هناك حملة ضد الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى-، يعيب أصحابها على بعض الأئمة والخطباء وبعض المؤلفين والكتاب رجوعهم إلى كتبه في التصحيح والتضعيف، فبعد رواية الحديث يقولون: صححه الألباني، أو ضعفه الألباني، ثم يعزون هذا إلى أثر الشيخ الألباني في علم الحديث، وإلى كتبه في الصحاح والضعاف من كتبه، أو يذكر على المنابر بعد الحديث أنه صححه الألباني أو ضعفه الألباني.

يعجب المرء من حرص بعض طلبة العلم والمثقفين وولعهم بانتقاد كل فريق للآخر، وقد تعدى بينهم الاختلاف المحمود إلى الاختلاف المذموم، وكأن كل فريق يريد نصرة نفسه على حساب ذم الآخر، وهو مسلك محرم ومفروض شرعا، وقد عاب الله تعالى على الأمة تفرقها، وأباح لها اختلافها القائم على الأصول الشرعية، وفق ما ورد عن الأئمة من الصحابة التابعين وسلف الأمة وخلفهم الأخيار، فقال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 52، 53].

لكن الأخطر في هذا هو أن ينتقل الاختلاف إلى الطعن في علماء كل فريق، وكأنهم ينصبون أنفسهم علماء فوق العلماء وحكاما على آراء من وهبه الله تعالى علما، وقيضه لخدمة دينه، وهو أمر ينبع عن أمراض في القلب و خلل في الفكر واعوجاج في السلوك.

ومظاهر هذا كثير جدا يكاد يطول كثيرا من العلماء من أمثال الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق – رحمهم الله-، كما يطول بعض الأحياء من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.

وتقوم الدعوى على أن من يذكرون تصحيح الأحاديث وتضعيفها عزوا إلى الشيخ الألباني يسقطون تاريخ المحدثين في الأمة منذ العصر الأول، بما كتبه جيل البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم إلى عصر الصنعاني والشوكاني وغيرهم.

وفي هذا المقام يجب التنبيه إلى عدة أمور منهجية، من أهمها:

أولا- أنه ليس من الصواب علميا أن يقال: ( أخرجه الألباني)، فالشيخ الألباني – رحمه الله- ممن اشتغل بعلم التخريج تصحيحا وتضعيفا وحكما بالوضع على الأحاديث، وهو من الرواد المعاصرين في تيسير علم التخريج.

ثانيا– أن الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى- صار علما وإماما في علم الحديث في عصرنا، وقد شهد له القاصي والداني بذلك، وجهوده مشتهرة غير منكورة، لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل.

ولتبيين أثر الشيخ الألباني في علم الحديث، نجد أن أكثر من 300 مؤلف بين تأليف وتخريج وتحقيق وتعليق. ومن أهم مؤلفاته: سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، وتبويب وترتيب أحاديث الجامع الصغير وزياداته على أبواب الفقه، وصحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، والتعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وصحيح الأدب المفرد، وضعيف الأدب المفرد، وتمام المنة في التعليق على فقه السنة، والثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، وغيرها من الكتب.

 ومن أشهر ما كتب في بيان جهوده رسالة جامعية بعنوان: ( جهود الشيخ الألباني في الحديث رواية ودراية. مؤلف : عبد الرحمن بن محمد بن صالح العيزري )، وأصله رسالة ماجستير. ومن ذلك: رسالة الدكتوراه بالجامعة الأردنية بعنوان: منهج الشيخ الألباني في تقوية الأحاديث النبوية للباحث شادي التميمي، وأخرى بعنوان: منهج الشيخ الألباني في تعليل الأحاديث النبوية، للباحث: محمد عبده.

وفي إطار أثر الشيخ الألباني في علم الحديث، نوقشت في الجزائر رسالة بعنوان: ” منهج الشيخ الألباني في التصحيح والتضعيف“. و”إرشاد القاصي والداني إلى فقه الألباني”؛ جمع وإعداد: نظير رمضان حجي، و”التعريف والتنبئة بتأصيلات العلامة الألباني في مسائل الإيمان والرد على المرجئة”؛ لعلي بن حسن، و”التنبيهات المليحة على ما تراجع  عنه العلامة المحدث الألباني من الأحاديث الضعيفة أو الصحيحة”؛ جمع وترتيب: عبد الباسط بن يوسف الغريب، و”الحاوي في فتاوى الشيخ الألباني”؛ لأبي همام المصرين و”فتاوى الشيخ الألباني ومقارنتها بفتاوى العلماء”، و”حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه”؛ للشيخ: محمد بن إبراهيم الشيباني،  و”اختيارات الشيخ الألباني وتحقيقاته”؛ للعلامة: بكر بن عبد الله أبو زيد، و”فتاوى الشيخ الألباني ومقارنتها بفتاوى العلماء”؛ إعداد: عكاشة عبد المنان،  و”مجمع البحرين فيما صححه الألباني من الأحاديث على شرط الشيخين”؛ جمع وإعداد: عصام موسى هادي.

