فقد خرج المسلمون قريبا من مدرسة شهر رمضان التربوية ، والتي درسوا فيها الكثير من المبادىء العظيمة ، والأخلاق الكريمة ، واليوم يدخل المسلمون مدرسة أخرى من المدارس التربوية الإسلامية المباركة ، التي اختارها الله لهم ، وأتم بها عليهم نعمته ، وهي مدرسة الحج الإيمانية التربوية ، فيتعرفون فيها أيضا على بعض القيم الإيمانية والأصول الإسلامية ، والأخلاق الفاضلة ، ويربون أنفسهم عليها .
يتجلى لنا في مدرسة الحج الإيمانية التربوية معاني عظيمة ، ووقفات نافعة للمسلم في دينه ودنياه ، يمكن أن نتعرف عليها فيما يلي :
1- الإخلاص: فالحج فريضة تشع جوانبها بإخلاص العبادة لله رب العالمين ، وحده لا شريك ، وتنطق أركانها بإفراد الله عز وجل بأنواع القربات .
يقول الله تعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } [الحج:26. ]
فانظر كيف بدأ أمر الله عز وجل لخليله إبراهيم عليه السلام بأن يترك الشرك بالله بكل صوره وأشكاله ، أي أمره بإخلاص العمل لله تعالى، وأن يطهر بيته الحرام من كل أنواع الشرك صغيرا كان أو كبيرا هذا ما يدل عليه قوله { أن لا تشرك بي شيئا} .
وكذلك أول ما نطق به رسول اللَّه ﷺ في هذا النسك هو الإخلاص ، ففي حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم : « فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك». وهو أول ما يعلن عنه الحاج في حجه أو عمرته .
ولما صلى الركعتين خلف المقام ، قرأ فيهما بـ (قل هو الله أحد) و ( قل يا أيها الكافرون ) وهما سورتا التوحيد والإخلاص ، فسورة الإخلاص فيها التوحيد العلمي وسورة الكافرون فيها التوحيد العملي .
ولما رقى ﷺ على الصفا كبر الله ثلاثا ثم هلل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . لا إله إلا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده .
فهذه مواطن في الحج حقق فيها التوحيد وذكر نفسه والمسلمين به ، لأنه أعظم حقوق الله على عباده .
وهكذا فكل عبادة وطاعة من صلاة أو صدقة أو صيام أو ذبح لا بد أن تبنى على الإخلاص حتى يقبلها الله تعالى ، فما لم يبن على الإخلاص لا يقبله الله من عبده ، بل هو مردود عليه ، كما قال تعالى في الحديث القدسي : ” أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه ” رواه مسلم .
2- الطهارة : ومن المعاني العظيمة التي نستشعرها في الحج والعمرة : التطهر .
حيث يقول الله تعالى في هذا : {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } وما المقصود بالطهارة هنا ؟ هل هي طهارة البدن والثياب فقط ؟
لا أن المطلوب أكثر من ذلك .
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: «وطهر بيتي» قال قتادة ومجاهد: من الشرك.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : الطهارة أنواع :
1- منها الطهارة من الكفر والفسوق، كما يراد بالنجاسة ضد ذلك ؛ كقوله تعالى { إنما المشركون نجس } [التوبة: 28].
2- ومنها: الطهارة من الحدث ، وضد هذه نجاسة الحدث.
3- ومنها: الطهارة من الأعيان الخبيثة التي هي نجسة. (مجموع الفتاوى 21/67، 68.)
وهكذا قال العلماء في المراد من قوله تعالى: ( وثيابك فطهر ) [المدثر: 4] أن الآية تعم كل ما ذكره ابن تيمية سابقًا، من طهارة القلب، فطهارة الثوب والبدن ، فطيب المكسب ، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة ، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك ، ولذلك حرم الله ما حرم لحوم السباع وكذا جلود السباع ، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات التي تؤكل لحومها أو تلبس جلودها ، فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن . [وانظر إغاثة اللهفان 1/69].
3- الاستجابة : ومن المعاني الجليلة المقصودة في مدرسة الحج الإيمانية التربوية : الاستجابة لله تعالى بفعل الأوامر وترك النواهي والزواجر .
فقد أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس إلى الحج ، فقال له: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } (الحج:27 .) فاستجاب إبراهيم عليه السلام لأمر الله تبارك وتعالى ، فنادى بذلك النداء الرباني ، واستجاب الناس لدعوة إبراهيم عليه السلام ، وكل من كتب الله له الحج ، فحجه أبناؤه وأحفاده من النبيين والمرسلين ، ثم من بعدهم من أنبياء الله ، ثم سائر الناس ، وما يزالون يستجيبون حتى الآن ، إلا من حرمه الله تعالى ذلك من هذا الفضل العظيم ، والكرم الواسع ، نعوذ بالله من ذلك.
