تعتبر الهند قلعة شامخة من قلاع الإسلام، ولد وعاش فيها الكثير من علماء الأمة الصالحين والمخلصين لدين الله، وكانت مرتعا لعباقرة تكاثفت بعطاياهم المكتبات الإسلامية وكانت لهم الأيادي الطولى في إثراء العلوم الإسلامية، ولا نزال لحد اليوم نشم رائحة أعمالهم الراقية، ومن هؤلاء العلامة الشيخ أبو الحسنات الهندي اللكنوي وهو فقيه وعالم بالحديث والتراجم، ويعتبر علما من أعلام الهند الكبار وعبقريا من عباقرة الإسلام.

هوالإمام الشيخ محمد عبدالحي بن محمد عبد الحليم الأنصاري اللكنوي الهندي أبو الحسنات الفرنجي محلي، فخر المتأخرين، ونادرة المحققين المنصفين، والمحدث، الفقيه، الأصولي، المنطقي، المتكلم، المؤرخ، النظار، الباحث، الناقد، ابن العلامة المحقق الإمام المتفق على براعته وإمامته الشيخ محمد عبدالحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، المنتهى نسبه إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري صاحب سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهو من علماء الهند الكبار، لا يقل قيمة عن محمد واضح الندوي أو محمد أنور شاه الكشميري

مولده ونسبه ونشأته

ولد علامة الهند، الشيخ أبو الحسنات الهندي في بلدة (باندا) في الهند في يوم الثلاثاء 26 من ذي القعدة سنة 1246، وهو عبد الحي بن عبد الحليم بن أمين الله بن محمد أكبر بن أبي الرحم بن محمد يعقوب بن عبد العزيز بن محمد سعيد بن الشهيد قطب الدين الأنصاري السهالوي اللكنوي. ويقال له اللكنوي: نسبة إلى لكناو، وهي تقع على ضفتي نهر جومتى، عاصمة الولاية الشمالية.

كما يقال له “الأنصاري” أو “الأيوبي” لكونه من قبيلة الأنصار، تنتهي سلسلة نسبه بنحو 43 واسطة غلى سيدنا أبي أيوب (خالد بن زيد بن كليب) الأنصاري رضي الله عنه وهو صحابي معروف في التاريخ الإسلامي بمضيف الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. ويقال له أيضا “الفرنجي محلي” نسبة إلى “فرنجي محل” وهو (قصر للإفرنج) حصلت له هذه النسبة من أجداده لاتخاذهم غياه مسكنا لهم، وفرنجي محل هو الآن من أحياء مدينة لكناو.

أخلاقه وتعليمه

شرع في حفظ القرآن الكريم حين بلغ الخمس سنين، وفرغ من حفظه وهو ابن عشر سنين، ومنح منذ نشأته قوة الحفظ الواعية حتى قال عن نفسه وهو في عشر الأربعين “..ورزقت قوة الحفظ من زمن الصبا، حتى إني أحفظ كالعيان جميع الوقائع”.

قرأ أول ما قرأ على والده بعض الكتب الفارسية و الإنشاء والخط أثناء حفظه للقرآن، وكان يدارس والده فيه أيضا. و بعد أن فرغ من ذلك كله شرع في تحصيل العلوم الشرعية وآلاتها، فقرأ الكتب الدراسية في الفنون المختلفة: الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والمنطق، والحكمة، والطب، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والحديث، والتفسير، وغيرها من العلوم. و كانت أكثر قراءته لهذه العلوم على والده، كما قرأ على خاله الشيخ محمد نعمت الله العلومَ الرياضية بعد والده.

وقد ألقي في قلبه من مستهل شبابه محبة التدريس والتأليف، فلم يقرأ كتابا إلا درٌسه بعد قراءته، فحصل له من ذلك التمكن في العلوم، وتسنى له بما صار لديه من الملكة في الفهم والعلم أن يقرأ الكتب التي لم يكن قرأ ها على أستاذ ككتاب “شرح الإشارات” للطوسي، و”قانون الطب” و “علم العروض” وغيرها.

أعطي أبو الحسنات الهندي في تدريسه القبول والرضى من طلبته والآخذين عنه، وشاع الثناء عليه من شيوخه وعارفيه.ولما توفي والده رحمه الله تعالي وكان ناظما للعدالة في مدينة (حيدر آباد الدكن)، عرض عليه بإصرار أن يتولى مكان أبيه في تلك الإدارة العليا للمدينة فأبى واعتذر، لأن ذلك يعوقه عن التدريس والتأليف، و قنع باليسير من المورد راضيا مسرورا، متوجها إلى التعليم والتصنيف ونشر العلم لوجه الله تعالى.

الحديث أحب العلوم

كان أحب إليه من العلوم الحديث الشريف، وفقه الحديث وما إليه من علوم المنقول، مع تفوقه في العلوم العقلية، وحدث عن نفسه: أنه يجد في تدريس الحديث الشريف وفقهه والتصيف فيهما من اللذة والسرور ما لا يجده في سواهما من سائر العلوم و الفنون.

و كان ذا فتوح رباني عظيم في المسائل المعضلية، و المباحث الدقيقة المشتبكة، فكان كما قال عن نفسه:”ومن منحه تعالى: أنه جعلني سالكا بين الإفراط والتفريط، لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يدي إلا ألهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممن يختار طريق التقليد البحت، بحيث لا يترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية، وما كان من المسائل خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه وأظن المجتهد فيه معذورا بل مأجورا، ولكني لست ممن يشوش العوامٌ الذين هم كالأنعام، بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم”.

