تتمثل كبرى مشكلات العالم اليوم في عدم وجود تسامح وقانون يكفل حق الأفراد والجماعات بصدق، وحرية تعلي من قيمة الإنسان – الذي جاء تكريمه في القرآن – أيا كان، دون النظر إلى لونه أو جنسه أو عقيدته. فالتسامح والحرية ركنان أساسيان من أركان الحياة لا غنى عنهما لأي مجتمع مهما كانت طبيعة القانون الذي تقوم عليه الدولة، وينظم سلوك أفرادها.
من هنا يمكن القول إن إشاعة روح التسامح والإخاء بين الأفراد، أمرٌ كفيلٌ بإيجاد تعايش سلمي يسهم في تطوير العلاقات البينية بين الدول والجماعات، ويقوي روابط الأخوة الإسلامية والدولية، فشعوب العالم بدون التسامحِ لن تستطيع أن تتعايش على بساط المعمورة الفسيحة، لأن الإساءات حينها ستمثل عائقا دون التعايش المنشود، وبالتالي فإن تلك الإساءات ستُفقِد الحياة قيمتها، لذا لا بد من توجيه البوصلة نحو التسامح لضمان تعايش سلمي حقيقي، وإلا فإن العداوات ستنتشر بشكل مستمر، وقد لا تتوقف، كما تنبه لذلك المهاتما غاندي حين قال :”إذا بادلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟”.
تعكس هذه المقولة حقيقة قد لا يتنبه كل إنسان إلى عمقها ودقتها، ففكرة تبادل الإساءات سلوك غير حضاري وعندما يسري في مجتمع سيؤدي به إلى التحلل، أما الدول فسيحولها إلى غابة لأنه من الصعب السيطرة على نهايته، لذا فإن الأسلم أن نحذر دائما من أن نكون طرفا في إشعال نار الإساءات، وأن نظل في عمل جاد من أجل أن يعمَّ نورُ التسامحِ شعوبَ العالم، وحينها سيُشرقُ فجرُ الحرية والعدالة، وسنعيش في عالم دولي يجسّدُ التسامحَ على أرض الواقع.
لقد ظل التسامحُ على مرِّ التاريخ يمثل ركيزة أساسية من ركائز التعايش السلمي الذي تنشده كل الدول، وأيّ شعب لا يتمتع برصيد معتبر من التسامح هو شعب يحتاج مراجعة أسُسِ حضارته التي يستند إليها. فانعدام عنصر التسامح في ثقافة الشعوب يعني غياب ركيزة تعرف بـ”المحبة”، والتي تعتبر ضرورة من ضرورات التعايش السلمي، إذ لا يمكن لشعب أن يعيش بهناءٍ دون أن تكون هناك محبة متبادلة من طرف أفراده.
إن الواقع المعيش يؤكد أنه لو تمّ تفعيلُ ثقافة التسامح بين شعوب العالم على اختلافها، لما شاهدنا دماء تسيلُ هنا وهناك، ولَمَا رأينا الأطفال والنساء يموتون جـوعا وعطشا في وطنهم أمام الجميع، ولا تتحرك أيّ دولة بصدقٍ من أجل تضميد جراحهم النازفة منذ ردح من الزمن.
إننا نحتاج في هذا اللحظة التاريخية الحَرِجَة أن نعلم جيدا أن التسامح يمثل شريان الحياة، وبالتالي فإن كل جهد بذلناهُ في سبيل إشاعة التسامح بين الشعوب سيعودُ علينا في المستقبل بنتائج كبيرة تسهم في تحقيق العدالة والحرية، وتضميد الجراح التي خلَّفها الظلم والاستبداد في جسم شعوب العالم منذ فترة، فـ”التسامح كفيلٌ مستقبلا بتضميد جراح الإنسانية”. كما يقول مرمدوك بكثال.
ثم إن التسامح أيضا يمثل قمة المروءة والسعادة، ولذا أعتقد أنه ينبغي أن يُدرَجَ كمادة أساسية ضمن كل القوانين الدولية، والمقرّرات التربوية التعليمية، من أجل ضمانِ تعايش حقيقيّ منظم في المستقبل للأجيال القادمة، لأن أيّ حياة لا يوجد فيها نظامُ تسامحٍ سينتشر فيها التباغض والشقاء –لا محالة- بدل الألفة والمحبة. وقد كان أحمد شوقي صادقا حين قال:
تسامح النفس معنىً من مروءتـها**بل المروءة في أسمى معانيها
تخلـقِ الصفحَ تسعد في الحياة به**فالنفسُ يسعـدها خلقٌ ويشقيـها
نعم..هي نفسك يابن آدم، إن أردتَ أن تُهلكها بالبغض والحقد على الآخرين، فيكون نصيبُك الشقاء، وإن شئتَ أن تُسعدها بالتسامح والعفو عن الناس، لتنال “جزاء المحسنين”، ويُكفِّرَ الله عنك بعض ما عملتَ من سيئات..فاختر لنفسكَ أي الخيارين تختار.
إن من المؤسف جدا غياب التسامح عن العالم بشكل عام. أما العالم الإسلامي فيتملكني العجب من غياب روح التسامح بين أفراده ورسالة الإسلام بين يديه، ومن الأدلة الشاهدة على غياب التسامح عندنا، أنك لو مررت بشخص يسيرُ في الشارع وصدمته عن طريق الخطأ فإنه قد يُشْهِرُ سلاحه في وجهك، محاولا القصاص عن طريق العمد، وهذا مشكلٌ حقيقيٌّ يهددنا. ولكن لو انتصرنا على الأَنا، وجسدنا التسامح في يوميات حياتنا، لأصبحنا “جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”. وحينها سنستطيع المساهمة في تضميد جراجات الإنسانية، لأننا أصبحنا نمتلك رصيدا من الإحساس الصادق تجاه الإنسان.