الكلام في ألفاظ الحديث وأسانيده ومصطلحاته وعلله وثبوته ومعانيه ومقاصده مردها إلى أهل العلم بالحديث {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة: 189] وليس لكل من ينتسب إلى العلم حق البت والخوض في رد أو قبول الحديث إلا أن يتأهل لذلك، والناظر غير المتخصص في كلمات المحدثين: “هذا حديث صحيح” وهذا “حديث إسناده صحيح” وهذا “حديث إسناد رجاله ثقات” وهذا “حديث إسناد رجاله موثوقون”…قد يظن هذه المصطلحات مقتضية صحة المنقول على السواء، وعلى دوام التلازم بين صحة الإسناد والمتن، ولكن ليس الأمر كذلك، وبيان ذلك فيما يلي:
أولا: قولهم “هذا حديث صحيح” يعنون به الحديث المتوفر شروطه من حيث 1- الاتصال؛- بدءا من أول السند إلى منتهاه، فيكون قد تحمل كل راو ممن فوقه بطريقة من طرق التحمل حتى تنتهي سلسلة السند إلى منتهاه،- 2- وتحقق عدالة رواته، 3- وتمام ضبطهم للمتن صدرا كان أو كتابة، 4- ومن حيث سلامة المتن الشذوذ 5- وخلوه من العلة القادحة. فأي حديث توافرت فيه هذه الشروط الخمسة كان مقبولا عند جميع أهل العلم.
يقول ابن الصلاح رحمه الله:” ومتى قالوا: “هذا حديث صحيح”، فمعناه: أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة[1] يعني الشروط السابقة.
ثانيا: قولهم “حديث إسناده صحيح” لا يساوي قولهم “هذا حديث صحيح” ولا يعني أنهم يقصدون صحة الحديث أو ضعفه، إذ صحة السند لا تستلزم صحة المتن معا، فالجهة منفكة بين السند والمتن ولا تناقض ولا تعارض، ولكن لا يمكن تعليل المتن إلا بالسند.
قال العلامة المعلمي: “إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر الإسناد الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر”.[2]
يقول ابن الصلاح: قولهم:”هذا حديث صحيح الإسناد، أو حسن الإسناد”، دون قولهم: “هذا حديث صحيح أو حديث حسن” لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح، لكونه شاذا أو معللا.[3]
ولأن الإمام من أئمة الحديث – كما قال طاهر الجزائري – لا يعدل عن قوله: “صحيح” إلى قوله “صحيح الإسناد” إلا لأمر ما، .. فالتقييد بالإسناد ليس صريحا في صحة المتن أو ضعفه، ويشهد لعدم التلازم ما رواه النسائي من حديث أبي بكر بن خلاد عن محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة “تسحروا فإن في السحور بركة” قال: هذا حديث منكر وإسناده حسن.[4]
وقال ابن القيم: وقد عُلِم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألاَّ يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم.[5]
ولكن قال الحافظ ابن حجر: “من عرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك، ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معاً وتقييده على الإسناد فقط، ومن عرف من حاله أنه لا يصف الحديث دائماً وغالباً إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال في حقه ما قال المصنف[6] يعني ابن الصلاح.
وعلى كل حال، فعبارة “صحيح الإسناد” ليست بمنزلة عبارة “حديث صحيح” من حيث القبول دائما.
ومن تأمل كتاب مستدرك الحاكم وغيره من المتأخرين يجد هذا الاستخدام بشكل واسع، وكثيرا تجد الحاكم يقول عقب الحديث “هذا حديث صحيح الإسناد على شرطهما” ونحو ذلك من العبارات لا تكاد تحصى، بل يعلل المتن آحيانا مع قوله بصحة السند، كما في حديث رقية بنت رسول الله ﷺ ورضي الله عنها، أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليها وأوصاها بعثمان رضي الله عنه قائلا: «أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا» فقال الحاكم عقبه: “هذا حديث صحيح الإسناد واهي المتن.
وكذا يفعل مثل هذا البيهقي والخطيب.
