أرسلت إحداهن خطابا إلى أحد مشاهير العلماء يقطر حزنا وأسى على ابنتها التي فقدتها تطلب منه كلمة مواساة فهي تكاد تلحقها من شدة الحزن والتعلق به، حاول الشيخ أن يكون واضحا وقريبا من قلب هذه الأم الثكلى فسألها عن حالتها إذا ذهبت هذه الطفلة الصغيرة إلى بيت خالتها أو جدتها تلعب مع قريباتها وتنعم بالتواصل مع أرحامها، كيف ستكون مشاعرها إنها ستشعر بالطمأنينة لأن ابنتها بيد أمينة وستشعر بمقدار من السعادة التي تغمر ابنتها، فلماذا تقلق عليها وهي عند أرحم الراحمين.

لعل ما يؤلمها مشاعر الفقد والحرمان وهي مؤلمة حقا لكن من قال إن الدنيا خالية من الآلآم البدنية والنفسية.

جبلت على كدر وأنت تريدها     صفوا من الآلآم والأكدار

ومع وضوح حقيقة الموت ومفهوم اختلاط الآلام بالملذات في الدنيا إلا أن الفهم الصحيح لحقيقة الموت والدار الآخرة يمكن أن يشكل رافدا مهما للدعم النفسي والمعنوي.

ففي ذكر الموت تحفيز  على بذل المزيد من الجهد في العمل الصالح وترغيب فيه ليجد الإنسان عند ربه ما عمل حاضرا وليقول فرحا مفاخرا ﴿هَاؤُمُ ‌اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 19-20] يقينه بالحساب يجعله يخلص ويعمل ويتقن فتزداد حسناته وترتفع همته ويكون كل همه أن يرضى ربه تبارك وتعالى عنه، لذلك لا يترك بابا من أبواب الخير والمعروف إلا ويطرقه، وما يترك طريقا للطاعة إلا ويسير فيه خطوات أو أميال، يؤدي حق نفسه وحق والديه وحق أولاده وأهله وجيرانه، يحب للناس ما يحب لنفسه حتى يكتمل إيمانه، يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، حتى يكون حسابه يسيرا يسارع إلى تصحيح أخطائه، ينتهي من عمل صالح وهو يفكر في عمل صالح آخر وهكذا تمتلأ حياته بالإنجاز الذي يرضي الله وينفع الناس ويعمر الأرض، فيكون كالغيث حيثما وقع نفع، لأن عينه دائما على يوم الحساب، وهكذا شأن أصحاب العقول فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، فكلما ذكر الموت حاسب نفسه وعمل لما بعده، وهذا يعد من أكبر الحوافز النفسية للعمل الصالح الذي يتسع مفهومه ليشمل عبادة الله وعمارة الأرض.  

وقد كان هذا المعنى واضحا عند علمائنا قال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة وقناعة القلب، ونشاط العبادة[1].

ويروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم. فوالله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه[2]. لقد حفزه رؤية مقدمات الموت على العمل الصالح.  

ومما يمكن أن يقدمه التفكر في الموت من دعم نفسي وتحفيز  أن الإنسان كثيرا ما يعمل ولا يلقى التقدير المناسب لعمله عند ذلك قد يتوقف البعض عن العمل النافع الذي يصلح الله به شؤون الخلق في دنياهم وآخرتهم، إذ أن المحفز على العمل قد توقف وهو الجزاء، بينما عندما يوقن بأن الجزاء الكامل على العمل سيراه يوم الجزاء {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 39]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفز أصحابه على العمل الصالح عن طريق وعدهم بالخير في الجنة، قَدِمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ [ماء صالح للشرب] غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:«مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ [يشرب كما يشربون لا يمنعهم من الاستقاء منه] بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِى الْجَنَّةِ ». فَاشْتَرَاها عثمان رضي الله عنه مِنْ صُلْبِ مَالِهَ وقد ضَاقَ الْمَسْجِدَ بِأَهْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ يَشْتَرِى بُقْعَةَ آلِ فُلاَنٍ فَيَزِيدُهَا فِى الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِى الْجَنَّةِ» فاشتراها عثمان رضي الله عنه من صلب ماله[3].

إن التحفيز النفسي الذي يمكن أن يقدمه ذكر الموت أحد الزوايا المهمة التي ينبغي النظر من خلالها إلى أحد أركان الإيمان بالإضافة إلى زاوية أخرى تبدو لنا عند النظر في القرآن الكريم فنجد قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 1، 2] وغير ذلك من النصوص القرآنية والنبوية التي تلقي في قلوبنا الرعب من ذلك اليوم.

 لنتأمل قليلا إننا نحمد لمن يحذرنا من وجود خطر على الطريق يمكن أن يصيبنا، ونشكر له هذا التنبيه لأننا سنأخذ حذرنا منه ونجتهد في تفادي هذا الخطر ونعتبر أن هذا دلالة حب مخلص وحرص علينا، بل إننا لا نعد الإعلان عن العقوبات المقررة على الجرائم نوعا من الإرهاب الفكري بل بيانا للعقوبات المترتبة على ارتكاب الجرائم، وبذلك نقلل من وقوعها ونعتبر أن العقوبات الشديدة أحد وسائل الردع عن ارتكاب الجرائم، فلماذا لا نقرأ التحذيرات الإلهية والنبوية في هذا الإطار نقرأها على أنها تجنيب للإنسان من الوقوع في الخطأ وتجنيب للإنسانية أن يصيبها الآثار الخطيرة المدمرة لهذه الذنوب.

ثم إن هذه التحذيرات من الطرق الخاطئة والخطرة يصاحبها بيان الطرق السليمة الآمنة التي تعيننا على الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، فهناك بيان للصراط المستقيم وبيان للأخطاء المسببة للعذاب وبيان لطرق تصحيح الأخطاء. 

للموت حضوره في الذهنية الإسلامية، فالإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان وتحفل آيات الذكر الحكيم بالحديث عن أهواله، ومسيرة العبد في لحظاته الأخيرة في الدنيا، حتى ينال جزاء أعماله في الجنة أو في النار، وكم من سورة افتتحها الله تعالى بذكر وقائع اليوم الآخر حتى عده الشيخ الغزالي رحمه الله أحد المحاور التي يدور عليها القرآن في كتابه المحاور الخمسة في القرآن الكريم،  وتحفل السنة المطهرة كذلك بالحديث عن الموت.

وحتى نضع الموت في مكانه اللائق به في المعرفة الإسلامية وما يترتب عليها من تصورات وتصرفات  نعود إلى السنة النبوية فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين عن تمني الموت بسبب مصيبة أو كارثة نزلت به أو بمن يحب فيقول:”لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي”[4].  لعله أن يصلح ما أفسده من قبل أو لعله يوفق لعمل صالح يرفع الله تعالى به درجته.  


[1]  التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة.

[2]  المرجع السابق.

[3]  سنن الترمذى.

[4]  صحيح البخاري.