يستغرب العديد من الناظرين في هذا السلوك العدواني ضد المقدسات والرموز الدينية في أوروبا، وتفغُر الأفواه في هذا الهجوم المتكرّر و الممنهج ضد أعظم إنسان غيّر التاريخ والدنيا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي تتابعت هيئات وشخصيات رسمية وغير رسمية على الإساءة المتعمّدة إليه بدعوى حرية التعبير بدء من مسلسل سلمان رشدي، وانتهاء بالإساءة الفرنسية هذه الأيام.

وابتداء فإن الصورة مفارقة جدا في تعامل الإسلام مع خصومه الدينين، فمن البدايات أقرّ بحق الاختلاف الديني (لكم دينكم ولي دين)، ونهى أتباعه عن التعرض للرموز الدينية للمخالفين، كما قال تعالى:( ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) [ الأنعام، 108]

وعلى هذا سار الفقه الاسلامي فخلت ديار المسلمين من الإساءة أو التعرّض بسوء أو شتيمة للآخر، وبقيت الكنائس والمعابد تدوي بخرافاتها وأباطيلها في كل الحضارة الإسلامية، ولم يكن هناك حيف على الآخر في ممارسة باطله، وحتى النقد المقارن للأديان خلا من السباب أو  قول الهجر.

أما أوروبا الوسيطة والحديثة والمعاصرة فقد ظلت مسكونة بالعدوانية تجاه الآخر، وتجاه بعضها، وكأن الهوية الأوروبية لا تتحقق إلا باختلاق الأعداء، والتلذذ بالصراع، إنه مرض الواحدية والتمركز حول الذات الذي يسكنها مهما غطت هذه الحقيقة التاريخية بالمساحيق الكاذبة.

وللاستدلال على العدوانية الجاثمة في المخيال الأوروبي في عداوة الأديان والطوائف المختلفة فإننا سنسترد بعض الشواهد على هذا من داخل التاريخ الأوروبي الديني الدموي:

  • ضد اليهود: 

تعرض اليهود لموجة سخط عارمة في أوروبا، فزيادة على ما وقع ضدهم من تهجير في إسبانيا وإكراه على الارتداد إلى المسيحية، فإنهم اعتبروا سببا للطاعون الأسود في القرن الرابع عشر، وحمّلتهم الكنيسة وزر صلب المسيح، بل إن الكنيسة لم تكن تعتبر المسيح ولا أمه مريم عليهما السلام يهودا، ففي مدينة تولوز جرت العادة أن يُستدعى كبير الخامات في عيد الفصح ليصفع أمام الجميع انتقاما لما حدث للمسيح صبيحة الصلب، واستمرت عذاباتهم في إسبانيا والبرتغال بالحرق أحياء، وأخر يهودي أحرق في اسبانيا كان سنة (1825م) فقط، أما في ايطاليا فكان بعض الباباوات يأمرون بوضعهم في براميل لها مسامير ثم تُدحرج حتى تتقطع أشلاؤهم، تذكيرا بسيلان دم المسيح على الصليب بزعمهم، وعندما تحلّ الكوارث الطبيعية أو تندر السلع، فإن الانتقام الأول كان  ينصبّ على اليهود باعتبارهم أصحاب الربا، والمتصفّح للحياة الاجتماعية في أوروبا يجد أن نصيب اليهود كان السكن فيما يعرف بـالجيتو، وحولهم نسج كتّاب الأدب قصصا مليئة بالكراهة والتمييز، ففي قطعة للشاعر ” سبيا” يهجو فيها جنس اليهود بأنه:” جنس محتقر كريه الرائحة، ومسخ حسود ناشر أمراض بلا شرف، مهمل بغيض خسيس قذر بخيل ملعون متكاسل”،  وكذلك فعل شكسبير في تصويره  للشخصية اليهودية المرابية الجشعة في مسرحيته “تاجر البندقية”.