ثالثا: قولهم: “هذا حديث إسناد رجاله ثقات” دون عبارة “صحيح الإسناد” ولا يستفاد من قولهم “إسناد رجاله ثقات” إلا الحكم الخاص بدرجات الرواة، والذي دل على أن كل واحد من رجال السند قد جمع بين العدالة والضبط، وكأن المحدث بهذه العبارة “رجاله ثقات” لا يتعرض لحكم نهائي في الحديث الذي أورده، وإنما يريد أن يخبر عن أحوال النقلة الظاهرة فقط، بغض النظر عما قد يعترى السند والمتن من العلل كالانقطاع والتدليس والشذوذ والعلة الخفية القادحة.
رابعا: قولهم: “هذا حديث إسناد رجاله موثوقون” دون عبارة “هذا حديث إسناد رجاله ثقات” وذلك أن وصف الراوى بأنه “موثق أو وثقوه أو وُثق ونحو ذلك” يعنى وجود اختلاف في توثيقه بين أهل العلم بالحديث، مما يجعل أن تنزل درجة الراوى عن وصف “ثقة” الذي توفر فيه العدالة والضبط، وكتب الرجال طافحة بالإشارات إلى هذا النوع من الرواة، وقد صنف الإمام الذهبي الكتابين في التوضيح بين المنزلتين، وعنون لكتابه الأول بــ “أسماء مَن تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّقٌ”، وقال في مقدمته: “أما بعد: فهذا فصل نافع، في معرفة ثقات الرواة الذين تَكَلَّمَ فيهم بعض الأئمة بما لا يوجب رد أخبارهم، أو فيهم بعض اللين، وغيرهم أتقن منهم وأحفظ، فهؤلاء حديثهم إن لم يكن في أعلى مراتب الصحيح فلا ينزل عن رتبة الحسن، اللهم إلا أن يكون للرجل منهم أحاديث تستنكر عليه، وهي التي تُكُلِّمَ فيه من أجلها، فينبغي التوقف في تلك الأحاديث. ثم عمد الإمام الذهبي إلى فصل رواة ثقات الذين لا يقبل الطعن فيهم ألبتة في كتاب آخر أسماه:” الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم”. لكونهم أهل الديانة والضبط بل من أئمة المحدثين، فلا عبرة بطعن الطاعنين ولا جرح الجارحين نظرا لشهرتهم في اتقان العلم والعمل.
وقال الإمام الذهبي في الموقظة: “الثقة: من وثقه كثير ولم يضعف، ودونه من لم يوثق ولا ضعف، فإن خرج حديث هذا في الصحيحين، فهو موثق بذلك.”[7]
والمقصود أن قول المحدث “هذا حديث إسناد رجاله موثوقون” ليس مما يفرح به أو يركن إليه في قبول الخبر دائما، وإن كان مشعرا بالصحة ولكن لا بد من مزيد البحث قبل الجزم بثبوته.
ولذا يجب أن يلاحظ إطلاق مثل هذا الحكم على الحديث عند المنذري والعراقي والهيثمي والبوصيري وغيرهم من المتأخرين والمعاصرين، وأكثرهم إطلاقا لهذه المصطلحات المنذري في كتابه “الترغيب والترهيب” والهيثمي في عموم كتبه الزوائد لا سيما “مجمع الزوائد” وفيها عبارات: رجاله رجال الصحيح، ورجاله ثقات، أو موثوقون وما أشبه ذلك، وهذا التصرف يؤيد رأي ابن الصلاح في عدم استقلال المتأخرين على الحكم بصحة الحديث سندا ومتنا دون أن يكون لهم السلف في ذلك، لأن التجاسر على الجزم بصحة الحديث برمته من خصائص المتقدمين النقاد. وقال السيوطي:” والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله تعالى[8]
فالحاصل أن مصطلح “حديث صحيح” أعلى درجة في قبول الخبر، ثم يليه في الاعتبار “إسناده صحيح، صحيح الإسناد، سنده صحيح” ثم يليه مصطلح “إسناد رجاله ثقات” ثم يليه “إسناد رجاله موثوقون” إلا أن الحكم على الأسانيد منفردة بالصحة لا يستلزم صحة المتن.