يتفق المؤرخون على أن الحضارة الإسلامية بلغت أوج ازدهارها ونضجها خلال العصر العباسي، سيما الشطر الأول منه، وقد بالغ العباسيون في الاعتناء بالمدينة فبنوا بها القصور وزخرفوها وأحاطوها بالبساتين وأقاموا بها الأسواق ودور العلم والحكمة والبيمارستانات ومراكز الترفيه حتى فاقت روما وغيرها من المدن العظيمة. نتعرف في الأسطر التالية على ملامح من حضارة بغداد في العصر العباسي .

بناء دار السلام

ذكر الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) أن أبا جعفر المنصور بويع بالخلافة عام 136ه، وأنه شرع في وضع أساس المدينة عام 145، وأنه أحضر المهندسين وذكر لهم صفة المدينة التي يرجوها، واستدعى إليه من كل بلد أهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الأرضين والبنائين والصناع من الحدادين والحفارين والنجارين حتى اجتمع لديه على ما قيل نحو مائة ألف من أرباب المهن والصناعات، وحدد لهم رواتب وأجور معلومة[1] .

 وقد افتتح المنصور البناء في حفل مشهود حضره كبار رجال الدولة، ووضع أول لبنة بيده وقال”بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم أمر عماله بأن يبدأوا في البناء على بركة الله”، وكان تخطيطها دائريا وقال اليعقوبي لم يعرف مدينة مستديرة سواها وأنها بنيت على هذة الهيئة لئلا يكون الخليفة إذا نزل وسطها إلى موضع أقرب منه إلى موضع، وقد أحيطت البلدة بسورين لكل منهما أربعة أبواب، كان يلج منها القادمون إليها من الجهات المختلفة.

كانت بغداد موضع عناية الخلفاء واتخذوها حاضرة لخلافتهم ولم يبخلوا عليها حتى صارت” ليس لها نظير فى مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبرا وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء” كما وصفوها اليعقوبي، وليس في قوله مبالغة إذ روى لنا المؤرخون ما يدعم هذا القول فكان للمدينة قصورها وحدائقها الفريدة وملاهيها وأسواقها وما إلى ذلك من مظاهر التحضر والعمران.

الحدائق والمتنزهات

أنشأ العباسيون في بغداد حدائق غناء تعد خير مثال لفن تنظيم الحدائق في عهدهم، وهي تعد امتداد لما عرف عن العرب من اعتناء بالحدائق في مأرب وبساتين الطائف وغيرها، وقد اختار العباسيون لحدائقهم مواقع تتميز بجمال الطبيعة، وجلبوا لتنظيمها كل من له خبرة بالزرع والنخل والغرس، وهندسة المياه، وروي أنهم زينوا أشجارها وألبسوها المعادن الثمينة وزخرفها، ونشروا في أرجائها الميادين والتماثيل والصور، وأنفذوا فيها الأقنية والأنهار، ومن أمثلة حدائق بغداد (حديقة المقتدر) وقد غرس بها نحو أربعمائة شجرها جميعها ذات خمسة أمتار زينت جميعها بحلقات مذهبة، وتوسط الحديقة بركة طولها ثلاثون ذراعا وعرضها أربعة وعشرون ذراعا وحولها المقاعد والفرش المدبجة، ويروى أن المقتدر أنفق عليها مائة ألف دينار.

