في زمن مليء بالتحديات، برز الصحابي الجليل والقائد الاستثنائي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، اشتهر بالحلم والدهاء وكان له دور محوري في توحيد كلمة المسلمين، وترك بصمة لا تمحى من صفحات التاريخ. دعونا نستكشف المزيد عن هذه الشخصية الفريدة؟

من هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ؟

هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ويلتقي نسبه من جهة أبيه وأمه مع نسب رسول الله في عبد مناف، ولُقب بخال المؤمنين؛ لأن أخته أم حبيبة أم المؤمنين كانت زوجًا للنبي .

وُلد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قبل الهجرة بنحو خمسة عشر عامًا، وأسلم عام الفتح، سنة (8هـ)، مع أبيه وأخيه يزيد بن أبى سفيان وسائر قريش ، وأصبح منذ أن أسلم كاتبًا من كتَّاب الوحي لرسول الله ، وشارك فى عهد أبي بكر الصديق في حروب الردة، وفى فتوح الشام تحت قيادة أخيه الأكبريزيد، وأبلى فى ذلك بلاءً حسنًا. عيَّنه عمر بن الخطاب واليًا على الشام كله، بعد وفاة أخيه يزيد سنة (18هـ)؛ لكفاءته الحربية ومهارته فى السياسة والإدارة، وظل فى ولايته مدة خلافة عمر، ثم أقره عثمان بن عفان (24 – 36هـ) على ولايته، فاستمر فى سياسته الحكيمة، ضابطًا لعمله، حارسًا لحدود إمارته، متصديا بكل حزم لأعداء الإسلام، محبوبًا من رعيته.

بعد أن آلت إليه الأمور، استقبل المسلمون خلافة معاوية استقبالا حسنًا، واجتمعت عليه كلمتهم، وكان هو عند حسن الظن، جديرًا بالمنصب الجليل، خبيرًا بشئون الحكم وأمور السياسة، تدعمه خبرة واسعة، وتجربة طويلة فى الإدارة وسياسة الناس، امتدت إلى أكثر من عشرين عامًا، هي فترة ولايته على الشام، بالإضافة إلى تمتعه بكثير من الصفات الرفيعة، التي تؤهله ليكون رجل دولة من الطراز الأول. توفي معاوية بن أبي سفيان في شهر رجب سنة (60هـ). (موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي).

حلم ودهاء معاوية

اشتهر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالحلم والدهاء والحنكة، مكث في القيادة أربعين عاما: عشرون منها واليا، وعشرون منها أميرا، وقد استطاع بفضل حلمه وأناته، وحسن سياسته، أن يملك قلوب أعدائه، قبل أودائه وكان يقول: لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.

وما هذا إلا لكمال عقله فقد كان لبيبا عالما حليما، ملكا قويّا، جيّد السياسة حسن التّدبير لأمور الدنيا، حكيما فصيحا، بليغا يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه.[1]

ولو سلك معاوية بالناس غير سبيل الاحتمال والمداراة؛ لاختُطف اختطافًا كما يقول الحسن البصري رحمه الله. [2]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وفضائل معاوية في حُسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة. اهـ.

وقد بلغ الحلم بمعاوية أن دخل عليه ابنه يزيد مغضبا وقال: «لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا وجبنا» فقال معاوية: «أي بنيّ: إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمّة، فامض لشأنك، ودعني ورأيي».[3]

بهذا الحلم الراسخ المتين وبحسن السياسة والدهاء كان معاوية مُربِّي دول، وسائسَ أمم، وراعي ممالك.

ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، ومن ذلك البريد فهو أول من وضعه؛ طلبا لسرعة وصول الأخبار ومتجدّدات الأحوال[4].

قال الشعبي: دُهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمروبن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه.

فأما معاوية فلـلأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضِـلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير.

من طريف ما يذكر حول حلمه  ما رواه السهيلي في “الروض الأنف”: أن معاوية كان يطوف بالبيت، ومعه جنده فزحموا السائب بن صيفي بن عابد فسقط، فوقف عليه معاوية – وهو يومئذ خليفة- فقال: ارفعوا الشيخ فلما قام، قال: ما هذا يا معاوية؟ تصرعوننا حول البيت؟ أما والله لقد أردت أن أتزوج أمك.

فقال معاوية بن أبي سفيان : ليتك فعلت، فجاءت بمثل أبي السائب يعني عبد الله بن السائب.[5]

فقد تعامل رضي الله عنه في هذا الموقف بحكمة وأدب ولطف، فالسائب أراد إيغاظه ولكنه هو لم يغضب، بل رد عليه بما يدل على توقيره له وإعجابه به وبابنه ، وهذا كاف في إزالة ما بقلب السائب من غيظ وحنق.

