في دراسته “إبستيمولوجيا الجائحة في معرفة المعرفة: الجسد والثقافة والمجتمع” المنشورة في العدد الـ36 من مجلة عمران للعلوم الاجتماعية الصادرة عن معهد الدوحة للدراسات العليا، يُقدِّم عالم الاجتماع العراقي دارم البصام أطروحاته حول التصاق فيروس كورونا بالسياق الاجتماعي، ليؤكد “أن لا سبيل إلى دراسة ظاهرة الجائحة إبستيمولوجياً إلا من خلال السياق الاجتماعي بكل تعقّداته”، خاصة أن الأوبئة تنحو نحوَ التعقّد واللاخطية في سلوكها فتُنتج آثاراً لا يمكن توقعها.
والظاهرة أن هذه الدراسة تأتي في سياق ضرورة تجاوز الحواجز الإبستيمولوجية لتطوير مقاربات جديدة لدراسة جائحة كورونا التي أحدثت شرخاً في المخيال السوسيولوجي ومثلت لحظات تعرية للنظام الاجتماعي، ولهذا فإن دارم البصام يدعو من خلال دراسته هذه إلى تطوير سوسيولوجيا تبصّرية للتعامل مع ظاهرة جائحة كورونا ضمن نسقها التعقّدي التكيفي وسياقها الاجتماعي، حيث يرى أن من واجب علماء الاجتماع قبل غيرهم أن يتساءلوا عن الأشياء التي كشفت عنها جائحة كورونا، وهل لدينا من الزاد المعرفي والأدوات ما يتوافق تاريخياً لتحليل الظاهرة؟
ومساهمةً منه في هذا المسعى السوسيولوجي، أثار دارم البصام في دراسته هذه جملة من المقاربات التي تساعد على فهم طبيعة الجائحة انطلاقاً من الغوص في المخيال السوسيولوجي، وفي هذا المضمار نجده يؤكد على ضرورة تجسير الفجوة في التحليل السوسيولوجي، ويقدم أفكاره المتعلقة بالمعمار النظري البديل، ومستوى الإحاطة في إطار سوسيولوجيا الممارسة.
الجائحة في المخيال السوسيولوجي
في المحور الأول من محاور الدراسة، يؤكددارم البصام أن جائحة كورونا جاءت إلى العالم بتغيرات غير مسبوقة، فأثّرت في جميع جوانب الحياة بما فيها العلاقات الاجتماعية، ونجحت في إحداث شرخ في المخيال السوسيولوجي “لفهم كيف أن الأنساق الاجتماعية المختلفة، عبر الثقافات وداخل الثقافات الفرعية في المجتمع الواحد، تتفاوت في فهم الصحة والاعتلال وإعادة إنتاج الحياة، وكيف تتفاوت في تحديد سبل المواجهة عندما تتغير البيئة البيولوجية بشكل غير مألوف مسبقاً”.
وأمام هذا الشرخ الذي أحدثته الجائحة في المخيال السوسيولوجي، يعتقد دارم البصام أننا أصبحنا بحاجة إلى “إعادة التبصّر إبستيمولوجيا لإحداث انعطافة في الفكر السوسيولوجي الشائع في اتجاه التعامل مع ظاهرة الجائحة ضمن نسقها المعقد”، وقد يتأكد هذا الأمر أكثر حين نكتشف أن الجائحة تمثل في هذا المقطع التاريخي لحظات تعرية للنظام الاجتماعي، فجميع المؤسسات والعلاقات والتفاعلات أصبحت فجأة أمام واقع إشكالي، كما أن الفرضيات المسلَّم بها للحياة اليومية قد تزعزعت وأصبحت محل تساؤل وعدم يقين، كما يقول دارم البصام.
وإذا سلمنا بأن لا سبيل إلى دراسة ظاهرة الجائحة إبستيمولوجياً إلا من خلال السياق الاجتماعي بكل تعقّداته، فإننا لا بد أن نكون على وعي بأن النسق الاجتماعي يبقى دائماً على حافة الفوضى، “إذ يمكن أن يظهر لنا سلوكاً خطياً وقابلاً للتنبؤ، ولكنه في الوقت ذاته يمكن أن يفاجئنا بتغيرات حادة وآنية ذات تبعات بالغة الأثر”، وهذا هو ما حدث لجائحة كورونا التي انطلقت من مدينة صينية، وفي وقت وجيز عمَّت أرجاء العالم كله، فامتلأت المستشفيات بالوفيات والحالات الحرجة، ووقفت المؤسسات الطيبة في البلدان المتقدمة عاجزة عن مواجهة هذا الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة.
