يمكننا هنا أن نقدم علاجا لمرض الإدمان على التسوق والاستهلاك الفائق بتوجيه النفوس والعقول إلى ضرورة التعلم والتمرّس في كيفية الإنتاج والإجتهاد الفكري والعملي في حقول العلم والمعرفة، وذلك بإنتاج الأفكار الإبداعية الخلاقة لحل المشكلات والأزمات والمكابدة لاكتساب العلوم وتعلم الصنائع وفنون العمران، يقول ابن خلدون “وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، تزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس، إذ قدّمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يُرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية، فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك، ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو، كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس، حتى إنّ البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك، وماذاك إلا لإجادته من ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية، مالا يعرفه البدوي” (1).
ومفتاح باب تعلم العلوم والصنائع والفنون هو القراءة، لأن القراءة تخرج الإنسان من دائرة الركود والجمود والتكديس إلى فعل الحركة واليقظة والإنتاج، والقراءة سياحة العقول بين عوالم الفكر والفنون والصنائع لكسب الخبرات والحِكم وكذا تعلم طرائق الإنتاج والإنجاز، والهدف من كل هذا هو أن تحل سوق المعرفة والصنائع محل سوق الأشياء والمنتجات المكدسة، ولهذا “لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه ( عالم الأشياء) محوا كاملا، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على( عالم الأفكار) كان الخراب ماحقا، أما إذا استطاع أن ينقذ( أفكاره) فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء).
لقد مرت ألمانيا بتلك الظروف ذاتها، كما تعرضت روسيا لبعضها، إبان الحرب العالمية الأخيرة، ولقد رأت الدولتان- وخاصة ألمانيا- الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيهما، حتى أتت على كل شيء تقريبا، ولكنهما سرعان ما أعادتا بناء كل شيء بفضل رصيدهما من الأفكار” (2) ، لأن الثروة الحقيقية هي ثروة الأفكار والعلوم، والذي يملك الأفكار الإبداعية أو يتقن صنعة من الصنائع فإنه هو الأقوى والأبقى والأثقل عقلا وعملا مِن الذي يسيطر على عالم الأشياء والأملاك، لأن الفكرة الحية والصالحة والفاعلة تغير منهج التفكير وتهذّب النفوس وتصلح الأوطان، فلا بد توجيه ثقافتنا إلى معرفة سبل بناء الإنسان وتوجيه قواه بأن يتعلم ويقرأ ( القراءة المتكاملة : التي تجمع بين العلم والعمل وبين العلم والأخلاق، وبين الفكرة والصنعة) يجب أن يكتسب إنسان اليوم صنعة أو حرفة خير له من أن يدمن على الإستهلاك بكل أنواعه، أو يدمن على استعمال مواقع التواصل الإجتماعي، لأن فكرة الإنتاج لا تكون من فراغ روحي ونفسي وإنما تكون من خلال التعلم والدربة “ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدية يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة وخامدة، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء- كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة إقرأ التي أدهشت النبي الأُمّي، وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي” (3).
