ترى منى أبو الفضل أن “الأمة القطب” هي تلك الأمة التى ينجذب إليها المختلفون والمتباينون ويلتقون جميعًا حولها وينشدون إليها باعتبارها “بؤرة جاذبة” أو “مركز ثقل بشرى”، حيث تنفرد “الأمة القطب” بأنها “مفاعل استقطابي “تنجذب إليه الوحدات الأولى لأنها هي “البوتقة” التى ينصهر فيها كل الأجناس والألوان لتكوين “هوية” متميزة ومتمايزة أو كما تقول “الأمة في الإسلام ملتقى أجناس وشعوب مختلفة الألوان والمنبت، ومن خلال موجات الإشعاع والجذب المتعاقبة تشد إليها وتصهر العناصر المتباينة في بوتقة تآلف جامع، وذلك دون أن تُذهب من معالم مكوناتها. ومن خلال جمعها للتمايز والوحدة على هذا النحو تقدم لنا الأمة الصياغة الحية المجربة لتلك المثالية المحققة التى طالما ميزت الحضارة الإسلامية“.

والجدلية هنا هي تلك العملية التى يتجاوز من خلالها المسلم الفرد كينونة الطبيعية الخلقية إلى “الفرد الأمة” ويتجاوز جماعة المطلق الذاتي بدورها طبيعتها المادية المرتدة على الذات لتصير “الجماعة الأمة”. ويمكن وصف “الجدلية” عند منى أبو الفضل بأنها عملية “التحول الكبرى” و”الطبيعية” في آن واحد نحو “الأمة” كي تصبح “الأمة القطب”.

وهناك محوران أساسيان في عملية الاستقطاب، الأول المحور الرأسي وتطلق عليه المحاور المعنوية التى ترتبط بالعقيدة والعبادات. والثاني: المحور الأفقي وتطلق عليه المحاور المادية وقوامها الخبرة الوضعية المعاشة والتى من أبعادها العوامل الجغرافية والتاريخية والبشرية. هذا الدمج الذى تقدمه منى أبو الفضل والذى يتحقق فيه خاصية “التوازن” لمفهوم “الأمة القطب” فلا هو يغلو في المثالية أو الغيبية ببعده العقدي أو الديني، ولا هو ينفصل عن الوحي ويرتبط بالأرض على غرار المدرسة الوضعية ,بما يجعله مفهوماً يمكن دراسته وجعله عاملاً لتفسير ظواهر الاجتماع السياسي الإسلامي، كما يمكن طرحه علمياً في مجال العلوم السياسية المعاصرة التى تنبذ المفاهيم الغيبية وغير المادية.

 دور العقيدة في المد الاستقطابى

تؤكد منى أبو الفضل – في بيان اقتصارها على محور العقيدة – على أهمية البعد العقدي في تنشيط خصائص “الأمة القطب” على مستوى التفاعل الذاتي لها ككيان استقطابي، باعتبار هذا البعد العقدي – المحور والمنطلق لكل تكامل وفعالية. و تتناول دور العقيدة في الصورة الترابطية التالية:

1 – التوحيد محور العبادات وأساس علاقة الخلق بالخالق. وهذا ما رسخ في ضمير الأمة وتعارفت عليه الجماعة.

2 – تشكل العقيدة مصدر تماسك الكيان الذاتي للفرد، ثم هي مصدر تماسك الكيان الذاتي للجماعة.

3 – تكون الوحدانية مصدر وحدة الجماعة، ليس فقط على مستوى الإقرار والسكون أو كأحد معطيات تأسيسية في بناء شامخ قائم، ولكن “الوحدانية” كطاقة توليد حيوية ومفاعل الحركة لكيان بشرى كوني.

4 – وعلى المستوى الخارجي، فإن المفاعل الاستقطابى الذى يتحول إلى طاقة إشعاعية للغير، يحفظ كذلك خاصية الجذب إليه الموجهة قبل الكيانات الأخرى.

5 – العقيدة – أيضًا – عنصر من عناصر الترابط في الجماعة بل كعنصر رئيسي في ترابطها باعتبارها ملتقى جمع وصهر وحداتها على اختلاف أصولها ومنبتها – شعوباً كانت أم قبائل.

6 – العلاقة بين التوحيد وكل ما يتفرغ عنه من قيم ومعتقدات واتجاهات وبين الأمة – وهى الوعاء التاريخي الاجتماعي لتلك العقيدة – إنما هي علاقة “قيم” و”مؤسسات” بالهيئة الجماعية المنفردة في رسوخ جذور وحدتها وتأصل تماسكها في شكل الأمة القطب و”الأمة المستقطبة”.

دور الشعائر في المد الاستقطابى

التطابق بين الداخلي والخارجي وبين الشكل والمضمون هكذا تصور منى أبو الفضل العلاقة بين العقيدة والشعائر وبين التوحيد والشعائر، فهذا الترابط بين التوحيد والشعائر أوثق ما يكون كثمرة لعقيدة متماسكة متناسقة تستمد قوتها من كنهها وليس من مجرد إطارها الوضعي أو ظرفها التاريخي الذى قد يبرز دلالة هذا الكنه دون أن يصنعه.

