القرآن الكريم يشتمل على تاريخ كثير من الأنبياء وسرد قصص الأمم الماضية فضلا عن بيان العقائد التي يحتاج إليها الإنسان والعبادات المطلوبة منه، رغم أنه لا توجد فيه كلمة ’التاريخ‘ ومشتقاته، فقد استخدم كلمات أخرى تعبر عنها كـ ’النبأ‘ و’القصة‘و’الحديث‘ وغيرها، كما قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) {سورة المائدة – 27}، وقال أيضا: (نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ) {سورة يوسف- 3}، وقال في موضع آخر (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ) {سورة النازعات- 15}، والأمثلة على ذلك تطول.
كلمة القصص تدل على اتباع الأثر، كما قال الله تعالى: (فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا) {سورة الكهف- 64}. ويرصد الإمام أبو الأعلى المودودي عن التاريخ بأنه “فن مهم لا يهمل، واتخذ المؤرخون عادة ثلاثة مناهج مهمة لدراسة التاريخ. أولها، سرد الوقائع كما حدثت في الأزمنة الماضية بدون إلقاء النظر إليها والتمحيص عنها، وثانيها تحسين القبح وتزيين المشوه منه لتعظيم الشعوب والبلاد، وثالثها دراسة التاريخ وسرده لمصلحة البشر دون النظر إلى حدود البلاد وأسماء الشعوب، فيميز الخير من الشر ولا يميل إلى جنس دون آخر، ولا إلى شعب دون شعب، فهذا الثالث هو الذي تتفق عليه النظرية التاريخية التي يقدمها القرآن”.
يمتاز أسلوب التاريخ في القرآن عن الكتب التاريخية تماما، لأنه قد اعتنى بذكره إدراك عبره ومواعظه من أجل ترسيخ إيمان المؤمنين في نفوسهم وتحذير المنافقين والمشركين من سوء أعمالهم. وهذا المنهج مختلف عن مناهج كتابة التاريخ المشهورة بين أيدى الناس التي يهتم المؤرخون فيها بتسجيل أسماء الأشخاص وبلادهم وعددهم. فلاحظ الإمام شاه ولي الله الدهلوي حكمة عظيمة في إهمال القرآن الكريم تفاصيل القصص وجزئياتها. وهو يقول: ’والحكمة هنا أن العوام إذا سمعوا قصة نادرة غاية الندرة، أو جاء أمامهم استقصاء جميع خصوصيات القصص يتوجهون إلى نفس القصص، أو إلى خصوصياتها ويرغبون فيها، ويتركون الغرض الأصلي (الأساسي) من القصص وهو التذكر والعبرة، ويكون هذا مثل ما قال بعض العارفين: ولما تعلم الناس علم التجويد وقواعده صاروا محرومين عن الخشوع في التلاوة‘.
والحوادث المذكورة في القرآن الكريم كلها حق لا يوجد فيها خيالات وأساطير وأباطيل، يتضح ذلك بقوله تعالى: (﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) {سورة فصلت- 42}، كما قال السهيلي: ’حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم، فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد ﷺ‘. ليس الغرض من قصص القرآن سرد الأحداث في صورة فنية رائعة شأن الأديب الذي يتجه إلى تصوير الحادثة تصويرا فنيا، بل كل نبأ الأمم الماضية احتوى على خزائن المقاصد والفوائد التي يهتدى بها الإنسان إلى الخير. ولذلك قال الدهلوي: ’وليس المقصود من سرد تلك القصص معرفة نفسها، بل المقصود الأساسي من ذلك هو انتقال ذهن السامع من القصة إلى وخامة الشرك، والمعاصي، وإلى عقاب الله المشركين والعصاة، وكذلك اطمئنان المؤمنين بنصر الله، وظهور عناية الله للمخلصين من المؤمنين‘.
وإنما أهداف دراسة التاريخ في القرآن الكريم مشيدة على أربعة عناصر،
أولها العبرة: كما قال الله تعالى: (لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِي ٱلۡأَلۡبَـابِۗ) {سورة يوسف– 111}، إن سورة يوسف تنطوي معظم آياتها على حكاية وقعت في مختلف مراحل حياة يوسف عليه السلام، تمر الآيات ببلائه الذي واجه في صغره من مؤامرة أخوته وإلقائه في الجب وحب زوجة العزيز إليه ومراودتها عن نفسه وأيام سجنه حتى صار سلطانا لمصر، وقد أخذ المبتلى والمحزون من قصة يوسف عليه السلام عبرة ممارسة الصبر على مصائب الدينا. فمن هنا تطمئن قلوبهما بعون الله تعالى وهذا فيؤديه إلى استراحة نفسهما من الآلام الشديدة، قال ابن عطاء عن سورة يوسف: ’لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها‘.
والثاني، النكال: قال الله عز وعلا: (وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِینَ ٱعۡتَدَوۡا۟ مِنكُمۡ فِی ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ) (فَجَعَلۡنَـٰهَا نَكَـٰلࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةࣰ لِّلۡمُتَّقِینَ) {سورة البقرة– 66،65}، فالنكال معناه عبرة مانعة عن ارتكاب مثل ما عمل أصحاب الأنبياء الصالحين، وجعل الله العذاب الذي حل على أصحاب رسله بذنوبهم عبرة لمن يعمل الأعمال السيئة بعدهم، وينبغي للمؤمنين البعد عن كل الكبائر والأثام التي فعلها أهل عاد وثمود وقوم لوط وشعيب عليهم السلام.
والثالث الموعظة: الوعظ تنبيه للغافلين عن الأمور الواجبة أداءها والأشياء التي تطلب اجتنابها كما قال الله تعالى: (فَجَعَلۡنَـٰهَا نَكَـٰلࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةࣰ لِّلۡمُتَّقِینَ) {سورة البقرة- 66}.
وكان عثمان رضي الله عنه يقول: ’لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله‘، فيبرز من كلامه عجز الإنسان عن صاينة أخلاقه والحفاظ على أعماله دون الوقوع في حفرة الأخطاء التي حدثت في التاريخ، فلا بد لنا من النهل من مناجم الوحي حتى تشبع النفوس وتشفى شفاء كافيا بها. والرابع الذكرى: معناه تذكير الناس بالأمور التي نسوها في معاملاتهم المختلفة، وقد أحاط النسيان بجميع مجالات الإنسان فيجب أن يرشده التذكير بين حين وآخر حتى يرق قلبه وينتبه عن غفلته التي تحول دون سعادته، قال الله عز وجل: (وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَاۤءَكَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةࣱ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ) {سورة هود– 120}، فيأخذ أولو الألباب الوعظ من رسالة الأنبياء ونصائحهم لنجاحهم في المعاش والمعاد.