فالقراءة تقودنا إلى فهم وتغيير رؤى العالم وإنارة الفكر لأنها قوة دافعة تنطلق من شرارة الروح والعقل، القراءة ميلاد التحضر والإنتاج والبناء، لعل السؤال الذي يجب طرحه هنا في سبيل حديثنا عن القراءة وتعلم العلوم هو ما علاقة النفس بالعلوم ؟ ليجيبنا أبي حامد الغزالي “بل العلوم كلها لو تؤملت لوجدت مستنبطة من النفوس، فإن المعلم الأول لم يكن متعلّما من معلم ،بل يرتقي ذلك إلى من عرف من نفسه” (4) ، لذا من أجل التفسح والتجوال في ميادين العلوم وتذوق رحيقها لابد من صفاء النفس ولصفائها لابد من تكاملها بالحكمة الإلهية وذلك باتصالها بالعالم العلوي والتخلص من كدورات المعاصي، “فإذا النفس الناطقة متى عرفت أبواب العبادة وتنبهت على شرف الحكمة فأعرضت عنها، إيثار اللذة العاجلة وانخداعا بالمسّرة الدائرة ،فقد صارت بذلك منتوفة الريش،مقصوصة الجناح” (5) ، ويقول أيضا “غير أن شحذ الهمة وتخليص النفس من أدران المادة لا يكفي للخلاص، بل لابد من العون الإلهي والرحمة الربانية كما هو الحال في مقامات الصوفية ،سل واهب العقل إضاءة العقل وابدأ بالأول في إيثار الأولى واعرف الأولى بإيثار الأول” (6) فكمال النفس يكون من خلال التواشج بين الحكمة والفضيلة و تنال السعادة العظمى بعد تحقيق التكامل بينهما، ونجد أبي حامد الغزالي أبان في ماهية النفس بقوله” اعلم أن النفوس مختلفة، فنفس مشرق صاف عن الكدورات يتلألأ فيه أنوار العلوم مؤيد من عند الله ،ثاقب الحدس ذكي الذهن ،لا يحتاج إلى الفكر والنظر، بل يفيض عليه من أنوار العلوم بواسطة الملأ الأعلى ما يشاء من المعقولات مع براهينها” (7) .
فالأرواح نعيمها بالعلوم والمكاشفات لذا فالنفس ذات كمال ونقص “فكمالها بالعقل والعلم، ونقصهابالجهل والشهوات وكما أن نقص القمر في الكسوف قد يكون سببه الـأرض وهو الأسفل من العالم ،كذلك نقص النفس إنما هو من ارتكاب الشهوات ومحلها أسفل سافلين وكما أشرقت الأرض بنور الشمس كذلك أشرقت الأجسام بنور الروح ” (8) فالروح وحده هو الذي يتيح للإنسانية أن تحيا وتفطن لما تعيشه من شرود فكري وشذوذ سلوكي، فحيثما فقد الروح سقطت الحضارة وانحطت في أسفل سافلين “فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل ،إذ يفقد الإنسان تعطشه للفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان” (9).
من أمهات الصنائع الخالدة التي تحدث عنها ابن خلدون والتي تستحكم صبغتها وتبقى ثابتة في ذلك العمران فمنها الضروري كالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة وأما الشريفة بالموضوع كالتوليد والكتابة والوراقة والطب، فيقول” إنّ الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات… وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ” (10) ،وهنا لابد أن نتحدث عن أهمية صنعة الكتابة بعد الإشارة إلى ثمار القراءة لأننا نريد تقديم سوق القراءة (11) والثقافة وتسويق الأفكار الصالحة على سوق الأشياء التافهة والمنتجات التالفة، لذا ” فإن الكتابة ومايتبعها من الوراقة، فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيّدة لها عن النسيان، ومُبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب، ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصُحف، ورافعة رُتب الوجود للمعاني ” (12)، وخروجها من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم والقراءة، تكمن أهمية النصوص الدينية والفلسفية في كونها تزخر بالبيان والحكمة و سياسة التفكير ومناهج التحليل والتركيب، التي تساهم في بناء وتوسيع مدارك الإنسان وتهذيب نفسه، فمثلا يجب أن تتعود النفس على شراء الكتب وإنفاق المال على العلم والتعلّم لا على أن تتعود على شراء أشياء غير مفيدة ويتم تكديسها في البيت، كان سخاء النفس بالإنفاق على الكتب، دليلا على تعظيم العلم، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس، وعلى السلامة من سُكر الآفات (13)، فالقراءة وتعلّم الصنائع شفاء للنفس من الأمراض والآفات، فلابد أن تترسخ قيمة القراءة والكتابة في نفسية الإنسان المعاصر وأن يكون الهدف من هذا هو توعية الإنسان بقيمة التثقيف والقراءة والعلم “فإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها، ولا يوجّه قصدُ إلى تعلمها، فاختصت بالترك وفُقدت للإهمال. ولهذا يقال عن علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن، بمعنى صناعته هي قيمته، أي قيمة عمله الذي هو معاشه، وأيضا فهنا سرّ آخر وهو أنّ الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة، فهي التي تنفق سوقها وتوجّه الطلبات إليها، ومالم تطلبه الدولة، وإنما يطلبها غيرها من أهل المِصر، فليس على نسبتها، لأن الدولة هي السوق الأعظم، وفيها نفاق كل شيء” (14).
