كثر الحديث في كتب الفقه عما يسمى بـ ” الفقه الافتراضي”، وجاءت غالب نصوص الفقهاء في ذمه، والحث عن البعد عنه، لكن مع تطور الحياة وظهور ما يعرف بالدراسات المستقبلية؛ كان من الواجب إعادة النظر في هذا النوع من الاجتهاد، والتفريق بين ما يعرف بـ ” الفقه الافتراضي”، و” فقه التوقع” القائم على دراسة المستقبل بناء على معطيات تؤدي إلى نتائج، تساهم في إنضاج الفقه في عصرنا وتساعده في القيام بدوره الحضاري في شؤون الحياة، باعتباره مرجع المسلمين في شؤونهم.
وقد حفلت نصوص القرآن والسنة بالحديث عن المستقبل، ومن ذلك: انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم منهم، كما في قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 – 4]، وقد كان انتصار الروم على الفرس بعد سبع سنوات من نزول الآية.
ومن المستقبل حديث القرآن عن انتصار المسلمين على المشركين في غزوة بدر، كما في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، ومنه الإخبار عن موت أبي لهب على الكفر، وتحدي القرآن له، لكنه لم يستطع تغيير تلك الحقيقة المستقبلية، رغم أنه عاش بعد نزول السورة عشر سنوات، كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } [المسد: 1 – 3].
وكذلك حفلت السنة بذكر وقائع كثيرة في المستقبل، من ذلك إخبار النبي ﷺبوفاة ابنته فاطمة بعده، وأنها أول أهله موتا بعده، كما ورد في الصحيحين، ومنه إخبار النبي ﷺبتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية وهو ما يعرف فيما بعد بـ” عام الجماعة”، وذلك كما ورد في البخاري من قوله ﷺ:” إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. ومن الإخبار بالمستقبل في السنة حديث عدي بن حاتم الطائي- كما في صحيح البخاري- من سفر المرأة من الحيرة إلى مكة للحج لا تخاف إلا الله، وهزيمة المسلمين لكسرى بن هرمز، ومنه أن يفيض المال حتى إن الرجل ليخرج بالذهب فلا يجد من يأخذه منه.
كما حفلت نصوص الكتاب والسنة بالحديث عن وقائع قبل يوم القيامة، فيما يعرف بأشراط الساعة الصغرى والكبرى، كما يدخل في الحديث عن المستقبل ما كان النبي ﷺ يقوم به من تخطيط مستقبلي في كثير من الأحداث كالهجرة ونحوها.
ورغم بروز الرؤية المستقبلية في الكتاب والسنة، واعتباره أحد المؤشرات الهامة في الإسلام من خلال المصدرين الرئيسين، إلا أن العناية بالمستقبل لم تنل حظا كبيرا في حياة المسلمين عامة، وفي حقل العلوم الشرعية خاصة، وفي الفقه والاجتهاد الفقهي على وجه الخصوص، بل وجدنا من نصوص الفقهاء وأقوال العلماء ما فهم منه عدم التفكير في المستقبل، ومن مظاهر ذلك تلك الحملة الكبرى على ما عرف بـ( الفقه الافتراضي)، مع أن هناك بونا شاسعا بين العناية بالدراسات المستقبلية وأثرها في الاجتهاد الفقهي خاصة في القضايا الكبرى للأمة، وبين الفقه الافتراضي، على أنه عند التحقيق لم يخل مذهب واحد من المذاهب الفقهية من العناية بـ( الفقه الافتراضي)، فكل المذاهب الفقهية اعتنت بالفقه الافتراضي وإن كانت بنسب متفاوتة، على أنه يجب التنبيه أن هناك نوعا ذا صلة بالفقه الافتراضي هو أقرب إلى ( الفقه المستقبلي)، وهو (فقه التوقع)، وهو ما يدعو إلى تصحيح النظر إلى الاهتمام بالدراسات المستقبلية في حقول الفكر الإسلامي عامة وفي الاجتهاد الفقهي خاصة.
أصول الفقه المستقبلي:
من الغرائب كثرة أصول الفقه المستقبلي، فهو حاضر من جهة التأصيل، لكنه غائب من جهة التنزيل.
وأول ما يلفت الانتباه هو أن الاجتهاد وهو القاعدة الكبرى في الفقه الإسلامي، وهو ميزان الفقه الأصيل يحمل دلالات المستقبل، فتكوين الفقيه المجتهد وتحصيله العلوم الشرعية من أجل أن يكون أهلا لما يعرض عليه مستقبلا من وقائع؛ فيجتهد فيها، ويستخرج ما يظن أنه حكم الله فيها، فالنوازل والوقائع والمستجدات غير معلومة الحكم، والحكم فيها غيب مستقبلي لم يظهر، فيجتهد الفقيه لاستظهار الحكم الغائب، وينقله من عالم الغيب المستقبلي إلى عالم الحاضر.