حدائق الحيوان

وكان العرب يطلقون عليها اسم (الحير)، ويتضح من المصادر التاريخية أنهم اعتنوا بها في مدنهم قبل الغرب بنحو ألف عام، وأول حديقة من هذا النوع أنشأها هشام بن عبد الملك الأموي بالشام، وبلغت مساحتها تسعة كيلوا مترات وسورت بسور لحصر الحيوانات بداخلها، وقد ضمت حميرا وغزلانا وأرانب وطيورا نادرة. وأما في العصر العباسي فقد اشتهرت بغداد بمثل هذه الحدائق، وخطت لها الساحات وأعدت فيها أبراج الحمام وأقفاص الطيور وحظائر الحيوانات وأقفاص الضواري والحيات والزواحف، وكان المقتدر مولعا بتربية الحيوانات الأليفة والضارية وأقام لها (حيرا) في دار الخلافة ببغداد، ويذكر المؤرخون أن كل صنف من صنوف الحيوانات كل له مكان مخصوص بها، فكان فيها أربعة أفيال، ومائة سبع، وزرافات وفهود قيدت جميعا بالسلاسل والقيود الحديدية.  ومن حدائق حيوانات بغداد المشهورة حديقة الوزير ابن مقلة التي بناها على نهر دجلة، وكانت بنيت على شكل بستان عظيم مربع، وفي سور البستان بنيت أعشاش للطيور تأوي إليها وتفرخ وكان بها القماري والشحارير والبلابل، وخلف السور وضعت الطيور التي لا تطير كالطواويس والطيور الملونة، وفي وسط الحديقة كان الغزلان والإبل والنعام وبقر الوحش وغير ذلك من الحيوانات[2].

الألعاب الرياضية والترفيهية

شاع في بغداد عدد منها، وفي مقدمتها ما سماه ابن الجوزي (السعي والصراع) وذلك أن معز الدولة البويهي احتاج إلى السعاة بينه وبين أخيه مدينة الري، فتقدم أحداث بغداد وشبابها لحمل الرسائل وكانوا يقطعون المسافات الطويلة سيرا في زمن يسير ويجزون على ذلك مبالغ عظيمة، ونشأ من ذلك ساعيان يقطعان ما يزيد عن ثلاثين فرسخا يوميا من طلوع الشمس إلى غروبها، ثم قسم الطريق فكان لك قسم منه سعاة يواصلون عمل بعضهم البعض، فصار أئمة السعاة ببغداد وانتسب السعاة إليهم وتعصب لهم الناس، ثم نظمت بين السعاة والعدائين المسابقات وكان هناك معلمون يدربونهم على العدو والجري إذ يروى أنه كان هناك عداء ذائع الصيت يسمى معتوق الموصلي لقب بالكوثر، وكان له معلم يسمى الشرابي، وأنه كان يسابق عداء آخر هو علي بن الأردبيلي وأن الخليفة المستعصم وأولاده وعامة الناس كانوا يخرجون للتفرج عليهما، وكانت مسافة السباق بينها في بعض الأحيان طويلة إذ يروى صاحب (الحوادث الجامعة) أنه في عام 646 سعى علي بن الأردبيلي من داقوقا إلى بغداد فوصلها بعد العصر وأنه سبق معتوقا بنصف ساعة وسبع دقائق.

أما الصراع فكان معز الدولة يأمر بعمل حلقة يقام في وسطها شجرة تزين بالديباج، ويوضع تحتها أكياس من الدراهم، ويؤذن للعامة بالدخول فمن غلب أخذ الديباج والشجرة والدراهم، ثم صار يعمل في كل مدينة صراعا وأجريت على الفائزين الجرايات.

ومن الألعاب التي اشتهرت ببغداد لعب النرد أو الشطرنج، وأول من أدخلها وأولع بها هارون الرشيد، وتابعه في ذلك خليفته المأمون، وكان يلعب على ورقة مربعة وبها اثني عشر أو أربعة وعشرون منزلا، بثلاثون حجرا أو فصين، وقد شبه بعضهم رقعة الشطرنج بالأرض لأن عدد مربعاتها أربعة وعشرون عدد ساعات الليل والنهار، وحجارتها عددها ثلاثون عدد أيام الشهر، واختلاف ألوانها باختلاف سواد الليل عن بياض النهار[3]

وعلاوة على هذه الألعاب الرياضية عرف نفر من أهل بغداد بالألعاب السحرية، إذ شاع أن أحدهم نصب حبلين على ارتفاع أربعين ذراعا عن الأرض وراح يمشي عليهما مشيا سريعا ماضيا وراجعا إلى وراء وهو يرتدي نعالا خشبية وفوق رأسه طفل صغير، وفي مرة أخرى وضع فوق رأسه جرة مملؤة ماء وراح يعدو بها فوق الحبل ذهابا وجيئة مما أدهش العقول، فحصل من وراء ذلك مالا غفيرا.[4]

