محمد إقبال.. شاعر، ومفكر، وفيلسوف، ومصلح كبير.. نشأ بالهند وأكمل تعليمه بالغرب؛ فنهل من الثقافتين اللتين تبدوان على طرفَيْ نقيض، من الروح والعقل، وتجاوَزَها مستقرًا في فضاء الثقافة الإسلامية ووسطيتها التي تجمع في اتزانٍ بين المثالية والواقعية..

ألّف إقبال العديد من الكتب ودواوين الشعر، وارتفع صوته عاليًا بالتجديد والإصلاح.. امتدت شهرته في أرجاء الهند وما حولها، وفي الثقافة الغربية، وكان من المعجبين به المستشرقة الألمانية “آنّا ماري شيمّل”؛ التي ترجمت بعض مؤلفاته، وكتبت عنه كتابين: “جناح جبريل”، و”إقبال، شاعر باكستان وفيلسوفها”.. كما عُرف إقبال مبكرًا في البلاد العربية بفضل ما تُرجم من شعره العذب.

في الذكرى الـ 139 لميلاد إقبال، حيث ولد في 9 نوفمبر 1877م، وتوفي في 21 إبريل 1938م؛ يُطلّ “إسلام أون لاين” مع المفكر والمترجم الأستاذ محمد يوسف عدس- المستشار السابق بمنظمة “اليونيسكو”- على عالَم إقبال الرحيب، خاصة أنه أعاد ترجمة كتابه المهم “تجديد الفكر الديني في الإسلام” بأسلوبٍ بديع، ونقْلٍ دقيق حرص فيه على أن يتلافي ما وقع في الترجمة السابقة من أخطاء..

فإلى تفاصيل الحوار:

في الذكرى المائة والتاسعة والثلاثين لميلاد محمد إقبال.. هل ترى حاجةً إلى العودة لمنجزه الفكري والفلسفي؟

مرور الزمن لا يطفئ جذوة الفكر المتالّق بل قد يزيده تألّقًا.. ولأن فكر إقبال كان معنيًّا بالنهوض والتجديد وبالحركة والتطوّر؛ فهو مرتبط بالمستقبل، ولذلك فنحن الآن أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى أن نعاود النظر في رؤيته الخاصة ونظراته العميقة فى الإصلاح والتجديد.

امتزجت في محمد إقبال ثلاثة روافد من الإسلام والهند والغرب.. كيف ترى هذا الامتزاج الثقافي؟ وهل كان خصمًا أم إضافة لهويته الإسلامية؟

الأمر يتوقف على أولويات إقبال، وما استقر عليه فكره خلال حياته التي عاشها في هذه الأوساط بوعي فائق وحسّ عميق الإدراك لمكوّناتها، وقدرة فريدة على الاختيار من عناصرها ما ينسجم مع منطقه ومنهجه وطبيعة توجّهاته الفكرية الأصيلة وهويَّته الذاتية، ولا شك أن ثقافة الهند والثقافة الغربية، كانتا حاضرتين في عقله ووجدانه، ولكنه حضور إلهام وعبرة؛ فهو لم يغرق فيهما ولكنه كان مسيطرًا، مالكًا لدفّة سفينته الفكرية؛ فأسقط من حسابه عيوبهما وجوانب القصور فيهما، واستخدم أسمى ما في ثقافة الهند من تحليقاتها الروحية الشرقية والإسلامية، وأعظم ما في الغرب من عشق للمعرفة العلمية والنزعة التجريبية الاستقرائية.