تجسير فجوة التحليل السوسيولوجي
ويبدو أن دارم البصام قد اكتشف أن التحليل السوسيولوجي يعيش فجوة حقيقية تحتاج إلى من يسدها، لذلك نجده في المحور الثاني من الدراسة يناقش مقاربته حول ضرورة تجسير الفجوة في التحليل السوسيولوجي، فيذهب إلى أن دراسة سوسيولوجيا الجسد في إطار التعقّد لم تحظَ حتى اليوم “بالإحاطة وبالتطوير النظري المطلوبين، ولم تأخذ مكانها كمدخل تحليلي للعلاقات الاجتماعية والممارسات والمعاني المتمايزة”، ويبدو أن البصام هنا يتقاطع مع “كريس شلنج” الذي يرى أن الجسد تاريخياً هو الحاضر الغائب في السوسيولوجيا.
والظاهر أن الجائحة كفاعل غير بشري كانت من الأمور التي ساعدت دارم البصام في التأكد من ضرورة إعطاء الأهمية اللازمة لسوسيوجيا الجسد، لذلك نجده يقول إن “دراستنا للجائحة من منظور سوسيوثقافي تحتم علينا أن نتعمق في تصوراتنا الأنتولوجية والإبستيمولوجية لموضوع الجسد، وأن نحاول تطوير مقاربة نسقية جديدة لفهم عملية التوسد الجسدي للثقافة وتجلياته التي برزت في التكيف والمواجهة للوباء”.
وإذا كانت المعالجات البيوسوسيولوجية تنحصر حالياً في بُعْدَيْنِ أساسيين هما: السوسيوجيا الكلية/ البنيوية والسوسيولوجيا القاعدية/ الفردانية، فإن دارم البصام يدعو إلى تجسير الفجوة في التحليل السوسيولوجي من خلال إضافة بُعْدٍ ثالثٍ هو الميزو سوسيولوجيا، ويعني بذلك السوسيولوجيا ذات الموقع الوسطي الدينامي بين البنية والفاعل الاجتماعي.
كما يدعو البصام إلى عدم الاقتصار على التعمق في دراسة وتحليل سوسيولوجيا الجسد، ويرى أن دراسة أجساد الجماعة الاجتماعية المحددة أو المجتمع المدروس بشكل عام يمكن أن يساعد في تطوير فهمنا السوسيولوجي لمدى واسع من الديناميات ويزيد قدرتنا على تفكيك عمل المؤسسات الاجتماعية، ولهذا فإن الفشل في تجسير الفجوة بين البنية الاجتماعية ومستوى الفاعل الاجتماعي يؤثر في علم السوسيولوجيا حسب رأي عالم الاجتماع جوناثان تيرنر.
المعمار النظري البديل
وبعد أن قدّم دارم البصام جملةً من الأفكار المهمة لتطوير أبعاد النظرية السوسيولوجية بوجه عام وحقل البيوسوسيولوجيا بوجه خاص، جاء في المحور الثالث من الدراسة “إبستيمولوجيا الجائحة: المعمار النظري البديل” ليقترح مقاربة نظرية صرّح بأنها مغايرة للمألوف السوسيولوجي، لكنه يرى أنها تساعد في فهم “معرفة المعرفة” وتمكننا من فهم حدود التوليد وإمكاناته، فهي تشتق مرجعياتها من مفهوم النسق التعقّدي التكيفي الذي يُعين الباحث السوسيولوجي على الغوص في أعماق المعرفة وفهم إبستيمولوجيا الجائحة.
ومعنى هذا أنه إذا كان الفهم التقليدي للعلوم الاجتماعية والإنسانية يطالب الباحث بالتخلي عن “الذاتية” من أجل خلق “معرفة موضوعية”، فإن مقاربة دارم البصام تدعونا إلى فهم آخر معاكس لهذا الفهم السوسيولوجي التقليدي، حيث يقول البصام إن “دراسة النسق المجتمعي من منظور التعقّد التكيفي تملي على الباحث أن يكون جزءاً أساسياً من عملية جمع وحيازة المعرفة وأداء البحث”.
ويبدو أن السبب في هذا الأمر يعود من وجهة نظر الباحث إلى أن التعامل مع الظواهر الاجتماعية “يفرض على الباحث السوسيولوجي أن يحور ملاحظاته الميدانية، ليس من أجل شراء الدلالة، ولكن لإعطاء منهج جديد لتوليد المعرفة”، ويتضح من هذا أن دارم البصام يريد التأكيد من خلال هذه المقاربة المغايرة للمألوف السوسيولوجي على “أن الجانب الإبستيمولوجي من التفكير النسقي القائم على التعقّد يتيح للباحث أن يبدي رأيه في خصائص وحدود المقاربة العلمية في توليد المعرفة، وهو من يحدد السلسلة السلبية والتغذية الراجعة بين المتغيرات في المستويات الثلاثة (الكلي، والوسطي، والقاعدي)”.
