشهر ملوك المناذرة، وقد استخدمه النعمان في قصره. بدأ عصام يتقرّب إلى الملك حتى أصبح بجهده وذكائه وتفانيه في خدمته، حاجباً له. وهكذا ظل يرتقي ويصعد إلى أن أصبح من أقرب المساعدين للنعمان، من بعد أن أثبت جدارته وحنكته الإدارية وشجاعته، حتى قال عنه الملك : ” إن عصام بن شهبر الجرمي بألف جندي”. ذاع صيت عصام بعد ذلك حتى صار من أعلام العرب في الجاهلية، من هنا صار عصام مثلاً يُضرب للذي يعمل بجهده ويتفانى في عمله ويرتقي للمعالي، لا يعتمد في ترقياته وعلوه على آبائه وأجداده، حتى قالت العرب : كُن عصامياً ولا تكُن عظامياً ؛ أي افخَر بنفسك وليس بعظام أجدادك.

وقال فيه النابغة الذبياني:

نفسُ عِصامٍ سوّدتْ عِصاماً * وعلّمتهُ الكــرّ والإقـدامـا

وصيـّرتْهُ بطـــلاً هُمـــامــا * حتّى عــلا وجـــاوزَ الأقــوامــا

ذلك أن العظامي، الذي هو نقيض العصامي، أشبه بكائن طفيلي من تلك الطفيليات التي تعيش على أجساد الآخرين، دون أن يكون له أدنى جهد في دعم وبناء تلك الأجساد.

إنه أيضاً في الوقت ذاته، ذلكم الكائن المتسلق على سمعة وتاريخ الآخرين، وتحديداً الآباء والأجداد، وخصوصاً إن كانوا أهل شرف وسؤدد وتاريخ مجيد ..

   

هكذا تـكن عصامياً

النجاح، مثلما أنه نتيجة تخطيط سليم وعمل صحيح، فهو أيضا يمكن تحقيقه وصناعته دون كثير تأن أو تخطيط طويل، بشرط وجود روح المغامرة والإقدام عند الشخص، ليتخذ قرارات حاسمة تحدث تغييرات جذرية ومهمة في حياته وربما حياة الآخرين، وتلك الروح هي إحدى مميزات العصاميين.

القادة العظام أو العصاميين – إن صح وجاز لنا التعبير – الذين نقرأ ونطالع في سيرهم، تجد أن روح المغامرة كانت متعمقة وثابتة فيهم جعلتهم يقدمون على أمور، هي بالمنطق والعقل وبالحسابات الرياضية، مستحيلة وصعبة وتحتاج الكثير من الجهد والوقت والتخطيط. لكن بسبب تلك الروح الجريئة اختصروا الأزمان، وبالتالي أحدثوا التغيير على الأرض في صورة أبهرت كل من كانوا حولهم حينذاك، وأبهرت كذلك من أتوا وسيأتون في قادم الزمان.

الإمكانات التي وهبها الخالق عز وجل للإنسان هائلة، ولو أنه استثمرها على الوجه الصحيح والأمثل، وبدأ يعي قدراته بعيداً عن أفعال وأمجاد الماضي من قبيل كان أبي أو كان جدي، فإنه لا شك سيجد نتيجة ذلك الوعي متمثلة في نتائج، سيراها أمامه إيجابية محمودة ومبهرة. والعكس صحيح لا ريب.

اقرأوا إن شئتم في سير العظماء والمخترعين والمكتشفين، ستجدهم أناساً عصاميين، بل ستجد قصص حياتهم سلسلة من الكفاح والجهود المتواصلة، ليلاً ونهاراً، لا آباء في السيناريو ولا أجداد ولا غيرهم، بل هم أنفسهم، وجهودهم، ورؤاهم، وطموحاتهم.

نماذج من العصاميين  

التاريخ يذكر أبا بكر الصديق ولا يذكر أباه، مثلما التاريخ يمجد الفاروق عمر وليس الخطاب، وبالمثل يمكن القول عن سيف الله المسلول ولا أثر لأبيه وأجداده. لقد أصابوا المجد بعصاميتهم ومثابرتهم وإقدامهم في الإسلام. لم يتكئ أحدهم على تاريخ آبائه وأجداده وقبيلته، فكانت نتيجة ذلك هو هذا المجد الذي أصابهم إلى ما شاء الله لهم أن يستمر.

