يعتبر الخلاف العقائدي من أخطر أنواع الخلافات التي شتت وحدة الأمة الإسلامية، وأبعدت المسلمين عن منهج القرآن والسنة، المتمثل في قوله تعالى {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. ورغم التطور الذي عرفته البشرية اليوم فإن النزاع العقائدي صار أكثر شحنة وتذكية من ذي قبل.. بل قامت على خلفيته حروب لا تبقي ولا تذر.

لا شك أن الخلاف في الإنسان أمر طبيعي فيه، ولكن كثيرا من الناس يستسيغ الخلاف في الفقه ولا يستسيغه في العقائد (جدلية الأصول والفروع)؛ مما سبب إشكالا معرفيا خطيرا جعل الأمة في نزاع وشقاق دائمين عوض أن تكون في وفاق ووئام دائمين.

إن أول ما يثير الدارسين للمسألة العقائدية وجود الأثر السياسي التاريخي لهذه القضية، وهو المشكل الذي عالجه كثير من الباحثين وطرحته في مبحث مستقل بعنوان الفقه والعقيدة في سياج تاريخي.

يحدثنا التاريخ عن حدثين في تاريخ العقائد الاسلامية بالغين في الأهمية، فقد تبنى الخليفة المأمون (218هـ) مذهب الاعتزال، وقرب الناس إليه وحمل الناس عليه بالقوة، وكتب الخليفة للقضاة أن يقصوا كل قاض لا يرى قول المعتزلة، ثم جاءت خلافة المتوكل سنة 247 فتبنى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وجاء من بعده الامام الأشعري ليعلن مذهبا وسطيا بين قول الحنابلة وقول أهل الاعتزال.

يظن كثير من الدارسين أن الخلاف في العقائد يتنافى مع مفهوم العقيدة الصحيحة والقول الحق، وهذا وهم يحتاج إلى كثير من البيان.

وقد حدث نفس الأمر في الفقه حين ساد التعصب المذهبي، فوجدنا التعصب يبلغ مداه حتى يمتنع الحنفي عن مصاهرة الشافعي، كما يمتنع الحنفي والمالكي عن الاعتراف بمذهب الظاهرية الذي أشاع ذكره في الأندلس الإمام ابن حزم وقبله داود..

يمكن القول بكل اطمئنان أن الخلاف العقائدي داخل دائرة القرآن والسنة يجري عليه ما يجري في الخلاف الفقهي، وتتفاوت مراتب الخطأ والصواب في هذه المذاهب؛ فيكون بيان ذلك من خلال الحوار والمناظرة وليس من خلال التراشق بمصطلحات العنف والفرقة القائمة على التكفير تارة وعلى التفسيق والتبديع تارة أخرى، وهو ما ينصب في فلسفة التواصل وتدبير الخلاف التي ينبغي أن تسود في تحرير البحوث العقائدية.

ويعتبر الإمام الأشعري من العلماء الذين أصلوا لقواعد الاعتقاد والاجتماع، لقد كان رحمه الله ناصحا للأمة في وجوب الاجتماع ونبذ الفرقة والتعصب المقيت سابقا لزمانه حين كتب في تأريخ عقائد المسلمين المختلفة وسماهم الإسلاميين، وأشار إلى ذلك بقوله إنهم أصحاب معبود واحد واختلافاتهم العقدية هي من قبيل الاختلاف في العبارة ليس غير كما أخبر بذلك العسكري في مصنفه.

وقد دل على نبله ورجاحة عقله في تحذير المسلمين من نزعة الخلاف والفرقة، حين كتب كتابه المشهور بعنوانين وهما الحث على البحث أو استحسان الخوض في علم الكلام.

فحقل علم الكلام حقل رحب للنظر والبحث وتأسيس القواعد وتحرير الدلائل. وما كان يخشاه هو أن تنحرف سكة علم الكلام عن المقصد المنوط به.

ما يمكن ملاحظته في الدرس العقائدي أن نصوص القرآن والسنة لا تحتوي على مقولات علماء الكلام، التي هي خليط من قواعد الفلسفة والجدل ومظنة لاتساع مدارك النظر وأمالي الدلالات المختلفة بين عالم وآخر.

وقد قام عالم كبير من علماء المسلمين تربى في حضن الزيدية والمذهب الزيدي باليمن، بكتابة كتاب يبين فيه أرجحية أساليب القرآن على أساليب اليونان، كما كتب كتابه إيثار الحق على الخلق دعا فيه إلى ضرورة عقلنة تدبير الخلاف في المسألة الاعتقادية دون اللجوء إلى الفرقة والنزاع، وهو ما نحتاج إلى تقريره بقوة في عصرنا الذي يعج بكثرة الآراء والعقائد.

فالخلافات بين السلفية والأشعرية والمعتزلة اليوم لا ينبغي أن تفسد اللحمة الإيمانية بين المسلمين.

ولكل دولة إسلامية الحق في اعتقاد مذهب معين مادامت قبلتهم واحدة وكتابهم واحد.

أما باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، فهي أخلاقيات الخلاف التي ينبغي أن تسود، كما ينبغي أن تكون مسائل الخلاف حبيسة المدونات الكلامية والطرح الكلامي المتخصص في الجامعات.

ونحن نؤمن بأن العلم مشاع بين الناس، وهو ملك للجميع لكن بشرط أن يدرس بمنهج وعقلانية، وأن ينأى عن كل تعصب وانحراف عن مقاصده الأصلية القائمة على الحجاج العقلاني للعقائد.