وتضرب المؤلفة لذلك الترابط مثالين في الصلاة بالتوجه إلى القبلة، والحج وهو الانتقال من استقبال الوجهة إلى الإقبال على الموضع. وفى المثالين تلاحظ أن “الدور المحوري للكعبة المشرفة -بيت الله العتيق – لا يقتصر على تجسيدها لعقيدة التوحيد والوحدانية ولكنه يمتد إلى ما تؤديه من تعزيز وحدة الأمة في شكل مادي محسوس…وهو ما يبرز هذه الدولة الاستقطابية لهذه العملية، انجذاب الأجساد، أفواج المطوفين، والتى تتجلى فيها حقيقة التوحيد كقيمة عليا في الوجود لا يقتصر تكريسها جبرًا بفعل القواعد الكونية الذاتية، وإنما يرتقى الإنسان المؤمن العابد إلى إدراكها والإقرار بها والعمل لها طواعية”.

التنشئة الجماعية و”الدفع الذاتي” المتجدد

البعد التربوي في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر كان غائباً إلى حدٍ ما، لذا فإن انتباه منى أبو الفضل إلى ذلك البعد في هذه الدراسة التأصيلية السياسية يستحق الالتفات إليه، فالكيانات والتنظيمات الكبرى تعتمد وبصورة أساسية على التأسيس التربوي للعنصر البشرى، ومن ناحية أخرى فإن “التربية والتعليم” يعدان عنصران بارزان في البناء المؤسسي للأمة “الإسلامية”، منذ إعلان تأسيسها من قبل الوحي “اقرأ” ويظهر هذا الاهتمام عند منى أبو الفضل فيما توليه من عناية بما أطلقت عليه “حيوية التنشئة الجماعية” أو “دورة الدفع الذاتي” أو “دورة التنشئة الحيوية” والتى تتكامل مع الدورة الاستقطابية”.

وتؤكد أيضًا أنه إذا كانت جدلية الاستقطاب هي محور حيوية الأمة القطب ومن أبرز معالم تمايزها على المستوى الكياني والحركي، فإن عصب هذه الحيوية ممكن أن نطلق عليه دورة التنشئة الحيوية، وهى في أساسها عملية تنشئة ذاتية، مصدرها قرآني وقوامها عمليات استبطان وممارسة، أي أن أساسها “تعلمي أكثر منه تعليمي”. وتنطلق هذه التنشئة الحيوية من المقدمات والمنطلقات التالية:

1. أن الفرد هو اللبنة الأولى في البناء.
2. أن العبادات هي مقدمة للمعاملات.
3. أن التنشئة الأولية للفرد المؤمن تنطوي على تنشئة متكاملة لأنها تنبثق عن عقيدة أصلًا شاملة متكاملة.
4. أن استيعاب القيم الجماعية يتم من واقع التنشئة الفردية.
5. أن الأمة حقيقة نفسية تعيش داخل كيان الفرد قبل أن تسقط على الواقع الاجتماعي والتاريخي.
6. أن “الأمة” كواقع تنظيمي إنما هي حقيقة لاحقة للتواجد النفسي.
7. أن الأمة كحقيقة تاريخية تتوقف على حيثيات ظرفية (زمنية ومكانية) تتيح تحويل الطاقة المختزنة في ضمير الجماعة إلى قوة تنظيمية واعية.

يمكن تفسير الاهتمام التربوي عند منى أبو الفضل بالاعتماد على رؤيتها في تفسير “منشأ الأمة” وأصلها الأول، والذى ترده إلى منشأين أساسيين، أولهما:منشأ تاريخي مواكب لمطلع الدعوة ومتصل بمسارها. وقد امتدت الفترة التكوينية لصهر نواة الجماعة السياسية الأولى على مدى أثنى عشر عاماً مثل الهجرة إلى المدينة، وثانيهما : يتمثل في المنشأ النفسي المتجدد بعد أن اكتملت الرسالة وتم التبليغ وضمنت في مصادر ثابتة مرجعية أولية (القرآن والسنة).

وهى بذلك ترى أن “الأمة” كيان حيوي متجدد ويتمتع باستقلالية وذاتية من ناحية، والتماثل العميق بين أعضائها الذي يتجاوز ويجُب المسافات والفواصل الجغرافية والعرقية واختلاف النظم السياسية.

الأمة القطب…الأمة الوسط

الحلقة الأخيرة في التأصيل السياسي والحضاري لمنى أبو الفضل لمفهوم “الأمة القطب” والتى تركز فيه على ما أرادت الخلوص إليه في هذا الطرح، حيث أكدت على أن الأمة القطب لها ثلاثة جوانب أساسية هي :الصفات، والوظائف، والمنهاج هذا المثلث الحضاري الذى رأت فيه استنباطاً للمفهوم القرآني للأمة الوسط – التى هي الأمة القطب – “تقوم على الدعوة إلى الحق والعدل (الله – الشريعة)… هي صاحبة رسالة، وطريقها الجهاد، فهي تتسم بالإيجابية والالتزام. وجهتها محددة وغايتها واضحة وضوح وجهتها، وهى فضلاً عن ذلك جماعة يتوفر لها عناصر التكامل دون أن تنغلق على أنانية الذات؛ فالأمة الوسط هي الأمة المستخلفة في الأرض أي أنها الأمة وليست أمة بين الأمم”.

لا نقول هنا “الوسط” بمعناه السياسي في الفكر الغربي والذى يحمل كثيرًا من السلبية، بل نقصد به الوسط بمعناه الإسلامي الحضاري لمفهوم “الوسط” في الإسلام وهى : أولًا من حيث كون الجماعة التى يعبر عنها محور جذب واستقطاب، وثانيًا: “أمة وسط” من حيث الاعتدال في المزاج واجتناب الإفراط والتفريط. وثالثًا: “وسط” من حيث موازين القيم والأنظمة التى تقوم عليها.