وهنا.. هنا في الخيمة السوداء..
خيمتنا الحزينة.
طرحت على الأسمال أكباد ممزقة طعينة
وتكومت في كل زاوية كآلام دفينه
أوصال إخوتي الصغار
يتضورون من الطوى..
يتقلبون على انتظار
والليل يعصف
يستبد
ولا يقر له قرار!
هو مشهد المسرح العربي المثخن جراحا ونواحا تصوره ريشة شاعر اقتاتت قضايا الأمة قلبه وحمل لواء الدفاع عنها بقلمه ووقته وعلمه في كل مكان، الشاعر الذي رحل عن عالمنا في صمت يوم 14 مايو 2017 بالدوحة بعد أن زرع وجدان أمته أملا وبشرى بقدوم الفجر.
ليست هذه الكلمات سيرة حياة للشاعر الإسلامي محمد أحمد الصديق تأبينا له بعد رحيله، فالشاعر سيرته شعره لا دراساته وشهاداته، وشاعرنا بحق من أولئك الذين امتزجت فيهم الشخصية الدعوية والشعرية جنبا إلى جنب، فهو إذن يصدق عليه شطرا قول علي بن الجهم:
وما أنا ممن سار بالشعر ذكره***ولكن أشعاري يسير بها ذكري
تتسع سيرة شاعرنا هذا باتساع جغرافيا الجرح العربي والإسلامي الغائر، لأنه وضع أمته على منكبيه أنى ارتحل أو حل، يصوغها قصيدة فرح في لحظات صفائه وتستبد به الأحزان فيحيلها بركان نار لا تعرف الخمود، خطيب يهز المنابر وشاعر يسحر العقل والقلب، ومن من الشباب المسلم لا يعرف أشرطة أماسي وندوات أحمد محمد الصديق!
عند ملتقى السهول الخصيبة بجبال الجليل المحتلة تقع مدينة شفا عمرو التي تبعد 20 كلم فقط عن الناصرة، موقعها الاستراتيجي جعلها مركزا لولاة المنطقة منذ القدم كما جعلها مركزا لعرب 48، تقع المدينة على سبعِ تلال فلذلك تُلقّب بِـ”روما الصُغرى”، يقولون إن عمرو بن العاص مر بها زمن الفتوح مريضا وشرب من نبعها المعروف بـ”عين عافية” فتعافى من مرضه ونادى أصحابه: شفي عمرو فسميت به.
في 1941 بتلك البقعة المباركة علت الزغاريد في بيت فلسطيني متواضع فرحا بمولد طفل لم يكن الوحيد الذي ولد في تلك السنة، ولكنه كان الأبرز بين أقرانه فيما بعد، حمل أحمد محمد الصديق بين جوانحه نفسا لا تقبل الضيم فضاق بالاحتلال وهو طفل وآثر الهجرة بحثا عن “منأى للكريم عن الأذى” فعبر حدود لبنان وحط رحاله بالدوحة التي أطل من خلال صحفها وفعالياتها الثقافية على العالم الإسلامي بقصائده المؤثرة التي ما تزال كلماتها تتردد صدى في فضاءات الصحوة الإسلامية.
درس أحمد محمد الصديق في المعهد الديني بالدوحة وتخرج منه 1966 ليلتحق بعد ذلك بجامعة أم درمان دارسا للشريعة وتخرج منها بشهادة الليسانس عام 1970، ليحصل بعد ذلك على الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر الشريف كما حصل على الديبلوم العام في التربية من جامعة قطر التي حصل على جنسيتها فيما بعد.
نشرت أعماله في الصحف العربية آنذاك خصوصا مجلة الحق والوعي الإسلامي والمجتمع والإصلاح وفلسطين المحتلة، كما شارك في كثير من الندوات والمهرجانات وعرفته منابر جمعية الإصلاح في الإمارات والكويت والبحرين شاعرا ملهما للشباب الإسلامي وحاديا للصحوة الإسلامية آنذاك.
عمل في قطر مدرسا لمدة ثماني سنوات ثم انتقل للعمل بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية رئيسا لأحد أقسامها، وخطب الجمعة في الدوحة لأكثر من 20سنة.
كان الشاعر أحمد محمد الصديق يحمل بين جوانحه عالمه الإسلامي المنشود يرمم ما تهدم منه ويزين جنباته بشعره الأخاذ، فأطلق “نداء الحق” وقدم رؤيته لـ”الإيمان والتحدي” ذلك التحدي الذي جعله يسطر “ملحمة الشيشان” وينادي بحرقة المؤمن الملتاع “يا سيراييفو الحبيبة” غير ناس في غمرة صوت الموت القادم من آسيا أن يكتب في هدوء الداعية ووقار المربي “قصائد للفتاة المسلمة”، مسرجا حصان الروح ليغرد مع “طيور الجنة” أنشودة الظفر في “ملحمة الشيشان”، وهي كلها عناوين لدواوين شعرية كثيرة أصدرها الشاعر الفريد.
ومن أشعاره الرائدة قوله في مناجاة ربانية خاشعة:
بقربك تزدهي مني الرغاب***ويعذب في محبتك العذاب
وقلبي جنة ما دمت فيـــه***وإلا فهو محــروم يُباب
رضاك هو المراد فلا تدعني***بعيدا دون أشواقي الحجاب
ويقول من قصيدة “هي الأنبار”:
حذارِ حذارِ إنْ ثارَ الـ***حَليمُ، وجَلْجلَ الغَضَبُ
وضاقَ بكلِّ طاغوتٍ***على أكتافِهِ يَثِبُ
أيُبصِرُ ما الذي يَجْري؟***أيَجهلُ ما الذي يَجِبُ؟
هَشيمُ حصادِهِ شَوكٌ***وكلُّ بِنائِهِ خَرِبُ
يَبيعُ الشعبَ أوهاماً***وُعوداً.. كلُّها كَذِبُ
على دبَّابَةِ المُحْتَلِّ***جاءَ الرأسُ والذَّنَبُ
ولله ما أوجع قوله في قصيدته التي كتبها بعد علمه بوفاة أمه:
ذكراك ينكأ جرحا ليس يندمـل***لولا مصابـــرتي هيهات يحتمل
أماه..هذا مقام العفو إن كلمـت***يدي فؤادا رقيــــقا خطبه جلل
إني جهلت وما جهلي بمغتفــر***إذ رحت في التيه عن مغناى أرتحل
خلفت فيه الصبا والأمنيات وما***يضم من ذكرياتي السـهل والجبـل
ومهجتي منحتنـي كل ما ملكت***لم يثنها تعب يومــا ولا كلـــل
قصائد الشاعر المؤمن محمد أحمد الصديق ودواوينه الكثيرة الممتدة عبر خارطة الوطن الكبير لا تكتفي في التذكير بها الاستشهادات الجزئية في مقال يراد له الاختصار بل لا بد أن يفرد لها سفر كامل بطول وعرض حياة صاحبها الذي كان في قلب أحداث أمته بعقله ووجدانه ونثره وشعره، ولعل الله أن يتيح وقتا آخر لكتابة قراءة في شعر الراحل تكون بعضا من الوفاء اللازم له، وإني لأرى أنه من الأمانة التي تطوق أعناق الجيل الذي رباه أن يجمع أعماله الكاملة وينشرها وأن ينشئ موقعا لأعماله وأشرطته وإنتاجه.
رحم الله الشاعر والداعية الإسلامي الكبير محمد أحمد الصديق وأسكنه فسيح جناته.