هندي بلا عُجْمة أو لكْنه

ولقد آتاه الله تعالى ذوقا مرهفا، وحسا علميا نقيا، ودقة نادرة في الفهم، وقوة بالغة في الحفظ، وقدرة عجيبة في التأليف بأسرع وقت و أنصع أسلوب، حتى إنك لا تكاد تلمح في كلامه مَسْحة العُجْمة وهو هندي الدار والمولد واللغة، ولايمكن أن تشك مرة واحدة في ذوقه فيما يكتب أو ينقل أو يناقش، حتى في ثورته على مناوئيه ومخالفيه يتجلى لك من أسلوبه التزام الأدب، وتحكيم العلم في ميدان المناقشة، لا السفسطة والإقذاع.

وكان له حرص نادر بالغ في الاستفادة من الوقت، وإنك لتدهش حين تراه ـ مثلا ـ في كتابه: “الفوائد البهية في تراجم الحنفية” يُعَدِدُ مؤلفات العلماء الذين يترجمهم ثم يقول: طالعت من كتبه كذا و كذا، ويسرد كتبا كثيرة يبلغ بعضها مجلدات ضخمة.

110 كتب ولم يصل الأربعين!!

إذا ذُكِر المصنفون أصحابُ التصانيف الكثيرة التي زادت على المئة كتاب، ذكِر الإمام عبدالحي في طليعتهم، ذلك لأن تصانيفه بلغت نحو مئة وعشرة كتب، وإذا قيست كثرتها هذه في جانب عمره القصير الذي كان 39 سنة، بدت كثيرةً جدا.

ويقر كل من نظر في مؤلفات الشيخ عبدالحي أنها تستوفي التحقيق العلمي الناصع، وتحوي النقول النادرة الفاصلة، والاستيعاب لكل ما في المسألة أو الباب حتى كأنه تخصص طوال عمره في الموضوع الذي يبحثه لا غير، و لا تجد في شيء من كتبه هذه الكثيرة يجترٌ العلم اجترارا، أو يعاد فيها مُعادا مكرورا، حتى في كتبه التي تبلغ مجلدات ضخمة كحاشيته على “الهداية” للإمام المرغيناني وكتابه “السعاية في كشف ما في شرح الوقاية” وغيرهما.

وقد كانت لديه مكتبة جامعة عامرة غنية في كل فن وعلم، تبدو ضخامتها واستيعابها من تواليفه التي تطفح بالنقول عن كتب لاتزال مغمورة في عالم المخطوطات، قل أن يُسمع بها أو يعرف عن وجودها شيء.

أشهر مؤلفاته

للإمام اللكنوي قرابة مئة وعشرة كتب، وقد استوفيت أسماءها وتعدادها في تقدمة كتابه “الرفع والتکمیل”، وأغلبها مطبوع في حياته أحسن طباعة بأتقن تصحيح وأنضر إخراج يتمتع به عصر الكتابة الذي كان فيه. وما من كتاب من تلك الكتب المطبوعة ـ في الغالب ـ إلا أعيد طبعه غير مرة في حياته أو بعد وفاته، ولكنك لا تجد له في المكتبات اليوم أثرا ولا عينا، ومن كتبه ما هو مقرر في كتب الدراسة في معاهد الهند والباكستان كحواشيه على “الهداية” للمرغيناني، وهو من أشهر مؤلفاته الجامعة المحررة النافعة.

ومن أشهركتبه أيضا: “التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد”، و”عمدة الرعاية على شرح الوقاية”، و”تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد”، و”طرب الأماثل في تراجم الأفاضل”، و”الفوائد البهية في تراجم الحنفية”، و”الرفع والتكميل في الجرح والتعديل”، و”الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة”، و”ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني” في المصطلح، و”نفع المفتي والسائل بجمع متفرقات المسائل”، و”إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة”، و”تحفة الأخيار في إحياء سنة سيد الأبرار”، و”فرحة المدرسين بأسماء المؤلفات والمؤلفين”، و”الإفادة الخطيرة”، و”التحقيق العجيب” وغيرها من الدرر.

والملاحظ أن كتابه “الرفع والتكميل” وهو كتاب صغير في حجمه، كبير في فوائده وعلمه، قد استقاه من نحو 150 كتابا. و في كتابه “الأجوبة الفاضلة” ظهرت قدرة الشيخ على استخراج تلك النصوص من بطون تلك الكتب وأكثرها كان مخطوطا.

كما أن الذي يمكن للقارئ أن يلحظه في كتب الإمام اللكنوي الشيخ أبو الحسنات، أنه لا يرى فيها أي أثر للعُنجهية أو الاستعلاء والانتفاخ في العلم، بل يلمس القارىء فيها مسحة التصوف الرقيق البصير، والتواضع الجم النبيل، المصحوب بالعلم والأدب الشرعي الحنيف.

وكان الشيخ رحمه الله تعالى إذا يطالع الكتب والأسفار يَفليها فَلْيا، وينخلها نخلا ويستخرج منها مكنون العلم وعويصه و غاليه، ويدل على ذلك أوضح دلالة جودة تصانيفه التي تحفل بالنقول النادرة والنصوص الناضرة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وفاته

لقد يسر الله تعالى للشيخ الحج إلى بيته الكريم مرتين، مرة مع والده سنة 1279، ومرة بعد وفاة والده سنة 1292، وقد جمع في هاتين الحجتين الشيء الكثير من الفوائد العلمية من العلماء الحرمين الشريفين، كما اقتنى كثيرا من الكتب النادرة المخطوطة والمطبوعة من البلاد التي مر بها.

توفي الشيخ أبو الحسنات ولم يكتمل له من العمر أربعون سنة، كان ذلك في 29 من شهر ربيع الأول سنة 1304هـ وكان يوم حفلة ميلاد لأحد أقربائه، شارك فيها بفرح وسرور مع أنه كان عليلا. رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم والدين والإسلام خيرا.