يتعلق موضوع أقل مدة الحمل عند المرأة بين النص والواقع حماية للطفل هنا بالمدة الزمانية المشروعة والمعقولة التي يتحدد بها النسب الشرعي بوجود عقد الزواج والدخول الفعلي المؤدي إلى الحمل ومن ثم الولادة.
هذه المدة يعبر عنها بأقل مدة الحمل -أي المدة الأقرب لما قبل الزواج – بحيث أنها تكون الفاصل بين الحمل الشرعي وغير الشرعي على سبيل الانتقاص لا الزيادة، معناه: أن المدة إذا انقضت عن حدها ولو بزمن يسير فإنها تلغي الشرعية بالنسبة للحمل المنتظر، اللهم إلا إذا اعتبرت ملابسات أخرى يدرأ بها الحد وتعتبر شرعا مع إلغاء نسبة الحمل إلى صاحب الفراش، أي دون اتهام المرأة بالزنا ودون نسبة الولد إليه حين الحمل.
أقل مدة حمل المرأة في المذاهب الأربعة
حول أقل مدة الحمل يقول ابن رشد: “واتفقوا –أي الفقهاء- على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة شهر إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى أقصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها”[1].
فهذا الاتفاق بنوه على ثوابت تجمع بين النص والواقع-أي الوجود- وهو ما أورده جل الفقهاء في كتبهم كما يقول ابن قدامة: “وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر، فهمَّ عمر برجمها، فقال له علي: ليس لك ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [البقرة: 233] وقال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15]، فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا، لا رجم عليها، فخلى عمر سبيلها، وولدت مرة أخرى لذلك الحد.
ورواه الأثرم أيضا عن عكرمة أن ابن عباس قال ذلك، قال عاصم الأحول: فقلت لعكرمة: إنا بلغنا أن عليا قال هذا، فقال عكرمة: ما قال هذا إلا ابن عباس، وذكر قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم[2].
مدة الحمل علميًا
فهذا القطع بأقل مدة الحمل لم يكن قد استنبط قبل هذه الحادثة كما يبدو، رغم أن النص الدال عليه موجود وواضح إلا أنه لم يتبين إلا من خلال الواقعة -أي الوجود-وهذا يعني أن النص والوجود يسيران جنبا إلى جنب في كشف أحدهما للآخر على سبيل العلم وضبط الأحكام، فالنص يكشف الوجود ويدل على الاستفادة منه والتعامل معه، والوجود يبين النص فيفهم معناه وتتضح أسراره، إذ إن واقع نمو الإنسان يتفق من حيث تكوينه الأولي ارتباطا بالفطرة الأولية التي تتحدد فيها الكائنات كما سبق وبينا، ومن ثم فلا يكون نمو الخلايا إلا بحساب وتقدير لا يقل عن فترته المؤهلة له لكي يكتمل تكوينه.
وبهذا انضبطت المدة وأصبحت قانونا عاما لا يمكن اختراقه، بحيث أن نمو الجنين لا يتم إلا عند ستة أشهر، وعندئذ يكون قد اكتملت خلقته في عناصرها الأساسية المحددة لجنس المولود ونوعه.
من هنا فقد يكون منهيا عنه أن تجرى فحوصات بالأشعة السينية للأم في حالة الحمل قبل الستة أشهر الأولى، إذ إن هذه الأشعة قد تؤثر على وثيرة نمو الجنين، وربما أدت إلى تشوهات خلقية، أو إلى إجهاض واختلالات مرضية تعوق النمو السليم الجنين!
هذا التحديد بالستة أشهر ستنبني عليه أحكام ثابتة لا تقبل التغير أو التحول، كما أنها ستحكم في استثناءات قد تقع عند الحمل وهي في حالة وجود توأم وتأخر أحد التوأمين عن الولادة بمدة معينة ولكن خارج إطار الحياة الزوجية -أي بعد الطلاق أو الوفاة- بحيث ستصبح أقل مدة الحمل محكمة في هذه الحالة ومحددة للشرعية وعدمها، كما يقول ابن قدامة: “وإن طلق امرأته وهي حامل فوضعت ولدا، ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر، فهو من الزوج، لأننا نعلم أنهما حمل واحد، فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه، وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان، لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل “[3].
مدة الحمل وحماية الطفل
بهذا أصبحت مدة الحمل قارة ومحكمة في تحديد الشرعية كما أن هذه المدة سيكون لها أثر على واقع الرضاع عند الطفل ووجه العناية به، لأنه يصطلح عليه بالخديج، وتكون بنيته هشة وضعيفة، فتتأثر بالبرودة والرطوبة والحرارة وما إلى ذلك، ومن ثم تتطلب حالته عناية مركزة كما هو العمل في المستشفيات التي تخصص محاضن مكيفة ومهيأة بكل الوسائل اللازمة لحماية صحة الطفل من التأثر بالنقص الحاصل له من خلال هذه الولادة الاستثنائية والتي جاءت قبل الحول.