بل إن النبي ﷺ كان يضع للصحابة منهج الاجتهاد المستقبلي، كما في حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه- عند أحمد وأصحاب السنن، لما بعثه إلى اليمن، فقال له: “بم تحكم يا معاذ؟ ” قال: بكتاب الله، قال: “فإن لم تجد؟ “، قال: بسنة رسول الله، قال: “فإن لم تجد؟ “، قال: أجتهد رأيي، فقال عليه الصلاة والسلام: “الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه رسول الله. كما أن الاجتهاد يحمل في طياته حيوية هذا الدين الذي يجعل من الواجب على علماء الأمة أن يجيبوا عن كل أسئلة الناس في كل العصور والدهور، لتتحقق ديمومة هذا الدين وذلك الكتاب، في كل عصر ومصر.
مقاصد الشريعة:
يعد أصل مقاصد الشريعة من أصول الفقه المستقبلي، ويعبر الأستاذ عمر عبيد حسنة عن ذلك المعنى بقوله في كتابه: (من فقه الحالة، 38): “إن فقه المقاصد، والاجتهاد في اختيار الأحكام الملائمة للواقع، المحققة للمقاصد، المبصرة للعواقب والمآلات، يعتبر من أرقى أنواع استشراف المستقبل والتخطيط له – أو علم المستقبليات، بالمصطلحات الحديثة- أو من فقه المستقبل”.
ومن وجوه الارتباط بين المستقبل ومقاصد الشريعة ما تحمله معنى المقاصد من الغايات التي شرعت الأحكام من أجلها، وهي الأهداف التشريعية، وبيان الأهداف هي الدرجة الأولى من سلم الوصول إلى المستقبل.
ومقاصد الشريعة أحد وسائل التجدد في الدين، وهي تكفل للشريعة حيويتها وصلاحيتها، بما تبين من حكم الشرائع؛ مما يجعل الدين صالحا لكل الأزمان والأمكنة، وأنه لا يتوقف عند شعب دون شعب، أو جيل دون جيل، أو زمن دون زمن، بل يحتوي الشعوب والأجيال والأزمنة.
كما لا يخفى على حاذق دور تطبيق مقاصد الشريعة في صناعة الحضارة وبناء الأمم، وأنها ترشد إلى الفلسفات العظمى الحاكمة لبناء الدول والحضارات، وتحقيق التنمية والنهضة، والخروج من حالة الاستهلاك إلى العطاء والإنتاج، وتحقيق التنمية في مجالاتها المتعددة من التعليم والصحة والبيئة وغيرها، وكلها مشاريع مستقبلية، ودور الفقيه في تلك النهضة بارز، فإن صناع النهضة يفكرون في الإستراتيجية والبناء، والفقيه داعم لهم من جهة التوجيه والدعم، وإيجاد الحلول الشرعية التي تحقق تلك النهضة، وتبني تلك الحضارة.
أصل القياس:
القياس هو: مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم ، وقيل : حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع حكم أو صفة أو نفيهما. (إرشاد الفحول للشوكاني ص 198ط مصطفى الحلبي)
والقياس هو أحد أدوات الفقه المستقبلي، ذلك أنه يقوم على الاستفادة من النصوص الموجودة التي حملت أحكاما لوقائع حاصلة، إلى إيقاع تلك الأحكام الحاصلة إلى أحكام متوقعة، كما أنه أصل ولاد لملايين من الأحكام عبر العصور والدهور، فينفع به الفقهاء من صدر الإسلام إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، وهو بهذا يحمل في طياته الفقه المستقبلي، بل هو أحد ركائزه وأركانه الكبرى.
فالقياس يساعد على توليد الرؤية المستقبلية للأحداث والأحكام، كما أنه يكون حاسما لحل المشكلات وإيجاد الحلول لها، ومن توظيف القياس في ذلك اختيار الصحابة أبا بكر الصديق خليفة لرسول الله ﷺ، حيث قاسوا الإمامة الكبرى وهو الحكم، على الإمامة الصغرى وهي الصلاة، وقالوا: “رضيه رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟.
ولما كانت الحوادث التي تحصل للناس على مر العصور والدهور لا يمكن عدها؛ كان القياس أحد أهم أدوات الاجتهاد التي لا يستغنى عنها؛ فهو ركيزة من ركائز الفقه المستقبلي، وقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله في ( الموافقات، 5/38): “الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره”.
