حلَّ شهر رمضان، وحلت معه الخيرات والبركات. وهو مع ذلك موسم الطاعات والقربات وتكفير الذنوب والخطيئات. وهو فوق ذلك شهر الفضائل الكثيرة، والنعم العظيمة، التي منها ما ورد في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) (رواه مسلم).

وقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام المقصود بالصيام الذي هو سبب لتكفير الخطيئات بما كان صادرا عن العبد على إيمان واحتساب، قال عليه السلام: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري). فقد دل هذان الحديثان أن الله تعالى نصب مكافئة لكل من صام أيام شهر رمضان امتثالا لأمر الله وطلب الأجر منه سبحانه، في صورة مغفرة ذنوب الإنسان السابقة، صغيرها لا كبيرها.

ولكي يحصل المسلم على الفضل الوارد في الحديثين السابقين، والمكافأة النصوص عليها سابقا، وجب استحضار الخطوات التصورية والمسلكية التالية:

  • إن أفضل نظرة لشهر رمضان اعتباره ظرفا للتسابق إلى الطاعات والتنافس في القربات، قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية [البقرة،148]. وهذا يدل على وجوب المبادرة إلى الطاعات، والحث على القربات، والاستعجال إلى العبادات عموما، وفي مواسم مضاعفة الحسنات خصوصا، وفي شهر رمضان على وجه أخص.

  • وقريب منه الانشغالُ في هذا الشهر بالمسارعة إلى طلب المغفرة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران،133].

  • على أن المسارعة إلى طلب مغفرة الله إنما سبيلها التنافس في تحصيل الطاعات، والمسارعة إلى العبادات سواء ما تعلق منها بعلاقة العبد بربه (كالصلاة، وذكر الله، وقراءة القرآن، وغيرها)، أو ما ارتبط منها بالمعنى العام للعبادة، في ارتباطه بجميع أوجه الخير والإحسان والبر (كحسن الخلق، والصدق في المعاملة، والإحسان إلى الغير، وتعمير الأرض بالخير والصلاح عموما). وهذا الحض على الإسراع إلى الخيرات قد أكده الله تعالى في قوله:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [الحديد،21].

  • هذا من حيث الطلب. وأما من حيث الخبر، فقد قال تعالى عن طائفة من المرسلين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} الآية [الأنبياء،90]. فظهر بأن علة ثناء الله تعالى على المرسلين المذكورين في سورة الأنبياء، إنما هو مسارعتهم إلى الطاعات. ومعلوم شرعا أن (المسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة) (تفسير الرازي،22/182).

  • وإذا كانت جميع المرجعيات الدينية والقانونية ترشد إلى أن لكل عمل جزاءً، فقد نصب الله الجزاء الوفير للمتسابق إلى الطاعات، قال تعالى في الآية السابقة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران،133]. فقد دلت الآية على أن جزاء المتسابق إلى طاعة الله دخول الجنة. ولتشويق المسلم إلى بذل أقصى جهده لنيل الجنة، فقد ذكر الله تعالى شيئا من وصفها، من خلال بيان عرضها (الذي قياسه السموات والأرض جميعا)، وعدم التطرق لتحديد طولها – وإن كان الطول أطول من العرض ضرورة عقلية وعلمية- لبيان سعتها وعظمها من باب أولى. ولتوضيح ذلك، قال (ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله) (تفسير القرطبي،4/204).

  • ومما ورد في السنة النبوية من الحث على المسارعة إلى الطاعات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) (رواه مسلم). فدل الحديث على الحض على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذر فعلها والاشتغال عنها بما يحدث للإنسان من الفتن الشاغلة، والمتكاثرة، و المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، مما تنحجب معه الرؤيا، وتعظم في الشبه والشهوات. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعا من عظم تلك الفتن، بأن ينقلب الإنسان من الإيمان إلى الكفر -أو العكس- في اليوم الواحد (شرح النووي على مسلم،2/133، بتصرف).

  • ومن ذلك أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ) (متفق عليه). فقد دل الحديث بدليل العبارة إلى أفضل الصدقة، وبدليل الإشارة والإيماء إلى المسارعة إلى الصدقة في خصوصها، وإلى كل الطاعات في عمومها، ما دام الإنسان موصوف بالصحة، يتطلع إلى الغنى، ويمسك عن الإنفاق خشية النقصان. ونظرا لمحبته عليه السلام الأمة ونصحه لها، فقد أمر هذا النوع من البشر بألا يتأخر في الصدقة حتى يكون في فراق من الدنيا وإقبال على الآخرة، حيث يشرع -وقتئذ- في أنواع من الصدقات والهبات والتبرعات.

فائدة الفوائد

إن الله تعالى قد جعل شهر رمضان مناسبة ثمينة لعبادته، والاستزادة من تقواه، والمسارعة إلى طاعته. وهذا يدعو المسلم إلى المبادرة في جعل وقته مليئا بالقربات والطاعات، وهجران المعاصي والمنكرات، دون إغفال مجاهدة النفس في الكف عن المكروهات وفضول المباحات، مع استحضار نعمة إطالة عمر العبد حتى بلغ رمضان هذا. وتزداد هذه النعمة وضوحا باستحضار عدد من المسلمين ممن صاموا رمضان الأخير، بينما هم الآن في قبورهم هامدون، دون نسيان طائفة من المؤمنين أقعدهم المرض، فصاروا عن الصيام عاجزين.