القصور والدور

عني العباسيون بتشييد القصور الضخمة، وبلغت درجة عظيمة من الاتساع، وأولى القصور التي بنيت بها قصر (باب الذهب) الذي بناه المنصور، وهو ذو قبة خضراء ارتفاعها ثمانون ذراعا، وعلى رأسها ظهر تمثال ممسك برمح في يده، وبنى المنصور قصرا آخر ناحية خراسان سمي ب(الخلد)، وكان به قباب بديعة وأبواب بمسامير من ذهب وفضة وتخللته عمد كثيرة زينت بنقوش بديعة، وفي وسطه فرشت الأرض بالبسط والديباج وكتب عليهما أبيات شعرية تمتدح المنصور.

كما اهتم البغداديون من أهل اليسار بدورهم المشتملة في الغالب على طابقين، وكانت تبني بالجص والآجر وأقاموا حولها قبابا زخرفت بالآيات القرآنية وحدائق محاطة بأسوار وأشجار، أما العامة فكانت منازلهم من طابق واحد وتختلف في الاتساع بحسب ثروة صاحبها، وكان لها نوافذ تطل على الشوارع مباشرة.

وقد أخذ العباسيون عن الفرس تقنية تبريد درجات الحرارة صيفا فكانوا يغطون جزءا من منازلهم بطبقة من الطين، تجدد من حين لآخر، وكانوا يقضون نهارهم في هذا الجزء، كما كانوا يرصفون حولها كميات كبيرة من القصب، ويروى أن الرشيد أول من استخدم المروحة إذ أمر بصنع مروحة ضخمة من الخيش كشراع السفينة، وقد علقت بالسقف وكان لها حبل يحركها، ومن آن لآخر كانت تبل بالماء الممزوج بالورد لترطب الهواء، وأما طبيبه فكان له غلمان في منزله يضعون الثلج في أواني ضخمة ويروحون حوله فيتطاير الهواء البارد في جميع الأنحاء.

وقد عمل العباسيون على توفير المياه النقية فأنشأوا جداول صغيرة تأخذ من نهري دجلة والفرات، وكانت الشوارع تكنس وترش بانتظام، ولم يسمح قط بإلقاء القاذورات فيها، وقد أضيئت ليلا بالمصابيح[5].

نظام إطفاء الحرائق

عرفت بغداد نظاما دقيقا لإخماد الحرائق، ومن المعلوم أن الحرائق تقع لأسباب معلومة منها ما هو قضاء وقدر من مثل ينشأ بفعل الصواعق السماوية، ومنها ما ينشأ متعمدا أو نتيجة الحروب والفتن الداخلية، ويبدو أن بغداد كان بها وسائل تحفظ من الحريق من مثل تجهيز حبوب الماء التي توضع في أعلى المساكن، وحفر الحياض في الدروب وملوها بالماء لاستخدامها لإخماد النيران، وكان السقاءون والفعلة هم المنوط بهم إطفاء الحرائق حال نشوبها، وتذكر المصادر أن علاء الدين الجويني صاحب الديوان هو أول من أمر بعمل حياض في دروب بغداد تملأ بالماء، وأن يستعد الناس فوق أسطح المنازل بالحباب لإطفاء النار، فكان بذلك أول من جعل ذلك من المصالح العامة التي تتولاها الدولة.

الخلاصة، أن مدينة بغداد عظم فيها العمران في العصر العباسي حتى أن ضفتي دجلة أقيمت فيها القصور والدور والحدائق والمنتزهات البديعة والأسواق والحمامات والمساجد.


[1] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، تحقيق: بشار عواد معروف ، دار الغرب الإسلامي، 2000، 1/375.

[2]  ناجي معروف، فصول من حضارة بغداد، بغداد، مجلة المورد، 1973، ع 3-4، ص 37-38.

[3] سليمان الدخيل، الفوز بالمراد في تاريخ بغداد، تحقيق: محمد زينهم محمد عزب، القاهرة: دار الآفاق العربية، ص 103.

[4] ناجي معروف، فصول من حضارة بغداد، ص 41.

[5] سليمان الدخيل، الفوز بالمراد في تاريخ بغداد، ص 83.