كما يجب أن نبيّن بأهمية تثقيف القارئ مع ضرورة توجيهه لتعلّم حرفة من الحِرف أو أي صنعة من الصنائع ليكون المتعلم أو المثقف و العالِم متعلما وعاملا بصنعته ( تنمية المهارات واكتساب الحرفة) وهو سر التكامل بين العلم والعمل، وبين الفكرة والواقع والجمع بين طاقة الفكر وطاقة اليد، وهذا ما كان يميز العلماء والمفكرين في الحضارة الإسلامية، لأنها كانت حضارة منتجة للأفكار والصناعات ولم تكن حضارة مستهلكة، فمثلا الفيلسوف الكندي كان يتقن العديد من الحقول المعرفية من بين ذلك الفلسفة والطب والهندسة الفلك والبصريات والميكانيكا “بالإضافة إلى هذه الحقول المعرفية المستقرة، تعلّم الكندي أيضا، ثم كتب عن كيفية إنتاج العطور، وعمل السيوف، والزجاج، والأصباغ، والأوان، وكيفية إزالة البقع، وكيفية التمييز بين الأحجار الكريمة والمزيفة، شملت المناطق المعرفية الأخرى التي تعلمها: الطيور، والنحل، وتهجين الحمام، والزلازل، والمد والجزر، وأسباب المطر، والثلج والبرق والرعد تُظهر هذه الموضوعات الأخيرة روابط مع الفلسفة الطبيعية الأرسطية، في حين يبدو أن الدراسات المتعلقة بالعطور، والسيوف، والأمور ذات الصلة تعكس علاقة الكندي الوثيقة بالبلاط العباسي والمصالح العملية لرُعاته من بيت الخلافة” (15).
عالج كذلك الفيلسوف أبي الحسن العامري الكثير من الموضوعات كالأخلاق والسياسة في العديد من كتبه، نجد في بعض كتبه المفقودة هذا الاهتمام خاصة” الإتمام لفضائل الأنام “…،التقرير لأوجه التقدير ،إنقاذ البشر من الجبر والقدر، كتاب السعادة والإسعاد في السير الإنسانية،كتاب استفتاح النظر يتناول فيه قضية النظر والعمل ،كتاب الابشار والاشجار هو كتاب يبحث في النباتات والأشجار حيث يعالج فسيولوجيا النبات وارتباطها بالوظيفة ،كتاب منهاج الدين :كتاب في التصوف، ويقرر العامري أن الإخفاق الحقيق في الصناعة لايلحق المرء إلا من آفة في نفسه أو آفة في معرفته إذن سببين لا ثالث لهما “الآفة المتولدة في النفس إما أن تكون بحسب الجبّلة أو بحسب السيرة ،ومثل الأولى أن يكون الإنسان عالما بمبادئ الصناعة وأصولها لكنه غير قادر على فهم الفروع المستنبطة منها …ومثل الثانية أن يستشعر المرء لفرط نفاذه في علم من العلوم أو صناعة من الصنائع ضربا من الإستطالة أو الخيلاء أو ينسى حرمة العبودية في التكلان على خالق البرية فيلحقه خذلان الله في تعاطيها ليصير مزجرة له ” (16) فقد نجد من التجار من هو ذو معرفة بالسلع وذو يقظة في التصرف، ثم لا يوفق في الأرباح، و قد يكون من الأطباء ذو توسع في صناعته وتقدم في بصيرته، ثم لا يوفق في تصحيح المرض، غير أن كل من هؤلاء وإن حُرم التوفيق فانه لا يعيب صناعته وإنما الحرمان فيها لن يلحقه إلا بسببين ،إما لآفة في نفس الفاعل وإما لآفة في معرفته.