ومثل ذلك أيضًا قصته مع الأنصار حين  قدم المدينة، إذ لقيه أبو قتادة فقال: تَلَقَّانِي النَّاسُ كُلُّهُم غَيْرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، فَمَا مَنَعَكُمْ؟

قَالُوا: لَمْ يَكُنْ لَنَا دَوَابٌّ.

قَالَ: فَأَيْنَ النَّوَاضِحُ ؟- يعني الإبل التي يستقى عليها- قال أبو قتادة: عَقَرْنَاهَا فِي طَلَبِ أَبِيْكَ يَوْمَ بَدْرٍ، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَنَا: “إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً”. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا أَمَرَكُمْ؟

قَالَ: أَمَرَنَا أَنْ نَصْبِرَ. قَالَ: فَاصْبِرُوا.[6]

هذه هي شعرة معاوية لما جذبوا أرخى لئلا تنقطع الشعرة في كياسة وحسن سياسة فلله دره. قال ابن عباس: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا.

وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه نعي معاوية: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ هِنْدٍ، إِنْ كَانَ لَنُفَرِّقُهُ فَيَتَفَارَقُ لَنَا، وَمَا اللَّيْثُ الْحَرِبُ بِأَجْرَأَ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنُخَوِّفُهُ فَيَخَافُ، وَمَا ابْنُ لَيْلِهِ بِأَدْهَى مِنْهُ،…كَانَ وَاللهِ لَا يُتَخَوَّنُ لَهُ عَقْلٌ، وَلَا يُنْقَصُ لَهُ قُوَّةٌ، وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَقِيَ مَا بَقِيَ أَبُو قُبَيْسٍ .[7]

لقد كان حلم معاوية سجية، لا تكلفا، كما قال المتنبي.

لِأَنَّ حِلمَكَ حِلمٌ لا تَكَلَّفُهُ
لَيسَ التَكَحُّلُ في العَينَينِ كَالكَحَلِ

نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: يا بني أمية فارقوا قريشًا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتمًا وأوسعه حلمًا، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما.

وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.

ومن حسن سياسته ما أجاب به واليه زياد بن أبيه، لما أرسل إليه قائلا: إن هذا فسادٌ لعملي، إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك ولاذ بك. فقال معاوية: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فنحملهم على المهالك، ولكن كن أنت للشدة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابًا يدخل منه.[8]

ولما قدم عمر الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم؛ فلما دنا منه قال له عمر: أأنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما يبلغك من ذاك.

قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به؛ فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.

فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شيء، إلا تركتني في مثل رواجب الضرس؛ لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً، إنها لخدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك، فَقِيْلَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ عَمَّا أَوْرَدْتَهُ. فقَالَ عمر: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ.[9]

وقد أجمل الذهبي رحمه الله تعالى في “سير أعلام النبلاء” عن معاوية بن أبي سفيان على عادته في العدل والإنصاف حينما قال: حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ – وَهُوَ ثَغْرٌ – فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ الملك.

وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْراً مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ. وَلَهُ هَنَاتٌ وَأُمُوْرٌ، وَاللهُ المَوْعِدُ.

وَكَانَ مُحَبَّباً إِلَى رَعِيَّتِهِ. عَمِلَ نِيَابَةَ الشَّامِ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَالخِلاَفَةَ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَلَمْ يهجه أَحَدٌ فِي دَوْلَتِهِ، بَلْ دَانَتْ لَهُ الأُمَمُ، وَحَكَمَ عَلَى العَرَبِ وَالعَجَمِ، وَكَانَ مُلْكُهُ عَلَى الحَرَمَيْنِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ، وَالعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَفَارِسٍ، وَالجَزِيْرَةِ، وَاليَمَنِ، وَالمَغْرِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ..[10]

وكان عمر – رضي الله عنه – يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحيانا يشتد ويغلظ عليه، كقوله له منكرا عليه ما يراه فيه من النعيم: سَأُحَدِّثُكَ، مَا بِكَ إِلاَّ إِلْطَافُكَ نَفْسَكَ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَتَصَبُّحُكَ حَتَّى تَضْرِبَ الشَّمْسُ مَتْنَيْكَ، وَذَوُو الحَاجَاتِ وَرَاءَ البَابِ.[11]

وردت آثار كثيرة عن معاوية رضي الله عنه في حلمه، ورحابة صدره، وكياسته وحسن تدبيره، وقد أفرد الحافظان: ابن أبي الدنيا، وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفا في حلم معاوية. فلله در ابن هند كما قال ابن الزبير.