أصل المصالح المرسلة:
المصالح المرسلة هي: ما لا يشهد لها أصل بالاعتبار ولا بالإلغاء ، لا بالنص ولا بالإجماع ، ولا يترتب الحكم على وفقه (مختصر ابن الحاجب 2 / 289 ط الكلية الأزهرية 1293 هـ)
والمصالح المرسلة هي إحدى أدوات الفقه المستقبلي، ذلك أن الفقهاء قسموا المصالح إلى ثلاثة أنواع: مصالح معتبرة، وهي التي نص الشارع على مشروعيتها ككل الواجبات والمستحبات سواء تعلقت بأمر الدين أو الدنيا، ومصالح ملغاة، وهي التي لم يعتبرها الشارع، وإن كانت فيها مصالح للبعض، لكنها غلبت مفسدتها على مصلحتها؛ مثالها كل المحرمات.
وهناك مصالح سكت الشارع عنها، ولم يصرح بمشروعيتها، وإنما تركت لاجتهاد العلماء، والسكوت عنها، وتركها للاجتهاد، يجعلها أكثر التصاقا بالمستقبل؛ ذلك أن مجالها سيكون الوقائع المستقبلية التي لم تتناولها النصوص، بل إن الفقهاء – ومنهم الإمام الشاطبي- جعل المصالح أحد المعايير الشرعية الحاكمة للظواهر الدينية والدنيوية، كما قال في مقدمة كتاب المقاصد من الموافقات (2/9): ” وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا”. وهذا يعني لفت القرآن انتباه الأمم إلى أن بناء المستقبل يجب أن يكون وفق نظرية المصالح التي ينتفع بها الناس في الدنيا ويكون لهم الثواب الجزيل في الآخرة، وأنه يحرم بناء المستقبل على قيم لا أخلاقية تضر بالبشرية والمجتمعات، وبهذا يقدم الإسلام رؤية في بناء المستقبل على قيم المصلحة في بناء الأوطان والإنسان، ويساير ذلك اجتهاد الفقيه فيما يلاقيه في المستقبل من وقائع؛ فيكون اجتهاده وفقا لتحقيق تلك المصالح كلية كانت أو جزئية، عامة كانت أو خاصة، فهي مصلحة تشمل الدنيا والآخرة، وتوازن بين الروح والمادة، والفرد والمجتمع، وتراعي حقوق الجيل الحاضر، كما لا تغفل مصالح الأجيال المستقبلة.
ومن أمثل المصالح المرسلة جمع القرآن، مع عدم وجود نص يأمر به، إلا أن النظر المستقبلي عند عمر – رضي الله عنه- خشية ضياع القرآن بعد استشهاد سبعين من الحفاظ، حدا به أن يشير على أبي الصديق – رضي الله عنه- بذلك، والقول بقتل الجماعة بالواحد، فإن فيه نظرا مستقبليا، وهو أن الاكتفاء بقتل الواحد بالواحد؛ فيه ضياع لحق القتيل من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه أدعى إلى التحايل بقتل الجماعة للواحد، مما يساهم في زهق الأرواح بالباطل وقتل المسلمين بغير حق، وكذلك ضمان الرهن؛ رعاية لحفظ الحق مستقبلا، وغير ذلك من الأمثلة.
أصل اعتبار المآل:
اعتبار المآل من أصول الفقه المستقبلي، وذلك أن حقيقته ألا يقف الفقيه عند الحكم الأصلي للمسألة، بل عليه أن يبذل مزيد جهد حتى يعرف ما يترتب على هذا الحكم من نتائج، ثم يقيس ذلك على مقاصد الشريعة؛ فإن وافقت مقاصد الشارع؛ أجراه، وإلا اجتهد له في إيجاد حكم آخر، يوافق تلك المقاصد المقطوع بها، أو القريبة من القطع. واعتبار المآل بذلك لصيق الصلة بالمستقبل، فهو يراعي المستقبل في الاجتهاد؛ لأنه ينظر إلى النتائج المستقبلية للحكم، ولو خالفت الحكم الأصلي.
ويبين الشاطبي ذلك المعنى في ( الموافقات:5/177) بقوله: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة“.