كن عصامياً مثل عمرو بن العاص الذي نال المجد بعد أن دخل الإسلام وليس قبله، وقد كان أبوه من زعماء قريش، لكنه لم يفتخر به ولا بأجداده وقبيلته يوم أن قرر دخول الإسلام، ويطلب بسبب ذلك مثلاً، لقاءً خاصاً مع رسول الله – محمد – إنما طلب من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، أن يسأل الله أن يغفر له ما كان منه قبل الإسلام، من أجل أن يبدأ صفحة جديدة يسطرها هو بنفسه وبجهده، ويبني نفسه ضمن إطار هذا الدين العظيم، لا يتفاخر بأصله وحسبه وأين كان هو وآبائه وأجداده وقومه. فماذا كانت النتيجة بعد هذا؟ التاريخ يمجد سيرته إلى ما شاء الله أن يكون هذا المجد له، والفضل له بعد الله على كل مصري مسلم، أنه كان فاتح هذا البلد وأميره، فمن كان يدري ما تكون مصر عليه اليوم؟

لكن في الجانب الآخر، وفي الوقت الذي ما إن شعر أحد أبنائه أنه ابن أمير مصر وابن الأكرمين، وتفاخر بحسبه ونسبه وتعالى على أحد رعية والده في مصر من أهل الذمة، جاءته درة الفاروق عمر وأنزله منزلته، ولكن بعد أن جلب لنفسه وأبيه مشقة وحرجاً بسبب طريقة تفكيره العظامي. وبفعله ذاك، تجد أن التاريخ لا يذكره إلا في هذه القصة المخزية، بل أحسبُ أن كثيرين منكم لا يعرفون اسم هذا الولد، الذي أراد أن يبني مجده على حساب والده الصحابي الكريم عمرو بن العاص.. إنه نموذج من العظاميين الذين لا يرحب بهم التاريخ أبداً.

حاول أن تسرح بذهنك وتتذكر أسماء عصامية مجّدها التاريخ، ستجد الكثيرين. اقرأ سيرة البخاري، وطالع قصة اسلام سلمان الفارسي وصهيب الرومي، وكذلك بلال الحبشي وغيرهم كثير كثير. وتأمل كيف أحدهم كان بدأ حياته من الصفر، لم يعتمد أحدهم على أب أو جد أو قبيلة.. اقرأ سير علماء ومخترعين مسلمين وغيرهم كذلك. تأمل كيف كان حال بائع الحلوى الفقير توماس أديسون ومثابرته حتى أصبح أشهر مخترعي العالم. ومثله إسحاق نيوتن، وبداياته المتعثرة وفقر أسرته، وانتقال تربيته من شخص إلى آخر حتى ثبت بعصاميته واخلاصه في عمله، ليكون من أشهر علماء الرياضيات حتى يوم الناس هذا.. والأمثلة أكثر مما نحصيها في هذه المساحة المحدودة. 

 خلاصة الحديث

ذكرنا من ذي قبل، ونعيد التذكير كرة أخرى من أن الناس ( كلهم آتيه يوم القيامة فردا ) يحاسبهم على أعمالهم وما كسبت أيديهم، حيث  لا قبيلة ولا عشيرة ولا عائلة. لا أحد تستفيد منه ولا أحد يفيدك ( يوم يفـر المرء من  أخيه وأمه وأبيه ) ،  فكل أحد مشغول بنفسه، ولن يسأل الله أحدنا: من أبوك ومن جدك، بل من أنت وما عملك، وعلى هذا الأساس سينال كل منا نصيبه وأجره لأن ( كل نفس بما كسبت رهينة ) .. وعلى هذا الأساس لابد أن يسير الناس في علاقاتهم فيما بينهم.

إن كنت صاحب قرار في دنيا الناس، فلا يجب أن تنظر إلى الناس وفق المبدأ العظامي. من أبوه ومن جده ومن أي عائلة أو قبيلة أو ما شابه من معايير. لا، إنما الصحيح أن تنظر إلى الشخص بعيداً عن كل تلك المعايير التي لا معنى لها في موازين الله، وتراه وفق المبدأ العصامي. أنظر إلى رحلة حياته وكيف بدأ واجتهد ووصل. أنظر إلى عمله وجهده وكفاءته، وتأمل مهاراته وقدراته، وأسأل عن أخلاقه وسمعته، ثم قرر له العمل المناسب والمهمة المناسبة والتقدير المناسب.

على المنوال نفسه؛ إن كنت أنت الشخص وتنتظر أمراً من صاحب القرار، أياً كان منصبه، فلا يجب أن تتحدث معه أو تتعامل بالمنظار العظامي، فتحدثه عن آبائك، وأجدادك، وعائلتك، وقبيلتك. إنما الصحيح أن تتعامل مع صاحب القرار وفق المنظار العصامي. أطلب منه أن يرى سيرتك الذاتية، وجهدك، وعملك. كن عصامياً ولا تطلب تقديراً منه إكراماً لآبائك وأجدادك أو عائلتك أو قبيلتك. ليس هذا عدلاً ولا يجب أن تفكر بهذه العقلية الطفيلية. عقلية التسلق والوصول على أكتاف أو عظام الآباء والأجداد. وفقنا الله لما يحبه ويرضاه.