ولم يجد في هذا غرابة ولا افتعالاً، لأنه وجد في الإسلام لقاءً عبقريًّا يجمع بين تجليات الروح والعلم في نسق واحد بلا تعارض ولا صدام، واستطاع أن يكتشف في نصوص القرآن والسنة الصحيحة ما يؤيد رؤيته، بل اكتشف أن منهج العلم التجريبي إبداع قرآني، ومنهج نبوي أصيل غاب عن كثرة من المفكرين المسلمين الذين غرّتهم الفلسفة اليونانية في بادئ الأمر، واستغرقت جهودهم قرونًا حتى استيقظوا وعادوا إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة، فكانوا أول من استخدم منهج التجربة والملاحظة في تحصيل المعرفة العلمية، وأخذها عنهم روجر بيكون لينقلها إلى الغرب.

في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» ذهب د. محمد البهي إلى أن “إقبال” لم يكن إلا مسلمًا أولاً، ومفكرًا غربيًّا في الصياغة والمنهج ثانيًا.. هل تتفقون مع ذلك؟

مع احترامي الشديد للدكتور البهيّ، أقول كان إقبال مسلمًا أولاً وآخرًا.. ولم يكن مفكّرًا غربيًّا بل مفكّرا وفيلسوفًا إسلاميًّا حتى النخاع.. وإنما ترجع أخطاء من كتب عنه من الكُتاب العرب ناقدًا أو مادحًا إلى أخطاء في الترجمة العربية الأولى لأهم كتبه ” تجديد الفكر الديني في الإسلام”، مما أدى إلى أخطاء فكرية شاعت عنه.. وبالتالي استنتج منها القراء أفكارًا خاطئة عن إقبال.. وهذا ما حاولت تفاديه في ترجمتي للكتاب.

فإقبال لم يكن منبهرًا بحضارة الغرب، رغم أنه كان من أقوى الدعاة إلى الاستفادة بعلومهم الطبيعية، ومناهجهم العلمية في الدراسة والبحث؛ إلا أنه كان على يقين أن هذه الحضارة المادية العوراء تسير إلى حتفها بخطى حثيثة، وأن مآلها إلى انهيار أكيد؛ وفي ذلك يقول في إحدى قصائده:

يا ساكني ديار الغرب ليست أرض الله سُوقًا وحانوتًا

إن الذي توهّمْتُموه ذهبًا خالصًا سترونه زائفًا

وإن حضارتكم ستقتل نفسَها بخنجرها

لأن العش الذي يقام على غصن هشٍّ مآله إلى السقوط

لماذا غاب تأثير إقبال في الثقافة العربية، خاصة على المستوى الفكري، بخلاف حضوره في ثقافات أخرى؟

 لقد كتب إقبال مؤلفاته الفكرية والفلسفية وحاضر باللغة الإنجليزية، وكتب شعره باللغتين الأوردية والفارسية، ولذلك كان تأثيره كاسحا في الهند وباكستان وإيران وأفغانستان، وفى آسيا الوسطى بصفة عامة.. وفهمه وأعجب بفكره الفلسفي مفكرون وفلاسفة معاصرون له من البريطانيين والأوربيين، وكان بينهم وبينه حوارات ومراسلات.. ولكنه لم يكتب بالعربية، رغم إجادته لها، إجادة أهّلته للتعيين في منصب عميد للعربية في الكلية الشرقية بجامعة البنجاب فور حصوله على درجة الماجستير.

ولكن بالنسبة للعالم العربي كاد حضوره وتأثيره ينحسر في جانبه الشعري، وما كان ليبلغ هذا المدى الذي بلغه في الثلاثينات حتى الخمسينات من القرن العشرين إلا بفضل أحد أكبر عُشاقه ومريديه في مصر والعالم العربي، وأقصد به الشاعر والأديب الفذ الدكتور عبد الوهاب عزام الذى كرّس وقتًا وجهدًا فائقًا لترجمة دواوين وقصائد إقبال من الفارسية إلى العربية، وقام بنشرها والتغنّي بها على أوسع نطاق.

