خلال القرن الثامن الهجري كان مسلمو الأندلس يلتقطون أنفاسهم قبل أن تُجهز عليهم سيوف الممالك النصرانية التي زحفت بضراوة لاسترجاع شبه الجزيرة الإيبيرية من قبضة الحكم الإسلامي. ومثّلت غرناطة آنذاك أهم محطة يهاجر إليها الأندلسيون فرارا بدينهم من الفتن. لذا كان من الطبيعي أن تستقطب من بقي من العلماء وأهل الخبرة، ويتشكل مناخ ثقافي مزدهر نسبيا مقارنة بالحواضر الأخرى.
داخل هذا الفضاء المتسم بالتفكك السياسي من جهة، وبحركة علمية تقاوم داء الانحطاط المتغلغل في كيان الأندلس، برز اسم الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي كأحد رموز الثقافة الإسلامية، من خلال تصديه للبدع والضلالات التي انتشرت في البلاد كمحصلة لثقافة الهزيمة، وما يتولد من آفات اجتماعية وانحرافات، بفعل التمازج بين مكونات بشرية يُوحّدها الدين، وتفرقها العادات والقيم والأعراف الخاصة.
نشأ أبو إسحاق الشاطبي في غرناطة، وبها استهل مساره العلمي الذي امتاز بتعمق في علوم الشريعة والعربية. وتدل شهادات عدد من شيوخه ومعاصريه بأنه صاحب قدم راسخة في علوم عصره، وبذلك تنطق مؤلفاته ذائعة الصيت ككتاب “الاعتصام” و”الموافقات” وغيرها. لكن ينضاف إلى ماسبق حرصه على التوفيق بين الجهد النظري و الممارسة العملية، حيث كان صاحب فكر وموقف، وفقيها متحركا في الميدان؛ مع ما يعنيه ذلك من تعرض للمحن والابتلاءات، واقتراب مؤلم في غالب الأحيان من حقيقة تجسد المقولات الشرعية على أرض الواقع.
في مقدمة كتابه ” الاعتصام”(1)، وقبل أن يحرر الكلام حول البدعة، ويسبر مسائلها بمعيار الأصول الشرعية، قدم الشاطبي رصدا اجتماعيا لما تُحدثه البدعة من خلل في البناء القيمي، وعلى مستوى حركة الإنسان داخل المجتمع. وبين ثنايا العبارات التي مهّد بها لمشروعه الفكري في تفكيك البدع، تنكشف حماسة فقيه للعودة بالمجتمع إلى المنهج السني، مع ما يثيره ذلك في النفس من غُربة أمام السقف الهائل للانحراف المجتمعي. هذا الإحساس الذي اشتد بعد توليه للتدريس ثم الإمامة والخطابة، واحتكاكه بفئات المجتمع الأكثر إقبالا على البدع باسم الشريعة.
يُثني السيد محمد رشيد رضا على كتاب (الاعتصام) بالقول:” لولا أن هذا الكتاب ألِّف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة،وإصلاح شؤون الأخلاق والمجتمع، ولكان المُصنِّف لهذا الكتاب- وبصنوه كتاب “الموافقات” الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضا- من أعظم المجددين في الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة كما كان يجب بعلمه”.
يستهل الشاطبي مقدمة كتابه بتقريب معنى حديث “بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ، فطوبى للغرباء..”. وهو الحديث الذي يتوسع في دلالته التاريخية بالعودة إلى حال العرب قبل الإسلامن وما اتسمت به الجاهلية من تضييع للحقوق، واتباع للآراء المنحرفة والمذاهب المخترعة. ثم يتناول ردود أفعالهم عند بعثة النبي ﷺ، من حيث الإعراض والتصدي للدعوة، وتلفيق أنواع البهتان، مع عجزهم عن الرد بدليل على صحة معتقدهم غير دعوى تقليد الآباء.
ومع تواتر الوحي اتضحت الحدود بين الحق الذي جاء به الإسلام، والبدع التي نشأ عليها أهل الشرك والوثنية، فاستقام نهج الشريعة مدة حياة النبي صلى الله عليه وقرن الصحابة.
ثم استعادت البدعة حضورها مجددا من خلال دعوة الخوارج والقدرية، وانقسام الأمة إلى فرق، كما أخبر بذلك النبي ﷺ في الحديث المشهور. غير أن الإسلام كان حتى ذلك الحين ظاهرا ومقاوما، فضاقت حركة المبتدعة إلى أن ضعفت شوكة الدين في النفوس، فتكالبت على سواد السنة البدعُ والأهواء يقول الشاطبي.
بدأت غربة الإسلام إذن بانقلاب الأوضاع، حيث أصبحت السنة بدعة والبدعة سنة. وطمع أهل البدع في جرّ من تبقى من أهل السنة لتجتمع كلمة الضلال، فلايزال هؤلاء في جهاد ونزاع، وثبات يضاعف الله لهم به الأجر والثواب.