ويقول الله تبارك وتعالى أمرا عباده بهذا الخلق وهذه الصفة : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } [الأنفال: 24].
قال البخاري: «استجيبوا» أجيبوا «لما يحييكم» لما يصلحكم.
وروي في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي فمر بي النبي ﷺ فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته ، فقال : «ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ؟!» ثم قال: « لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج ..(الحديث).
4- الذكر : من مقاصد الحج العظيمة : ترسيخ عادة ذكر الله تعالى في الإنسان ، فيذكر الله تعالى دائما وعلى كل حال ، قاعدا وقائما وراكبا ، وكلما تحول من حال إلى حال ، وهو من مطالب الدين الجليلة في كل امة ، كما قال تعالى ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ) الحج : 34 .
وقال تعالى ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وأن كنتم من قبله لمن الضالين ) البقرة : 198 .
وهذا في ذكر الله في الإفاضة من عرفة وفي مزدلفة بصلاة الفجر وغيرها ، بعد أن أمضى الحاج يومه في التهليل والدعاء في عرفات .
وقال سبحانه في الذكر عند رمي الجمار ( واذكروا الله في أيام معلومات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) البقرة : 203 .
وقال في فراغهم من حجهم وعبادتهم ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) البقرة : 200 .
أي : أن يستغفروا من التقصير الواقع في مناسكهم وذكرهم لربهم على الوجه المطلوب منهم .
وهكذا تتوالى النداءات الربانية بذكر الله تعالى خلال مناسك الحج المتنوعة ، حتى لا يكاد يخلو منها منسك ، بل قال ﷺ : ” أفضل الحج العج والثج ” رواه الترمذي وابن ماجة . والعج هو رفع الصوت بالتلبية .
5- الإنفاق في سبيل الله : ومن الخصال العظيمة التي يتعود عليها المسلم في حجه : بذل المال في سبيل الله تعالى .
فالمسلم الذي يأتي إلى الحج من كل فج عميق ، راكبًا الطائرة أو السيارة أو السفينة وغيرها ، يتكلف ويدفع المال لأجل القيام بهذا الركن الخامس من أركان الإسلام الذي لا يتم دينه إلا به ، وما الذي يدعوه إلى هذا الإنفاق في سبيل الله تعالى من أجل الحج إلى بيت الله عز وجل ؟! إلا طلب رضا الله تعالى ومغفرته والجنة .
ثم يجد التوجيهات الربانية الكثيرة التي تدفعه للإنفاق في سبيل الله : منها الأمر بذبح ” الهدي ” للقارن والمتمتع ، وكذلك في الفدية لجبر القصور الحاصل في أداء المناسك ، وتوزيع تلك الذبائح على الفقراء والمساكين من أهل مكة وغيرهم ؛ كما قال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } [الحج:28]، وقال { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } [الحج:36].
6- الهداية : ومن المعاني العظيمة في مدرسة الحج الإيمانية التربوية : الشعور بالاصطفاء والهداية من بين سائر الناس ، وهي نعمة لا تقدر بثمن ، ولا تعادلها أي نعمة عاجلة
يقول الله تبارك وتعالى في هذه النعمة : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) [البقرة:198].
أي : اذكروا الله تعالى كما من عليكم بالهداية بعد الضلال ، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فإنها من أكبر النعم التي يجب شكرها بالقلب واللسان .
ويقول تبارك وتعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين } [الحج:37].
فمناسك الحج مظهر من مظاهر شكر الله تبارك وتعالى على هدايته لنا ، فربنا هو الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، فله أكمل الثناء ، وأجل الحمد .
7- الإحسان: ومن المبادىء التي يتربى عليها المسلم في الحج : الإحسان ، الإحسان بكل أنواعه وصوره ، الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى المخلوق ، فيعبد الله الخالق تعالى كأنه يراه ، فإن لم يصل إلى هذه الرتبة فليعبده معتقدا أنه يراه وقت عبادته ، فيؤدي نسكه وحجه وفق الهدي النبوي الثابت عنه ﷺ كما قال : ” خذوا عني مناسككم ” .
ويحسن كذلك لعباد الله بجميع وجوه الإحسان ، بأن ينفع الناس بماله وصدقاته ، وما يقدمه من الذبائح والهدايا والأضاحي ، كما قال تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } [الحج:28]،
وكذلك يحسن لعباد الله بأن يعلم جاهلهم ، ويرشد ضالهم ، ويذكر غافلهم ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، كل ذلك بكلمة طيبة ، وموعظة حسنة ، ورفق ولين وعلم وحكمة .
وغيرها من المباديء الجليلة التي تستفاد من هذا الركن المبارك.