شرع المفكرون الحداثيون منذ الثلث الأخير من القرن الفائت في تقديم مقاربات تستهدف تجديد العلوم الإسلامية باعتبارها سببا في الهزيمة الحضارية، وضمن هذا الإطار ظهرت دعاوى إعادة النظر في ماهية النص (نصر حامد أبو زيد)، وتقديم تفسير جديد (عابد الجابري)، وإعادة قراءة السيرة النبوية (هشام جعيط)، ودعاوى التجديد الفقهي (جمال البنا) وتجديد أصول الفقه عند حسن حنفي.

بدأ اهتمام الدكتور حسن حنفي بالتراث منذ أربعة عقود تقريبا مع إصداره كتابه “التراث والتجديد” عام 1980، ثم أعقبه بكتابيه: “من العقيدة إلى الثورة” وهو محاولة لإعادة بناء علوم الدين جاءت في خمس مجلدات، و”من النقل إلى الإبداع” وهو محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة جاءت في تسع مجلدات، وأما كتاب “من النص إلى الواقع” فهو المحاولة الثالثة لإعادة بناء العلوم الإسلامية حيث يتناول علم أصول الفقه، وقد جاء في مجلدين، درس في الأول تكوين النص، وتناول في الثاني بنية النص، وقبل أن نمضي في بيان رؤيته لبناء علم الأصول نتوقف أولا أمام الخصائص الأسلوبية والمعالم المنهجية المميزة للدكتور حسن حنفي.

الخصائص الأسلوبية والمنهجية

1- الاستطراد والإطالة: وهي سمة بارزة تميز أسلوب الدكتور حنفي، الذي ما إن يشرع في الكتابة حتى يأخذ في الشرح والتوضيح وإعادة ما سبق ذكره في مصنفاته السالفة فيتضاعف حجم العمل حتى يصبح بضع مجلدات، وهو يدرك ذلك تمام الإدراك حيث يقول “انتهى عصر الموسوعات فلم يعد في العمر متسع لكتابة الموسوعات، ولم يعد لدى القارئ العام أو المتخصص الهمة ولا الوقت ولا الرغبة…كانت النية أن يكون من النص إلى الواقع مجلدا واحدا لكن عز الطلب وانقسم الموضوع، بطبيعته إلى قسمين .. ومجلدان أفضل من خمسة أو تسعة”، ورغم الإطالة والسرد فإن الفكرة لا تصل مستقيمة إلى القارىء بل ربما لا تصل على الإطلاق، ويمكن أن ندلل على ذلك بما كتبه حول البنية التي هي مدار عمله كله، إذ أنه يذكر أنها “القواعد والأصول التي يقوم عليها العلم طبقا لتقسيم واضعه”، ثم يشرع في توزيع المصنفات عليها فهذه بنية أحادية وتلك ثنائية وأخرى ثلاثية دون أن يفهم القارئ ماهية البنى التي تتشظى وتتسع وماذا يقصد بها.

1- الإضمار والإفصاح، يحيلنا ذلك إلى الحديث عن المضمر والمعلن داخل النص، في مسألة تجديد أصول الفقه عند حسن حنفي، إذ ربما أضمر الدكتور حنفي فكرة أو سؤال ما أثناء التدوين ولا يفصح عنه، ثم يشرع في الإجابة عنه، وهناك نماذج لذلك منها توقعه أن يوجه النقد إلى عمله لأنه غير صادر عن مختص، وهو لا يشأ الإفصاح عن ذلك، ولكنه يشير إلى أن قسم الفلسفة بجامعة القاهرة- الذي ينتسب إليه- كان قد شرع في تدريس علم الأصول باعتباره وثيق الصلة بعلم الكلام، ولا يكتف بهذا ثم يشير في موضع آخر إلى أن أستاذه مصطفى عبد الرازق وجه تلاميذه لدراسة علم الأصول، ومن خلال ذلك يدحض ضمنا الانتقاد المحتمل إلى مشروعه.

3– الدوران حول الفكرة، عادة ما يطرح الدكتور حسن فكرة ما في موضع من كتابه ويتناولها لكنه لا يستوفي طرحها ويدعها، ويعود إليها مجددا في موضع آخر ويتناولها من زاوية أخرى، وحديثه عن المناهج التي اتبعها يعد مثالا على ذلك، فهو يتحدث عن كل مزايا وعيوب كل من: منهج تحليل المضمون، المنهج البنيوي، المنهج التاريخي، المنهج الظاهرياتي، أثناء حديثه عن الجوانب السلبية في مشروعه “من النقد إلى الإبداع”، لكنه يعود إلى الحديث عن المنهجين التاريخي والبنيوي اللذان وظفهما في كتابه “من النص إلى الواقع” مبررا دواعي تطبيقهما على علم أصول الفقه.