خلاصة الأمر إذن أن الغربة، برأي الشاطبي، تبدأ حين يطالب المخالف الناس بالموافقة لثقته بأن موازين القوى في صالحه. فيكون الثبات وما يستتبعه من محن وشدائد، تعبيرا عن صدق الانتساب لهذا الدين ونصرته.
يُمهّد الشاطبي بهذه الإطلالة على مسار البدعة عبر التاريخ الإسلامي، ليعرض غربته الخاصة، وما لقيه في مناوءة البدع من محن ومضايقات لم تشفع فيها مكانته العلمية. لقد وجد نفسه أمام خيارين: إما اتباع السنة مع ما في ذلك من مخالفة لما ألفه الناس، حتى عدّه أغلبهم سنة لا بدعة، وإما مخالفة السنة والسلف الصالح مسايرة للهوى والعوائد، فكان قراره أن ” الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا”.
وهنا وقفة للشاطبي، يلمح فيها حينا ويُصرّح حينا آخر بخطورة التساهل إزاء البدعة، وإيجاد مسوغات من الاجتهاد الفقهي لتدعيم حضورها، بعد أن صارت راسخة في القلوب، متداولة في الأعمال. وفي قائمة المحن التي تعرّض لها يلقي باللوم على بعض أهل العلم الذين تُزيّن فتاويهم هذا المسلك فيقول: ” وتارة أحمَلُ على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه، ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه”.
هذا الفريق من أهل السنة يتجدد حضوره على مر العصور ليُشوّش بمواقفه على طرف من معنى الولاء والبراء قيّده العلماء بقيود شرعية دقيقة، بحيث لا يكتمل الإيمان إلا بالبراءة الصريحة من مذاهب أهل الباطل. يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي:” ولنا أن نتعجب من كثير ممن ينتمون إلى أهل السنة في هذه العصور، وهم يوالون المبتدعة بل الكفار، ومراتب موالاتهم لهم تتفاوت ما بين السكوت عليهم وعدم الإنكار، أو الوقوف معهم في وجه مخالفيهم من أهل الحق، إظهارا للتسامح أو لسعة قلوبهم- وهذا كله باطل لا يجوز- إلى أن يصلوا إلى حد الانخداع بهم أو موافقتهم على بدعتهم”.(2)
بدل النقاش العلمي الذي لا يُقبل فيه قول إلا بدليل، واجه الشاطبي خصومات وافتراءات تراوحت بين تحريض العامة وتأليب ذوي السلطة عليه بزعم الخروج على طاعة ولي الأمر.
فبسبب عدم التزامه بالدعاء الجماعي عقب الصلاة، نسبوا إليه القول بأن الدعاء لا فائدة فيه.
ولأنه لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة، نسبوه إلى الرافضة ومبغضي الصحابة.
ولقوله بأن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة، زعموا أنه يفتي بجواز الخروج على الإمام.
ولتصديه لبعض المنتسبين للتصوف ممن يخالفون السنة، فقد اتهمومه بمعاداة أولياء الله.
في مثل هذه البيئة المريضة، ورغم أن المحن اشتدت عليه حتى قال في وصفها: ” قامت علي القيامة، وتواترت علي الملامة، وفوّق إليّ العتاب سهامه،ونُسبت إلى البدعة والضلالة،وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة”؛ إلا أن الشاطبي واصل دعوته الإصلاحية في تتبع البدع والتحذير منها، وأثمر جهده كتابَ (الاعتصام) الذي يعد فريدا في هذا الباب، وكل من جاء بعده إنما هو عالة عليه ويستقي منه كما قال الشيخ الألباني رحمه الله.
تجد البدعة اليوم منفذا لها من داخل خطاب الحرية والتعددية، وفصل الدين عما يعتبرونه سلطة فقهية تقيده. لذا يقف المسلم المعاصر أمام فسيفساء غريبة من المقولات التي تستهدف بزعمها تحرير العلاقة بين الإنسان وخالقه، ليكون إيمانه حرية فردية لا تخضع لوصاية أحد، وتكون عباداته بحسب ما يشتهيه هو، وبما يتناسب مع حداثة المجتمع وانفتاحه على الآخر!
ومعلوم، كما نبه إلى ذلك أهل العلم أن البدع تحجب حقائق الدين وتشوه محاسنه، وتصادم العقل والحس السليم بما تُلحقه بالتدين من خرافات ومفاسد، فكان من الواجب، يقول الشيخ محمد الخضر حسين(3)، أن يحاربها أهل العلم بما استطاعوا، وأن تتضافر القوتان العلمية والتنفيذية على اقتلاع عروقها وطمس آثارها.