ولم يسلم اليهود من سخرية البروتستانت، الذين يقتربون منهم في الاعتداد بالعهد القديم، فقد ألف لوثر ضدهم كتاب” اليهود وأكاذيبهم” (1)،  وبدأ لوتر في سنواته الأخيرة في قلب ظهر المجن لليهود المنبوذين في أوروبا، ووصفهم بأنهم هم والبابويين (أي الكاثوليك) تعساء كفرة، وأن الطائفتين جوربان صنعا من قماش واحد، وأن اليهود أمّة من أناس غلاظ كفرة خبثاء ممقوتين، ودعا إلى إشعال النار في مدارسهم ومعابدهم وإلى طردهم من البلاد كالكلاب المسعورة(2) وكم صورتهم النشرات البروتستانتية في صور بشعة ترضع من الخنازير، وتلعق فضلاتها، وظل المخيال الأوروبي مسكونا بكرههم حتى الحرب العالمية الثانية.

  • البروتستانت ضد الكاثوليك:  

 في باكورة الإصلاح الديني قام مارتن لوثر بانتقاد البابا الكاثوليكي، ودعا لطرد ممثليه من ألمانيا، وإلى الامتناع عن دفع الإتاوات، وإلى تعطيل القوانين الكنسية، وترك صرخة مدوية ضدّ كرسي روما في ندائه: ” استمع أيها البابا، ولا أقول أقدّس الرجال، بل أكبرهم إثما، ثق بأن الله ربّ السموات سوف يقوّض عرشك قريبا، ويغرقه في هاوية الجحيم، يا سيدي المسيح أطلّ علينا من عليائك، ودع يوم قصاصك يشرق ويدمّر عشّ الشيطان في روما”، ودعا أتباعه إلى حرب مقدسة أدبية  ودعائية واقتصادية ومادية ضد  الكاثوليك الذين وُصفوا بالكفر :” إن البابويين كغيرهم من الترك واليهود والوثنيين هم خارج نطاق النعمة الإلهية ومغفرة الخطايا والخلاص، فلقد كتُب عليهم العويل والبكاء وصرير الأسنان إلى الأبد في نار جهنم المشتعلة وكبريتها” (3)

  وتحت تأثير دعوة مارتن لوثر  قامت ثورة للفلاحين ضد الكنيسة، واستمرت [1524م- 1581م]، وقادها الراهب” توماس مونزر” الذي دعا إلى الحرب الإستئصالية ضدّ مخالفيه غير البروتستانت قائلا:  “إن الكفار لا حقّ لهم في العيش إلا بقدر ما تسمح به الصفوة” (4)

 أما في انجلترا فقد استعرت الحرب الدعائية بين الفريقين، ففي سنة (1688م)، أصدر البرلمان الإنجليزي قانون الحقوق الذي ينصّ على كون البروتستانتية الدّين الرسمي للدولة، ويحرّم على الكاثوليك وغيرهم حقّ العبادة، أو التعبير، أو الاجتماع(5). وانتشرت الدعايات الساخرة في عرض بريطانيا هازئة من التقاليد الكاثوليكية.

وقد صدرت في ألمانيا وإنجلترا  قرابة ألف نشرة ساخرة سنة (1618م) ضدّ الكاثوليك، وهي السنة التي ابتدأت فيها حرب الثلاثين عاما الدموية،  وكانت المسرحيات البروتستانتية تسخر بالبابا وتختتم عادة بزجه في الجحيم، وشاعت مفردات كثيرة في هذا السعار مثل: الروث، النفاية، الأفاعي، الخنزير، البغيّ ، القاتل ، مستحضري الأرواح ، السحرة ….إلخ، وفي إحدى الصور المحفوظة في ألمانيا صورة البابا على شكل خنزيرة تلد رهبانا يسوعيين في صورة خنازير صغار (6).

ولم يسلم الكالفنيون إخوان البروتستانت منهم، فقد جاء في إحدى نشراتهم الدعائية سنة (1590م) ضد الكالفنيين: ” إن أراد أحد أن يقال له في بضع كلمات أية مادة من مواد الإيمان نقاتل عليها جنس الأفاعي الكلفينية الشيطاني، كان الجواب كلها بلا استثناء، ذلك لأنهم ليسوا مسيحيين بل يهود ومسلمون معمّدون”.