فهذا ما أخذه فقهاؤنا وسلفنا الصالح في التعامل مع المسالة ولكن بصورة أكثر ملاءمة لصحة الطفل وسلامة نموه.
بحيث قد رتبوا على مدة الحمل مدة الرضاع فكان المد والجزر بين العمليتين إما بالزيادة أو النقصان مع التزام بالمدة القارة والثابتة المحددة لمدة الحمل والرضاع معا، ألا وهي ثلاثون شهرا، إذ كما يروى عن ابن عباس أنه قال: “إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة عشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين”[4].
وهذا يبين لنا مدى مسايرة الفقه الإسلامي للواقع أو الوجود، وكيف يرتب الأحكام بعضها على بعض تفريعا وسعيا إلى حماية النسب الذي يشمل حماية حقوق ثلاثة أطراف وهي: الأب والأم والطفل، وذلك من خلال مراعاة العادي والاستثنائي في الواقع مع ربط الأحكام بالحكمة ربطا قويا حتى تكون النتيجة السليمة التي يسعد بها الفرد والمجتمع.
تلازما مع هذا الركن الزماني فأقل مدة الحمل مرتبطة ارتباطا وثيقا بالظرف المكاني كوجه ثان وعنصر كوني محدد لشرعيته، إذ رغم احتساب المدة الزمنية التي رأيناها فإنها تبقى غير كافية إلا بملازمتها لظرف مكاني أو إجراء شرعي سابق عليه يمكن به تسمية المرأة فراشا و به يلحق الولد بأبيه.
هذا الظرف المكاني هو المعبر عنه بالدخول أو إمكان التلاقي، لكن هذا الأخير غير كاف في نفسه لأن يعطي النسب، كما أن الدخول هو أيضا غير كاف في هذا الإلحاق، فيكون العقد وحده الكفيل بضبط هذا النسب، ومن ثم فإن مسؤولية الزوج عن زوجته قد تبتدئ بمجرد العقد رغم أن الدخول لم يتم، وهذه المسؤولية ذات صور معنوية ومادية، أي أنها تأخذ شكل القوامة؛ ولكن على مستويات بحسب وضعية الزوجة والزوج ووجه التواصل بينهما قبل الدخول الحقيقي.
من هنا قد اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى ثلاثة مواقف كلها تتفق في الغاية والمآل، رغم ما يبدو من تعارض على مستوى التعبير والشكل لكنها بمجموعها يحتكم فيها إلى الوجود أو الواقع العادي والاستثنائي.
لقد لخص ابن رشد هذه المواقف فيما يلي: “فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتد من ذلك، وهي التسعة أشهر وما قاربها، ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر، أعني أن يولد المولود لتسعة أشهر من وقت الدخول أو إمكانه لا من وقت العقد.
وشذ أبو حنيفة فقال: من وقت العقد، وإن علم أن الدخول غير ممكن حتى إنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان، وهو في هذه المسألة ظاهري محض لأنه إنما اعتمد في ذلك على عموم قوله ﷺ: “الولد لفراش“.
وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة، وهذا شيء ضعيف…”[5].
يقول ابن قدامة: “ولو تزوج رجل امرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد أو تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يلحق نسبه لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل، ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد وإن علم أنه لم يحصل منه وطء[6].
أقل مدة الحمل بين الإمكان الذهني والواقعي
عند هذه المسألة نقف للتوفيق بين المذاهب السابق ذكرها، إذ أن أبا حنيفة كان ينحو إلى جانب العقلانية المتطورة والمتنورة بفتواه تلك عكس ما وصفه به ابن رشد، رغم ما يبدو من غرابة في الموقف وعدم واقعيته لأول وهلة وبسطحية، لكن عند التأمل نجده يحمل بعدًا ورؤية مستقبلية للوجود -أي الواقع والمتوقع معا- إضافة إلى مستنده العقدي في المسألة وخاصة فقرة “تزوج مشرقي بمغربية”.
إذ في ذلك الزمان كانت وسائل النقل محدودة وبطيئة جدا، ومن ثم فكان التصور العادي هو أن الإنسان لا يستطيع أن يقطع هذه المسافة إلا في فترة طويلة، ربما قد تتجاوز السنة، لكنه بجانب هذا كانت توجد اعتقادات عند أهل العصر بمبدأ الكرامة كشيء عادي ومسلم به لأولياء زمانهم والتي كانت تتصور بطي المسافات كما عبر عنه نموذجا، أو بمبدأ وجود شخص في مكانين وفي زمان واحد، بدون إسقاط مبدأ ارتفاع النقيض في المسألة، وخاصة حينما يتكامل الروحي مع الجسدي والمعنوي مع المادي في تحديد الوجود الممكن.
