ليس هناك أدنى شك في أن ما عند الله أو ما أعده سبحانه في الآخرة لعباده الصالحين الطائعين، خيرٌ وأبقى.. خير من الدنيا وما فيها. فما هذه الدنيا إلا متاع زائل لا محالة. متاع منزوع عنه حقيقة الخلود. تلك الحقيقة التي ستكون حاضرة في كل أمور الآخرة، من جنة ونار، سعادة وشقاء. تأتي الآية الكريمة في سورة الشورى ( وما عند الله خيرٌ وأبقى) لتقرر أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. لكن لمن ستكون تلك الخيرية أو خوالد الأمور والأشياء في الآخرة؟ إنها مقررة للذين يتصفون بصفات معينة، ويقومون بأفعال محددة، ويمتازون عن غيرهم بطبائع وسلوكيات تجعلهم مؤهلين لنيل خيرية الآخرة.

فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى. السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: لمن هذه الخيرية يا رب؟ إنها بكل وضوح كما تقول الآية (للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) بالإضافة إلى صفات أخرى سنأتي عليها بعد قليل.. فتلك الخيرية إذن للذين وقر الإيمان في قلوبهم أولاً واستقر وتمكن منها. سلوكياتهم وأفعالهم وأقوالهم تمضي وفق ما استقر من إيمان عميق بالله في القلوب. هذا ما وجده الصحابة الكرام بعد أن انتقلوا من عالم الكفر والفوضى إلى عالم الإيمان والنظام والاستقرار.

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي – رحمه الله – في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عن هذا الإيمان:” وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام، ولا ينخرطون في سلك، يسيرون على الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء. فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان، والأمر والنهي، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة، وأعطوا من أنفسهم المقادة، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله، ولا يرضون ولا يسخطون، ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره”.

ومن يتوكل على الله فهو حسبه

ثم متى استقر الإيمان في القلب، اطمأنت النفس قبل الجسد، وصار بالتالي مفهوم التوكل على الله في كل الأمور واضحاً لا ريب فيه، وهو الصفة الثانية بعد الإيمان، للذين أعد الله لهم ما بالآخرة من خير لا مثل له في الدنيا (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
إن تخلى الناس عنك فتوكل على الله، وإن عاداك الخلق فتوكل على الله، وإن تآمر عليك متآمرون فتوكل على الله، وإن أردت النصر من الله فتوكل عليه.. ليكن توكلك على الله بشكل خاص في عظائم الأمور، تنال صغائرها دون أن تشعر، ولتكن همتك عالية وتوكلك على الله عظيماً، ولا تكن مغبوناً في توكلك.

في هذا يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:” ترى بعض الناس يصرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، مع أنه يمكنه نيلها بأيسر شيء، وفي المقابل ينسى أو يغفل عن تفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان، والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خيراً، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة. كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين”.

والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش

لا شك أن القلب المتمكن منه الإيمان الصحيح، ليس به تلك الفراغات التي يمكن أن يقذف فيها الشيطان ما يعكر صفوه ونقاءه. ذلك أن قلب المؤمن الصادق، المتوكل على الله في كل أموره وشؤونه، لا يتوافق أو يتآلف مع الآثام والمنكرات، صغيرها وكبيرها. حتى وإن ضعف بحكم فطرته البشرية، فإنما يظهر الضعف في الصغائر، التي تمحوها بإذن الله الحسنات، التي يُذهبن السيئات.
إن طهارة القلب، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش – كما يرى صاحب الظلال – أثر من آثار الإيمان الصحيح، وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة. وما يبقى قلبٌ على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها. وما يصلح قلبٌ للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره.

ثم تواصل الآية الكريمة ذكر الصفات الواجبة لنيل خيرية الآخرة، لنجد صفة ضبط النفس والتحكم فيها عند أشد أنواع الانفعالات الفطرية سهلة الإثارة، وهو الغضب (وإذا ما غضبوا هم يغفرون ). الوصية الذهبية التي خرج بها أعرابي من عند الرسول الكريم – – حين قال: أوصني، قال: لا تغضب. فردد مراراً، قال: (لا تغضب) لما في الغضب من انفعالات ومشاعر تفصل الإنسان ولو للحظات قليلة عن الواقع، قد يقوم أثناءها بسلوكيات وأفعال، ربما لن ينفع معها بعد ذلك ندم طوال عمره، ولات حين مناص. إن الغضب ينقص من الدين، ويؤثر على المظهر العام للشخص، بالإضافة إلى تأثيراته السلبية على الصحة بشكل لا خلاف عليه، كما يقول بذلك السادة الأطباء وخبراء النفوس الإنسانية.

والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة


صفة أخرى عظيمة من صفات أولئك المستحقين لخيرية الآخرة، والخلود فيها. إنها الاستجابة لأوامر الله ونواهيه، وطاعته والسير على صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين. استجابة خالصة نقية لا تشوبها شائبة، ولا يخالطها تردد أو شك قيد أنملة. وكيف يكون التردد وقد ارتقت نفوسهم وصفت وتعالت على كبائر الإثم والفواحش، صغيرها وكبيرها، حتى صارت مهيأة لأي أمر أو نهي من لدن العلي القدير، ومن ذلك إقامة الصلاة، عماد الدين، لحديث جابر قال: سمعت النبي – – يقول: إن بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة.

من يقيم الصلاة في أوقاتها، محافظاً على أدائها بالصورة الصحيحة المعروفة، غير متكاسل ولا متهاون في أمرها، فإنه مع سائر العبادات والتعاليم الأخرى أحفظ، وإلى التحلي بصفات أهل الآخرة أقرب. ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله، زكاة أو صدقات، فإن الإنفاق هو أحد الأعمال المزكية للنفس، تخلصها من حب المال وملحقاته من طمع أو جشع أو اسراف وتبذير وغير ذلك مما تعطل النفس التواقة للآخرة من المضي قدماً في مسعاها.

وأمرهم شورى بينهم

تأتي بعد استقرار الإيمان في القلوب والاستجابة لأوامر الله ونواهيه، وضبط النفس وقت الشدائد، صفة أخرى راقية من صفات المؤمنين الصادقين، وهي المشورة أو الشورى في الآية الكريمة – مدار حديثنا اليوم – (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم). أي لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم – كما جاء في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي – مضيفاً إلى أن هذا لا يكون إلا فرعاً عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لمهمة أو قضاء أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموماً، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية.

تلكم كانت بعض صفات من وعدهم الله ما عنده من خير أعظم وأجلّ وأزكى وأرقى وأبقى. خيرية دائمة خالدة، جزاء وفاقاً لمن آمن بالله صدقاً وعدلا، واستجاب لله وأطاعه سراً وعلانية، وأقام الصلاة وزكى نفسه بالإنفاق، وسار مع الجماعة، يشاورهم لا يفرق أمرهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.