  • الكاثوليك ضد البروتستانت:

ردّ الكاثوليك بعنف على الحرب الساخرة ضدهم من البروتستانت بالحكم عليهم بالكفر والهرطقة والحرمان، وتحت هذه الشعارات  والأحكام دارت الحروب الدينية مائتي عام، وسجّل التاريخ أشنع مذبحة جماعية  ضد البروتستانت في فرنسا، ووقعت المجزرة في عيد القديس “سان بارتيملو”في (14  أوت 1572م)، حيث ذُبح أزيد من عشرين ألف بروتستانتي، وابتهج الكرسي الرسولي بذلك، وأصدر البابا أوسمة فيها صورة البابا “جوريجوري” وبجانبه ملك يضرب أعناق البروتستانت، وكتب عليها: إعدام الملحدين (7) . وهذه هي نتيجة السعار اللاهوتي كما يقول ملانكتون.

  وأما الملك الكاثوليكي المتعصب شارل الخامس  فقاد عنفا ممنهجا ضد كل من وقع تحت يده من البروتستانت واللامعمدانيين، الذين أنزل بهم النكال، فقد:” “عُذّب البعض على المخلعة وشدّت أطرافهم حتى انتزعت، وأحرق البعض الآخر حتى غدت أجسادهم رمادا وهباء منثورا، وشُوي لحم البعض فوق أعمدة أو مزقوا إربا بكمّاشات ملتهبة إلى درجة الاحمرار، وشُنق آخرون فوق الأشجار، أو قطعت رؤوسهم بالسيف، أو ألقي بهم في لجة الماء، ومات بعضهم جوعا، أو هلكوا في غياهب السجون المظلمة، وظلّ الكثيرون منهم سنوات في غياهب السجون، وختمت على خدودهم أرقام تركت فيهم أخاديد” (8).

وربما كانت الحرب الدعائية السيارة أقل عند الكاثوليك بسبب التخلّف الحضاري في الطباعة والنشر في أوروبا الجنوبية، ولكن العنف البابوي كان أقسى، فلم يكن هذا السعار اللاهوتي لينتهي بسلام بين المذاهب المتصارعة، خاصة وأن الحروب الصليبية صارت داخلية، فاليسوعيون نادوا بحرب صليبية جديدة لاسترداد الأراضي الإصلاحية في ألمانيا، واستمر الشنآن قائما لم تنطفئ جذواه حتى الساعة.

والذي نخلص أنه أن عداوة الأديان تقليد راسخ في أوروبا الدينية أو العلمانية، وأن السخرية من الآخر القريب أو البعيد داء عضال كامن في أغوار الثقافة الأوروبية المريضة بالأحادية والاستعلاء ودعاوى النقاء والتفوق.

إن تاريخ الإسلام المضيء في معاملة  دين الآخر ورموزه ومقدساته لا يقارن البتّة بالتاريخ الكريه في التعامل مع الآخر عند الأوروبيين البارعين في خلق الآلام والتلذذ بإيذاء الآخرين في أديانهم ومقدساتهم ورموزهم الدينية، وليس ذلك بغريب على صانعي الاستعمار ومنظري الاستعباد، فكل إناء بما فيه ينضح، وإنك لا تجني من الشوك العنب كما يقول المسيح عليه السلام.


المراجع:

(1) مارتن لوثر:اليهود وأكاذيبهم، تر محمود النجيري، ط1، الجيزة، مكتبة النافذة، 2006.

(2) عبد الودود شلبي:الإسلام وخرافة السيف، ط1، القاهرة، مؤسسة الخليج العربي، 1987، ص 111.

(3) ديورانت ول: قصة الحضارة، ط1، بيروت، دار الجيل، 1998، ج 24 ص30 و ج29 ص 190 .

(4) ويلتر جون: الهرطقة في المسيحية، تر جمال سالم، ط1، بيروت، دار التنوير،2007، ص 191.

(5) محمد الغزالي:التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، ط3، دار نهضة مصر، 2003، ص 98.

(6) قصة الحضارة،  ج 29  ص89.

(7) توفيق الطويل:قصة الاضطهاد الديني بين الإسلام والمسيحية، ط1، دار الكتاب العربي،1947، ص 90.

(8) قصة الحضارة، ج 24 ص  100