4- التناقض، يفضي تمدد النص وتشعبه بالدكتور حسن حنفي إلى الوقوع في فخ التناقض، إذ ربما يغاير ما ذكره في موضع آخر، بل إنه ربما ناقض نفسه في ذات الموضع كما فعل حين تناول مسألة الاختلافات المذهبية وحضورها في كتب الأصول فيقول “النص الأصولي واحد والعلم واحد..والخلافات المذهبية في الفروع وليست في الأصول” ثم يردف في الفقرة التي تليها مباشرة قائلا ” وإذا كان علم الأصول قد امتلأ بالخلافيات المذهبية في الكلام والفقه لأنه كان موازيا لنشأتها تقريبا”.

نحو إعادة بناء علم الأصول

يوضح الدكتور حسن حنفي أنه يحاول بناء علم الأصول مدفوعا بغاية مزدوجة، فهو يضعه للفقيه لكي يحسن الاستدلال ويٌغلب المصلحة، على حرفية النص، ويضعه ليدحض شبهة الاستشراق أن التشريعات الإسلامية قاسية لا تعرف الرحمة فليس بها سوى الرجم والصلب والتكليف بما لا يطاق.

يقود الحديث عن الغاية بالضرورة إلى المنهج، إذ يفترض تحقيقا للغاية أن يطرح المناهج الإسلامية الكلاسيكية والمناهج الحداثية على سواء، وأن يقترح منهجا جديدا ولقد ألمح إليه الدكتور حسن حنفي بالفعل، لكن هذا المنهج لم يكن سوى اقتباس المنهج التاريخي والمنهج البنيوي الظاهري معللا ذلك بأن القول بأنها مناهج مستوردة هو “حكم ناشئ عن بنية لا شعورية أو شعورية بأن الغرب هو أصل المناهج.. وهو غير صحيح لأن المناهج موجودة في كل حضارة، أشهرها مناهج التأويل ومناهج النظر ومناهج الذوق ومناهج التحليل اللغوي في الحضارة الإسلامية“، وهنا يثور التساؤل لماذا لم تُوظف المناهج الإسلامية لإعادة بناء أصول الفقه بدلا من المنهج البنيوي الذي لا يمت للعلوم الإسلامية بصلة.

وفي خضم الحديث عن تجديد أصول الفقه عند حسن حنفي نرى أن الدكتور حنفي يفترض أن النص الأصولى يمكن دراسته بطريقتين:

الطريقة الأولى، دراسة المصنفات الأصولية وفقا للمذاهب، وهذه الكيفية تسمح بتتبع نشأة أصول الفقه في كل مذهب وتطوره من السابق إلى اللاحق، هل استمر على أصوله الأولى أم تحول عنها إلى المذاهب الأخرى، لكن يشوبها أنها ذات رؤية مغلقة تضحي بالأصل من أجل الفرع والعلم من أجل المذهب، كما أن المذاهب لم تكن منغلقة على ذاتها بل كانت متداخلة ومتفاعلة مع بعضها.

والطريقة الثانية، الدراسة العامة للمصنفات بصرف النظر عن المذاهب، وهي أفضل برأيه لأن النص الأصولي واحد والعلم واحد أسسه الإمام الشافعي والخلافات ضئيلة لا تطال بنية العلم وإنما هي في الفروع، وهو ما يبرر الأخذ بهذه الطريقة.

وربما يوحي الأخذ بالطريقة الثانية أن محاولته تقترب من المحاولات الكلاسيكية لكنه سرعان ما يبدد هذا التصور إذ يصرح بأن “علم أصول الفقه الجديد” يقطع مع “علم أصول الفقه القديم” الذي انغمس في السياسة منذ وضع الشافعي الرسالة لضبط طرق الاستدلال وتثبيت النص، واستمر حتى الغزالي في “المنخول” حيث تم تشبيه الله بالسلطان، والسلطان بالله، على حين تتميز أصول الفقه الجديد بخصائص هي:

  • الوحدة، وتتمثل في البعد عن الخلافات المذهبية في الفقه والكلام، فهو محاولة لبناء علم يتجاوز منطق الخلاف والفرقة إلى الاتفاق والوحدة.
  • الحيادية، وتعني أن أصول الفقه القديم وقع في الحجاج والسجال والجدل بين المذاهب، معتبرا أن فرقة واحدة على صوب والبقية الباقية على خطأ ولذلك” فإن أصول الفقه الجديد لا يُخطئ ولا يصوب أحدا، ويعتبر كل الاجتهادات تعبر عن وجهات نظر في الموضوع”، وتنقلب الحيادية إلى نسبية مطلقة إذ “لا يوجد صحيح وفاسد، خطأ وصواب” ولكن هناك اعتراف بالتعددية “لا يسمح بإصدار الحكم على الصحيح أو الفاسد”.
  • عدم الاعتداد بالأدوات الفقهية، واعتبار إثباتها ونفيها سواء من حيث الأثر والنتيجة فكأنها هي والعدم سواء، وعلى سبيل المثال فإن نفي القياس لديه يفسح المجال “للعمل الطبيعي” دون سؤال التعليل والتحريم فما سكت عنه فهو مباح أو عفو، أما إثباته فيعني البحث عن علل الأحكام التي تثبت استمرارية الشريعة في التاريخ، وهو أمر منطقي تفضي إليه السيولة لكن ما هي الأدوات التي اعتمدها الدكتور حنفي بعد إطاحته بالأدوات الفقهية، وهنا نجد أنه لم يستعن بأي أدوات بديلة، لقد تم تغييب الأدوات والمناهج والمؤلفين أنفسهم ولم يعد حاضرا في النص سوى البنية.
  • الانطلاق من الواقع، ينطلق علم الأصول الجديد من الواقع لا من النص كما هو الحال في علم الأصول القديم، وهو ما يعني تقديم المصالح على الحروف والمباني، إنه استئناف للشاطبي والطوفي كما يدعي الدكتور حنفي الذي لا يقيم برهانا واحدا على هذه الصلة، ولا فيم تكمن.

من التنظير إلى التطبيق: الرسالة نموذجا

حاولنا فيما سبق التعريف بالمنطلقات النظرية لمشروع الدكتور حسن حنفي لإعادة بناء علم الأصول، وننتقل في هذا القسم إلى الجانب التطبيقي ممثلا في كيفية تحليل المصنفات الأصولية، حيث قام في الجزء الأول من مشروعه بتحليل ما يقرب من مائة نص أصولي بحثا عن بنية علم الأصول مع إقصاء تام للظروف التاريخية التي نشأت فيها النصوص وتكونت، وبمعزل عن مؤلف النص وذاتيته بحجة أن النص موضوعي وليس ذاتيا، وهو يفترض أن البنية تبدأ بالبنية الأحادية وصولا إلى البنية الثمانية، ويقدم نماذج لكل نوع من هذه الأنواع الثمانية مرجحا أن البنية الثلاثية والرباعية هي الغالبة على المصنفات الأصولية، وأن الثلاثية هي الأصل إذ أن الرسالة للإمام الشافعي ذات بنية ثلاثية وما بعدها هو مجرد تفريع عليها، ولنشرع الآن في بيان التحليل البنيوي لكتاب الرسالة.

استهل الدكتور حسن حنفي تحليله للرسالة بالإشارة إلى أنها تكشف عن وجود بنية ثلاثية متداخلة لا فاصل بينها:

  • الجزء الأول يتعلق ب”البيان” وهو مصطلح يعني الأدلة النقلية وأوجه الاستدلال بها في حالة تعارض رواياتها”.
  •  والجزء الثاني “استمرار لأحكام التكليف في المحرم نقيض الفرض، استمرار للموضوع وإن كان انقطاعا في الشكل، وتستعمل صيغة النهي في المحرم دون استعمال صيغة الفرض وهما من مباحث الألفاظ، ويبدو التعليل في الأحاديث وطرق الاستدلال بها وليس في الأفعال” هكذا بنص العبارة.
  • والجزء الثالث “استمرار لخبر الآحاد” ثم عرض للإجماع والقياس والاستحسان.

وربما شعر الدكتور حنفي أنه يتعذر فهم مقصود حديثه، لذا يلخص مراده بالقول” إن الأجزاء الثلاثة التي تتكون منها الرسالة هي في الحقيقة عن الأدلة الشرعية، في الجزء الأول البيان خاص بالقرآن، والثاني خاص بالحديث، علل الحديث، والثالث خاص بالإجماع والقياس والتعارض والتراجيح” موضحا أن الأجزاء تتساوى فيما بينها، وأنها تشكل بنية عقلية خالصة لا تعتمد على أي اجتهادات سابقة لكونها تأسيسية لذا فهي لا تشير إلا إلى ذاتها.

وبالإمكان أن نستخلص من هذا الحفر وراء البنية أن مشروع تجديد أصول الفقه عند حسن حنفي أو إعادة بناء علم الأصول كما صاغه الدكتور حنفي لا يفضي إلى نتائج عملية ملموسة تسمح بتطوير أصول الفقه، فضلا عن الادعاء بإعادة بنائه، فليس هناك سوى الرطانة اللفظية والدعاوى الرنانة والدوران حول الفكرة بشتى السبل وهي أولوية الواقع على النص سواء أكان نصا دينيا أم أصوليا.