في حجرة القسم الشرعي بموقع إسلام أون لاين في حدود عام 2003م، دخل الطبيب الخلوق د. مجدي سعيد، رئيس القسم الصحي آنذاك بمشاعر مع الفرح والاستبشار المخلوطة بكثير من الوجل والقلق، قائلا : فتح علمي عظيم، ويتوقع أن يكون له مستقبل وأثر كبير في علاج كثير من الأمراض والتشوهات الخِلقية ، ومن ذلك بعض أنواع السرطان ، والبول السكري ، والفشل الكلوي والكبدي، وغير ذلك من الأمراض السارية والمستعصية!
لكن القلق في أن يُحارَب هذا المشروع من الفقهاء، فيئدوه في مهده بتحريمهم إياه.
سألناه : وما هذا المشروع يا دكتور ؟
أجاب : استخدام (الخلايا الجذعية ) في العلاج وإجراء التجارب العلمية المختلفة.
الخلايا الجذعية
لم أكن سمعت بهذا المصطلح من قبلُ، كما لم أكن أعرف شيئا عن ماهيته، ولا عن سبب التخوف من تحريم الفقهاء إياه.
ولم تكن محركات البحث أيامها على ما هي عليه اليوم، بحيث تكتب المصطلح المستفهم عنه، فيأتيك سيل من المعلومات حوله. بل لم تكن كلمة جوجل أصلا من المفردات الشائعة.
لكن الدكتور مجدي لم يتركنا لهذه الحيرة، فقد كشف لنا أن هذه الخلايا يتم الحصول عليها من خلال السقط، وهي الأجنة التي لا يكتمل نموها فيحدث لها إجهاض أو إنزال مبكر!
أبدينا تعاطفنا مع د. مجدي، وشاركناه حماسته، ووعدناه ببحث الموضوع.
لم يستغرق البحث وقتا طويلا؛ فقد بدأت بمراجعة قرارات المجامع الفقهية، وأنا أعلم أنها لم تترك شاردة ولا واردة في الطب والاقتصاد إلا وأبدت فيها الرأي الشرعي.
وسرعان ما وجدت أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قد بحث الموقف الشرعي من استخدام الخلايا الجذعية في التجارب العلمية والتداوي سنة 1990 م. أي منذ أكثر من عقد من الزمان.
وقد انتهى المجمع إلى جواز الحصول على الخلايا والأنسجة من معظم الطرق التي توصل إليها العلم آنذاك، ولم يمنع إلا إجهاض الجنين من أجل الحصول على خلايا منه.
كما سابق المجمع الكشوف العلمية فنص على جواز صورة قد يحملها المستقبل ولمَّا تتحقق بعد في أرض الواقع، وهي استزراع خلايا في المخ في مزارع للإفادة منها، فنص على أنه لا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعًا ، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
ثم تتابعت فيما بعد قرارات مجمعية أخرى، منها قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، الذي أصدر قرارًا مفصلًا في ذلك الخصوص عام 2003م، وانتهى فيه إلى القرار ذاته .
تساوق الفقه مع الكشوف العلمية
والمقصود أن التخوف من أن يكون الفقه عائقا في طريق شيوع التجارب الدوائية والعلاجية للخلايا الجذعية، لم يكن في محله لعدة أسباب:
السبب الأول : أن الفقه لم يتخلف عن المسيرة العلمية في هذا الصدد، بل تساوق معها، فلم يتأخر في الدراسة والبحث والمناقشة، ولم يتعنت بالتحريم، بل أبدى موافقته على جميع الطرق التي يتحصل منها على الخلايا الجذعية ما عدا قتل الأجنة.
السبب الثاني : أن المسيرة العلمية لم تكن متوقفة على الرأي الفقهي أصلا، فإنها على أشدها في البلاد الغربية التي لا تتقيد بالفقه ولا بالأخلاق في الجانب العلمي، وعلى الرغم من ذلك فإنها حتى الوقت المسئول عنها لم تؤتِ ثمارها التطبيقية، وليس الفقه هو المسئول.
السبب الثالث : أن الأطباء المسلمين في البلاد العربية ليسوا هم قائدي المسيرة العلمية في المجال الطبي أصلا في هذا الزمان، بل العبقري منهم هو من يتابع أبحاث الأجانب المنشورة في الدوائر العلمية، ومن يُتابع الكشوف العلمية في هذا المجال!