مذهب أبي حنيفة في أقل مدة الحمل
بهذا أخذ فيما يبدو أبو حنيفة النعمان مع حدة فكره واشتهار مذهبه بالرأي واستعمال القياس والعقل، ومن ثم فلم يكن ظاهريا محضا؛ بل على العكس من ذلك تماما كان باطنيا خالصا؛ وإلى أقصى مستوى، ولكنها باطنية موضوعية وعلمية، سيؤكد صحتها فيما بعد الواقع المعاصر الذي نحياه والذي أفرز وسائل نقل وتواصل تحقق الإمكان الواقعي لهذا التلاقي بين الزوجين على أرض الواقع ومع بعد الشقة بينهما كما عبر الفقهاء.
فكان أبو حنيفة حينئذ يرتكز على الإمكان الذهني الذي أمده به النص وإمكانه الواقعي كما هو في قصة سيدنا سليمان وعرش بلقيس وقول آصف بن برخيا فيما يحكيه الله تعالى عنه: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: 39].
توجيه مذهب جمهور الفقهاء في أقل مدة الحمل
أما الإمكان الواقعي فهو الذي سيسلكه المالكية والشافعية والحنابلة، وهو المعبر عنه بإمكان التلاقي كما يقول عنه ابن قدامة “لأن الإمكان إذا وجد لما علم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم، ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطء، فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح، ولم يجز حذف الإمكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه”[7].
هذا الإمكان يعني تقارب الزوجين بعد العقد على المستوى العادي والذي تغلب فيه مظنة اتصالهما وبالتالي إمكانية الدخول الحقيقي الذي يعني المسيس، كما يقول ابن عبد البر النمري المالكي: “إذا عقد الرجل نكاح امرأة وأمكنه وطؤها بوجه من الوجوه ثم أتت بولد لستة أشهر من يوم العقد إلى أقصى ما تلده النساء وذلك خمس سنين عند مالك وطائفة من أهل العلم بالمدينة، ومنهم من يقول أربع سنين …”[8].
فهذا النموذج يؤكد لنا مظاهر الواقعية في المذهب المالكي والاتجاه الوسط فيه، سواء تعلق الأمر بموضوع الحمل الشرعي أو بموضوع الرضاع والحضانة والنفقة، وخاصة عند هذه الأخيرة التي لها ارتباط بموضوع العقد ومسألة المسيس كما يعبر عنها الإمام مالك وغيره من الفقهاء.
إذ المالكية يبنون هذه الأحكام على قاعدة شرعية نبوية إجرائية فيما يتعلق بخصوصية زواج النبي ﷺ بالسيدة عائشة رضي الله عنها كما سبق، وأوردنا الحديث فيه عند معالجتنا لمسألة سن الحيض والوجود، بحيث على هذا النص بنى المالكية حكمهم في نفقة الزوجة وأنها تجب بالدخول أو الدعوة إليه، كما أن إمكان التلاقي يطرح عند وجود عقد الزواج مع تأجيل الدخول إلى فترة معينة حيث يتهيأ الزوجان ويستعدان لإقامة حفل الزفاف أو تأثيث المنزل وما إلى ذلك.
غير أن الأمر يختلف بين واقع زواج النبي ﷺ وواقع الزواج في بعض المجتمعات الإسلامية بحسب العرف والعادة والسلوك والمعاملات، إذ قد يوجد من لا يعقد إلا يوم الزفاف؛ وهذا هو الملاحظ في بلدان مثل مصر وغيرها، بينما في بلدان أخرى قد يعقد الزوج على زوجته و لا يتم الدخول إلا بعد فترة قد تزيد أو تنقص عن أقل مدة الحمل الشرعي والتي هي ستة أشهر، ومع ذلك يكون اتصال فعلي بين الزوج والزوجة تحت مبرر الزوجية أولا، ومن دافع الاستعداد للتجهيز وفهم طبائع بعضهما البعض وما إلى ذلك.
في هذه الحالة قد يضعف مدلول مصطلح إمكان الاتصال ويتحول إلى معنى أخص وهو إمكانية المسيس بلفظه الصريح طالما أن الزوج قد يختلي بالزوجة سواء في منزل أبيها أو في منزله.
وهذا ما يخالف فيه واقع الزواج عند النبيﷺ بالسيدة عائشة رضي الله عنها لأنه لم يثبت أن اختلى بها قط في بيت أبيها أو في بيته إلا يوم أن زفت إليه؛ حتى قد اعتبرته مفاجأة بالنسبة إليها، لأنها كانت ما زالت صغيرة ولا تدرك بوضوح تام ومفصل ما يدركه الكبار من مقتضيات الزفاف وأحكام الدخول كما تعبر السيدة عائشة رضي الله عنها نفسها، قالت: “تزوجني النبي ﷺ فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فلم يرعني إلا رسول الله ﷺ ضحى “[9].