ويعد أصل اعتبار المآل جامعا لعدد من الأصول الأخرى في طياتها، وهي كلها أصول للفقه المستقبلي، فمراعاة المآل مرعي في أصل ( سد الذرائع)، ومرعي في (فتح الذرائع)، ومرعي في ( الحيل)، ومرعي في ( الاستحسان)، فهو أصل جامع لعدة أصول للفقه المستقبلي. وذهب الشاطبي إلى أن الاجتهاد المآلي مبني على خمس قواعد، هي: قاعدة الذرائع، وقاعدة الحيل، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة الاستحسان، وقاعدة أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج. ( راجع الموافقات:5/182-199)
كما أن اعتبار المآل له ارتباط وثيق بالمقاصد من جهة أخرى، فهو إما وسيلة وشرط لمن راعى النظر المآلي، ومن جهة أخرى، فاعتبار المآل هو مراعاة للمقاصد المستقبلية، ومن جهة ثالثة، فالمآل أحد العناصر المكونة للمقاصد مع التعليل والمصلحة.
ومما يتبع اعتبار المآل من أصول الفقه المستقبلي:
سد الذرائع
سد الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور . ومعنى سد الذريعة : حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة. ( الموسوعة الفقهية الكويتية، 24/276)
ووجه العلاقة بين أصل سد الذرائع والفقه المستقبلي في أصل تعريفه، فهو منع ما ظاهره الإباحة لما يفضي إليه من الفساد والتحريم، وذلك أن سد الذرائع يقوم بالموازنة بين حكم واقع، وآخر متوقع مستقبلا؛ فيغلب المستقبل على الواقع الحاصل، فمنع بيع العنب لمن يتخذه خمرا، هو حكم مستقبلي لمنع ما أصله حلال، خشية استعماله مستقبلا في حرام، ومثله بيع السلاح في زمن الفتنة، رغم كون بيع السلاح حلال؛ لأنه يستخدم في المباح؛ لكنه مع وجود الفتنة ووجوب منعها مستقبلا؛ يفتى بالحرمة، وهكذا، فسد الذرائع وثيقة الصلة بالمستقبل؛ لأنها توقع للمفاسد المترتبة على القول بالإباحة.
ومثل سد الذرائع الحيل المشروعة، فهي أيضا قائمة على دراسة المستقبل لمنع المفاسد الخفية؛ كالتحيل لمنع ظلم الظالم للمظلوم، أو التحيل للوصول إلى حق ممنوع مقرب به ونحو ذلك.
الاستحسان:
يدور الاستحسان على عدة معان، هي: الأخذ بأقوى الدليلين عند التعارض، أو يقوم الاستحسان على الاستثناء والترخص من الحكم العام للمصلحة، أو مراعاة العرف أو التخفيف خاصة إن كان في الأخذ بالقياس غلو في الحكم (البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 98)
والاستحسان أحد أصول الفقه المستقبلي، وهو العدول عن حكم ظاهر إلى حكم آخر؛ لمصلحة أقوى. وتظهر العلاقة بين الاستحسان والمستقبل، أن الاستحسان قائم على رفع الحرج والمشقة في المستقبل عن المكلف، فيعدل عن الحكم الأصلي إلى حكم آخر؛ رفعا للحرج، وجلبا لمصلحة أقوى.
فبيع السلم غير جائز إذا نظرنا لقواعد البيع من أنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، لكن النبي ﷺ أجازه؛ رفعا للحرج، وتيسيرا للناس. ومثاله تضمين الأجير المشترك عند المالكية، وذلك خلاف الأصل، لكنه حماية لمفسدة ضياع أموال الناس وادعاء عدم التفريط فيها، وكذلك تطهير الآبار بنزح قدر منها؛ وذلك للضرورة، ورفعا للحرج عن الناس.
إن الفقه اليوم في أمس الحاجة إلى الدراسات المستقبلية التي تعد وسيلة من وسائل معرفة ما سيكون واقع، وهو اليوم متوقع، ومعرفة الواقع – وكذلك المتوقع- أحد أهم شروط الاجتهاد، وما تموج به الحياة اليوم من طفرات في العلم والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا وغيرها؛ يجعل فقه التوقع وإدراك المستقبل أحد شروط الاجتهاد الفقهي في النوازل التي تتعلق بها، وليس صحيحا أن الفقه هو ما يعيشه المسلمون اليوم، فإن الأحكام الشرعية تتعلق بالزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وفي هذا المقام يجب أن نفرق بين الافتراض والتوقع.
أهم المراجع:
القرآن الكريم
صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة: الأولى، 1422هـ
صحيح مسلم: تحقيق، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت
من فقه الحالة، د. عمر عبيد حسنة، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 2004م.
الموافقات، للإمام الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م
مختصر ابن الحاجب طبعة الكلية الأزهرية 1293 هـ
إرشاد الفحول للشوكاني مكتبة مصطفى الحلبي
البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي ، دار الكتبي، الطبعة: الأولى، 1414هـ – 1994م
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.