فحتى لو تطابق فقهاء العالم جميعا على التحريم- وهو ما لم يحدث- فإن فتواهم لن توقف المسيرة العلمية.
وبالرغم من ذلك لم تنقطع هذه الدعوى : الفقهاء هم سبب تأخر المسلمين !
لنكن عمليين
وحتى ننتقل من الكلام النظري والسوفسطائية ، علينا أن نتحدث عن الجانب العملي، وهنا نسأل أصحاب هذه الدعوى، سواء أكانوا خصوما أو أصدقاء:
هل تأخر المسلمون في توفير حاجاتهم من الإنتاج، وأصبحوا عالة على غيرهم بسبب الخطاب الديني؟
فمن القائل إذن : ” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها “.[1]
رسول الله ﷺ أم كارل ماركس؟
وهل يعني هذا القول إلا أن الإنتاج مقدم على الاستهلاك حتى لو لم يكن هناك من يستهلكه؟ أليس هذا إعلاء من قيمة الإنتاج؟
وهل تخلُّفُ الدولِ الإسلامية عن ركب الحضارة في صناعة وامتلاك سلاح تحمي به مقدراتها ومقدساتها وتدافع به عن أراضيها، هل هذا راجع إلى فتوى أو حكم فقهي بتحريم صناعة الأسلحة؟
وهل ربط الدول الإسلامي اقتصادها وعملاتها باقتصاد الدول الغربية والدولار، راجع إلى فتوى وحكم فقهي يحرم عليهم الاستقلال الاقتصادي؟
الإمام الغزالي وفروض الكفاية
وأين نقرأ النص الآتي في بيان فروض الكفاية ؟ في كتب الفقهاء أم في كتب العلمانيين؟
“وأما علوم الدنيا، فأعدل ما قيل فيه ما قاله الإمام الغزالي ما قاله الإمام الغزالي، وهو أن فرض الكافية منها: كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد (يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة) وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين (أقول: وقد يحتاج البلد أكثر من واحد، فالمهم أن يوجد العدد الذي يكفي ويسد الحاجة المطلوبة).
قال : “ولا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجَّام (الذي يقوم بجراحة الحجامة، وهو نوع من الجراحة الخفيفة) تسارع الهلاك إليهم، وحَرِجُوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله.”[2]
فصحيح أن الفقهاء لم يتوصلوا إلى حكم وكيفية الصلاة على سطح القمر، لكن ليس هذا هو الذي يمنع علماء الفضاء المسلمين من صعود القمر حتى الآن!
صحيح أن الفقهاء لم يتوصلوا إلى القالب العصري الذي يمثل الخلافة الإسلامية، لكن ليس هذا هو الذي يمنع زعماء العالم الإسلامي من الريادة السياسية !
ومع هذا فنحن لا ننكر أنه باسم الفقه خرجت فتاوى في إندونيسيا بتحريم التطعيم بلقاح علاج الحصبة ؛ لوجود مادة مشتقة من الخنزير فيها، الأمر الذي زاد من معدل الحصبة في أكبر بلد إسلامي من حيث السكان.
وتأخر المسلمون في استخدام المطابع ردحا من الزمان نظرا لحرمة اللفظ العربي أن يمتهن بأدوات الطباعة.
لكن هذه النوادر والاستثناءات ليست هي الأصل في الخطاب الفقهي العام للأمة، وما من أصل إلا وله استثناءات لا تغض من قيمته، ولا تهدم أساسه المتين.
على أنه يجب أن نسجل هنا أن فتوى تحريم التطعيم باللقاح المشتمل على أجزاء من الخنزير، يُدين علماء الطب الوقائي المسلمين أكثر مما يدين الفقهاء، ذلك أنه كان على علماء الطب الوقائي أن يعملوا على إنتاج لقاح خال من مشتقات الخنزير، فهذا واجب المسلمين عليهم.
كما أن من واجب المسلمين على الأطباء أن يعملوا على إنتاج مطهرات للجروح بدلا من الكحول، لكنهم لم يفعلوا حتى الآن مما اضطر الفقهاء إلى قبول هذه الأدوية المحرمة لكونها من الضرورات التي لا بديل عنها إلى الآن !
[1] السلسلة الصحيحة، الألباني (1/ 38)
[2] – كتاب نحو فقه ميسر معاصر، القرضاوي. وإحياء علوم الدين، الغزالي. إحياء علوم الدين (1/ 16) دار المعرفة، بيروت.