أما غياب إقبال عن الفكر العربي فيرجع كما سبق أن أشرت إلى سوء الترجمة العربية الأولى لأهم كتب إقبال “تجديد الفكر الديني في الإسلام.. وأعذر الذين تصدّوا لهذه الترجمة لأن لغة الكتاب الإنجليزية كانت لغة غير مألوفة تنتمى إلى القرن التاسع عشر، ولأن صياغة إقبال الفلسفية لها كانت شديدة التعقيد إلى درجة الانغلاق.. وهذا ما حاولت في ترجمتي للكتاب تفاديه.

وثانيًا- لأن من تعرّض لشرح وتقديم إقبال إلى القراء العرب لم يميز بين كتابات إقبال الدقيقة ذات المنطق المحكم في مؤلفاته الفكرية، وبين إبداعاته الشعرية التي حلّق فيها إقبال بوجدانه، بعيدًا عن المنطق الجاف، فبدت بعض عباراته الشعرية وكأنها شطحات صوفية مجافية لروح الفقهاء التي تتميز بالجفاف، بل الجمود الوجداني.

جمع إقبال بين الغوص في أعماق الفلسفة، سيّما المدرسة الألمانية، والتحليق في فضاء الروح.. كيف ترون جَمْعَه بين هذين المجالين المتباعدين؟

إذا كنت تقصد أن أبرز ما يتميز به التفكر الفلسفي هو دقة المنطق وصرامته، وأن هذا ما ينأَى به، عن التجربة الشعرية التي تعتمد على اتقاد العاطفة والتحليق في أجواء الروح.. وأن التعبير اللغوي عن هذا وذاك لابد أن يكون مختلفًا متمايزًا- فهذا صحيح، وهذا الفارق- بالفعل- هو ما يجعل الفيلسوف فيلسوفًا، والشاعر شاعرًا.. وهذا ينطبق على أغلب الفلاسفة وأغلب الشعراء.. ولكن هناك دائمًا استثناءات في طبائع البشر، وتتجلى هذه الاستثناءات عند العباقرة منهم؛ وكان من سمات عبقرية محمد إقبال أنه استطاع أن يجمع في كيانه بين عبقرية الفيلسوف والعالم المدقق الذى يبحث في جذور الأشياء وأصول الحقائق ويعبر عنها بمنطق محكم صارم- من ناحية، وبين عبقرية الشاعر الملهم الذى يحلّق بوجدانه وخياله في آفاق الروح الانسانية، وفى ملكوت الكون الفسيح.. ويعبر عن هذا التحليق بأرق الكلمات، وأبدع العبارات التي خلّدته كشاعر عالمي آسر، اجتذب عقولاً وقلوبًا شتى من الشخصيات البارزة في الشرق والغرب، فكتب عنه وترجم له أشعارَه عشاقٌ كثيرون في أوربا وآسيا وبلاد العرب.

iqbal

الرمز والمجاز في شعر إقبال وفكره لهما حضور طاغٍ.. إلى أي مدى حَجَبَاه عن القاعدة العريضة من القراء؟

ما أظن أن استخدام الرمز والمجاز في التعبير الشعري قد حجب إقبال عن القاعدة العريضة من عشَّاق الشعر.. فقد كان له قراء بالملايين في الهند وآسيا ممن يقرأون الفارسية والأُرْدِيَّة، كما كان له قراء باللغات الأخرى التي أحسن مترجموه ترجمة أشعاره إليها؛ كما حدث في اللغة العربية على يد الدكتور عبد الوهاب عزام الذى سبق أن أشرنا إليه، والصاوي محمد شعلان الشيخ الأزهري الذى غنت له أم كلثوم “حديث الروح” فانتشرت في العالم العربي من الخلج إلى المحيط.