ومهما يكن من أمر، فإن دارم البصام صرّح بأن توظيف هذه المقاربة النظرية في “توفير فهم لإبستيمولوجيا الجائحة يتطلب بالدرجة الأساس التعرف إلى الممارسة البيوثقافية في السياق الذي نتدارسه”، وذلك يتطلب توفير الإجابة على جملة من الأسئلة من قبيل: كيف تتشكل رؤية الجماعات الاجتماعية للعالم؟ وكيف ينسحب ذلك على الموقف من الجسد والصحة والاعتلال في المحيط البيوثقافي ضمن المضامير الاجتماعية المختلفة؟ وعن أي نوع من الثقافات نتحدث ونتعامل؟؟
سوسيولوجيا الممارسة
ومن أجل توسيع دائرة النقاش حول مقاربته النظرية حول التعامل الناجع مع الجائحة، خصص دارم البصام المحور الرابع والأخير من دراسته للحديث عن “إبستيمولوجيا الجائحة: مستوى الإحاطة في إطار سوسيولوجيا الممارسة”، فذهب إلى أن دراستنا للنسق الاجتماعي للصحة والاعتلال وإعادة إنتاج الحياة على المستوى الكلي تُعتبر بمنزلة التحقق من رصيد نظام المناعة الاجتماعي لدى الثقافة المعينة، لكنه أشار إلى ضرورة دراسة النسق الاجتماعي للصحة والاعتلال جنباً إلى جنب مع نظيره النسق الثقافي، من أجل تفكيك السياسات الوطنية للصحة والمقاربات الثقافية والاجتماعية.
وقد توصل دارم البصام في هذا المضمار إلى أن من بين الميزات الأساسية للتفكير السردي أنه لا يكتفي بحساب آثار الجائحة باعتبارها نتائج للخصائص البيوثقافية للشرائح السكانية المختلفة، بل يقوم بربطها بمجموعة من المظاهر الاجتماعية الأخرى، مثل: اللامساواة في المجتمع، وأنماط التهميش والإقصاء الاجتماعي، والعلاقة بين الفقر والدخل المحدود والمرض والموت، ومن هنا تظهر ضرورة الربط بين النسقين الاجتماعي والثقافي للصحة والاعتلال عند دراسة إبستيمولوجيا الجائحة.
ويعتقد دارم البصام أنه إذا كان هناك درس قد تعلمناه من هذه الجائحة، فإنه يتمثل في أنها “قد اصطدمت بماكينة اللامساواة في جسد المجتمعات، وبأن الفئات الاجتماعية التي تضررت من هذا الاصطدام هي أصحاب (الحياة الحافية) على حد تعبير جوجيو أغامبين”، فالحياة عند أصحاب (الحياة الحافية) مختلفة عن الحياة الطبيعية المرغوبة، لأنها محفوفة بالصعوبات وغارقة في عدم اليقين ومواجهة العنف الرمزي والمادي، وبالتالي تسودها “نزعة التشبث بالعيش تحت أي تكلفة اجتماعية أو جسدية كانت”.
وفي أثناء حديثه عن تقنيات الجسد في مواجهة الجائحة، تحدث دارم البصام عن عدة أنواع من أنظمة المناعة، مثل: نظام مناعة القطيع، ونظام المناعة البيولوجي، ونظام المناعة السلوكي، ونظام المناعة الروحاني الذي يرى الباحث أنه نظام دفاعي يمكن “أن يزود الجسد بذخيرة حية تعزز موقعه في مواجهة الجائحة”. وبما أن نظام المناعة البيولوجي الموجود لدى كل فرد لا يكفي لمواجهة الجائحة، أشار دارم البصام إلى أن الفرد بإمكانه أن يستكمل مقومات مواجهة الجائحة من خلال نظام المناعة السيكولوجي الذي يعتبر “خط الدفاع الأول لتسليح الجسد ضد الجائحة”، هذا مع العلم بأن كل هذه الآليات الدفاعية النفسية تتأثر لدى الفرد بأمور خارجية تتعلق بالمعلومات المتضاربة حول انتشار الوباء، وأمور داخلية تتعلق بالهشاشة الداخلية والقلق والخوف من المرض.
ومن الجدير بالذكر، في ختام هذه المقالة، أن العدد الخاص بإبستيمولوجيا الجائحة من مجلة عمران للعلوم الاجتماعية تضمن -إلى جانب دراسة دارم البصام- ثلاث دراسات حول جائحة كورونا لباحثين في حقول مختلفة من العلوم الاجتماعية(1). وقد صرَّح دارم البصام في تقديمه لهذا العدد الخاص من دورية عمران بأن الأمر الذي جمع أعمال هؤلاء الباحثين في إطار الكتابة حول فيروس كورونا المستجد هو “تجاوز الحواجز الإبستيمولوجية لمجالهم والقيام بتطوير مقاربات جديدة لدراسة الظاهرة”.
1- وهذه الدراسات هي: (جائحة فيروس كورونا كوفيد 19 وإبستيمولوجيا الكوارث: التجميع والتصميم والاحتراز) لفرانسيس أ. بير وروبرت هاريمان، و(جائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 في المجتمعات الغربية والعلوم الاجتماعية) لدومينيك فانك، و(الإنسان وجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19: نحو أفق إشكالي جديد في سياق تداخل موضوعات الأبحاث وتقنياتها المنهجية).