وغير ذلك مما يدل على غزارة علم الشيخ وجهوده في العلم والدعوة.

ثالثا– أن لكل عصر علماءه في العلوم كلها، وقد كان العلماء وطلبة العلم ينقلون عن شيوخهم في عصرهم دون نكير من أحد، وما زال الفقهاء يفتون في المسائل القديمة التي عاصرتنا دون أن ينكر أحد عليهم في ذلك، أو أن يقول: لم ترجعون لعلماء العصر وهناك من كتب فيها من الفقهاء قديما.

رابعا– أن الاجتهاد في الحكم على الأحاديث مثله مثل الاجتهاد في المسائل الفقهية، فكما أن الفقهاء يختلفون في الحكم على المسائل الفرعية، فإن المحدثين يختلفون في الحكم على الأحاديث، بل إن الاختلاف في الحكم على الأحاديث أكبر مساحة من الاختلاف الفقهي.

خامسا– أنه يجب التفرقة بين مجالات ذكر التصحيح والتضعيف والوضع، فمقام الرسائل الجامعية غير مقام الخطب والدروس والكتب الوعظية، وقد كان أساتذتنا يعلموننا عدم النقل عن الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى- في الرسائل الجامعية، حتى نطلع على جهود السابقين من المحدثين والمخرجين، وألا يتساهل الباحث في نقل التصحيح والتضعيف من خلال كتب الشيخ الألباني – رحمه الله- التي يسرت علم التخريج، هذا بخلاف مقام الخطب والدروس والكتب العامة.

سادسا– أنه من المقرر شرعا احترام علماء الأمة بجميع طوائفهم وعلى اختلاف مشاربهم، فعلماء الأمة جميعا هم صمام أمانها، وقادتها نحو حفظ الدين وصيانة الأمة، وقد جاء في الحديث عند أبي داود: ” أنزلوا الناس منازلهم”.

سابعا– الأصل عدم الإفراط أوالتفريط خاصة في الحكم على الأشخاص، فالشيخ الألباني – رحمه الله- إمام من أئمة الحديث في عصره، له منهج في التصحيح والتضعيف، يقع في الخطأ أحيانا، فليس كل أحكامه صوابا مطلقا، وليس نقد كلامه طعنا فيه، فالانحياز لله ولرسوله وللعلم الذي جاء عن طريق السلف الصالح، على أن نقد الشيخ أو تخطئته لا يقلل من جهوده المباركة التي بذلها في خدمة السنة النبوية.

وقد كتب غير واحد من العلماء المعاصرين عن الشيخ الألباني، وبين بعضهم بعض أخطائه في الحكم على الأحاديث، بل وذكر بعضهم رجوعه عن بعض تلك الأخطاء، واعتبرها من شيم العلماء، كما قال بذلك الشيخ محمد الحسن الددو وغيره.

ومن أشهر من كتب في نقد الشيخ الألباني الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في: ”كتب حذر منها العلماء” ، وكمال يوسف الحوت، في مقدمة تحقيقه لـ: ”جزء فيه الرد على الألباني”، وقد كان الأول حسن الكلام في رده بخلاف الثاني.

وممن انتقدوا الشيخ الألباني من باب النصح في الدين والعلم الشيخ ابن باز – رحمه الله، والشيخ بكر أو زيد، والشيخ حمود التويجري والشيخ عبد الله الدويش وغيرهم.

والشيخ الألباني كان من الدعاة المصلحين، كما كان له عناية بالدعوة إلى الله تعالى حول العالم، وله آراء فقهية، انتقد في بعضها.

وعلى كل، فلابد من التفرقة بين نقد الشيخ ورده من الناحية العلمية من خلال العلماء المحققين، وبين الطعن فيه والتقليل من شأنه من جهة غير المتخصصين، على أن الشيخ علم من أعلام المسلمين في العصر الحديث، وقد كتب الله تعالى له الشهرة في الآفاق، ومن أدب أهل العلم الثناء على بعضهم، وعدم التجريح واللمز فيهم، ولا يمنع هذا من مناقشة آرائهم، وقد قرر الفقهاء في قواعدهم:” الحكم على الأفعال لا على الذوات”.