العيب في الكُتّابِ الذين حاولوا تحميل النصوص الشعرية معاني أكثر مما تحتمل، يريدون بتأويلها أن يستغنوا بشعر إقبال عن أفكاره الصعبة التي سجلها في كتبه ومحاضراته؛ حيث كان إقبال يتوجّه بخطابه إلى الفلاسفة وكبار المفكرين.. وقادة المستقبل الذين سيبنون الدولة الإسلامية كما بشّر بها إقبال، وعكف مع صديقه محمد أسد على تصميم أُطُرِها الفكرية، ووضع دستورها قبل أن تتحقق في الواقع العملي. أما في شعره فكان يتوجّه به لعامة الخلق ويخص به المسلمين، ليرتفع بأرواحهم وذواتهم إلى آفاق عليا من النهضة، ويستحثُّهم على الأخذ بمقوّمات الوعي الأخلاقيّ والحرية..واكتساب الشخصية المستقلة وتعميق الهوية الإسلامية..

“تجديد الفكر الديني”.. موضوع محوري في فكر إقبال، وأفرد له كتابًا، قمتم بإعادة ترجمته بعد ترجمته الأولى التي صدرت سنة 1955؛ ما أهم معالم التجديد الذي يدعو إليه إقبال؟

الحقيقة أن التجديد الذى دعا إليه إقبال شمل كل شيء عن الإنسان ومجتمعه: نظرة الإنسان إلى نفسه باعتباره خليفة الله في الأرض وما ينبغي أن يتحقّق فيه من خصاص وصفات ذاتية، ونظرته إلى خالقه وراعيه، وما يجب لهذا الخالق المنعم من الحب والحمد والشكر، ونظرته إلى نظرائه من البشر وعلاقاته بهم ابتداء من الأسرة، والآباء والأبناء والزوجة، وما ينبغي لهم من رعاية وتربية ونصح، وعلاقة المجتمعات بعضها ببعض، التي تقوم على التعارف والتعاون على البِرٍّ والتقوى، وإلى الكون الذى هو مخلوق لله، تتجلّى فيه آياته وعجائبه، التي ينبغي أن يتوقف عندها الإنسان، لا لكي يتأمل فيها فقط، ويستشعر ما فيها من جمال خالقها وجلاله، ولكن أيضًا، ليستوعب القوانين التي تحكمها، ويستخدمها في عمارة الأرض بكفاءة العلماء، لتحقيق مسئوليته المنبثقة من معنى الاستخلاف في الأرض. وعلاقة الإنسان بدينه وشريعته وما يتوجّب عليه نحوهما من رعاية، ونُصرة وفداء.

مَن ترونه أقرب لإقبال، فكرًا وفلسفة، من بين مفكري العرب المعاصرين له؟

رغم أن لكل مفكر عبقري سمات خاصة يتميز بها، إلا أنني أستطيع أن أرى أوجه شبه قوية بين محمد إقبال، وعلى عزت بيجوفيتش، ومحمد أسد، ومالك بن نبي والشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والطاهر بن عاشور، وربما غيرهم كثير، ولكني لا أستطيع أن أتحدث عنهم بثقة، كما تحدثت عمّن ذكرتهم؛ لأني درست حياتهم وأعمالهم باستفاضة لم تتح لي مع غيرهم من المفكرين.

ما الذي يمكن أن يقدمه إقبال لإشكالاتنا الراهنة؟

طالما ظلَلْنا نستبعد من حلول مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصاديةِ- الفكرَ الإسلاميَّ وشريعته، فسنظل فقراء روحيًّا ومادّيًّا، تائهين ضالين، عن سواء السبيل.. وسنظل في مسيس الحاجة إلى الرجوع إلى فكر محمد إقبال وصحبه ممن ذكرتهم آنفًا، ليكونوا لنا مشاعل تضيء طريقنا إلى الحق والصواب، وتكشف لنا عن كنوزنا الكامنة في القرآن والسنة النبوية الصحيحة..! فليس لمشكلاتنا ولا لمشكلات العالم كله من حولنا حلولا حقيقية ناجعة في الحضارة الغربية؛ فالكل أصبح عاجزًا عن حلول مشكلاته المزمنة، ولكنها الكبرياء والعناد الأعمى الذى لا حدود له ولا علاج له..!