فاز الدكتور مدحت ماهر الليثي، مدير مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بالقاهرة، بالمرتبة الثانية في الدورة الرابعة من جائزة قطر العالمية لحوار الحضارات لعام 2024م، والتي انعقدت تحت عنوان “حوار العلوم: نحو إطار حضاري لتكامل النظام التعليمي”؛ وذلك ببحثه: “حوار المعارف والثقافات وبناء العلوم الاجتماعية: من الخبرة الحضارية إلى تجاوز الأزمة المعاصرة”.

وجائزة قطر العالمية لحوار الحضارات أُطلقت عام 2018م كثمرة من ثمار التعاون بين اللجنة القطرية لتحالف الحضارات بوزارة الخارجية وجامعة قطر، ممثلة بكرسي منظمة العالم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم “إيسيسكو” في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.

وحول ما يطرحه البحث من قضايا وما انتهى إليه من خلاصات، سواء في مسيرة العلوم في الحضارة الإسلامية أو الغربية؛ جاء هذا الحوار مع الدكتور مدحت ماهر الليثي، الذي له العديد من الكتب والأبحاث المهمة في المجال الفكري والسياسي، منها: فقه الواقع في التراث السياسي الإسلامي. الأخلاق في السياسة الدولية: التنظير والتطبيق. قراءة في فكر محمد شحرور ومعالجته للقرآن الكريم. أمين الخولي من أدبية التفسير إلى إشكالات التأويل (بالاشتراك مع د. شريف عبد الرحمن).. فإلى الحوار:

– كيف جاءت ظروف مشاركتكم بمسابقة جائزة قطر العالمية لحوار الحضارات؟

بدأت قصة هذا الكتاب من إشارة بعض الإخوة والأصدقاء من شباب الباحثين إلى مسابقة في هذا حول موضوع حوار الحضارات والثقافات، وحول تكامل وحوار المعارف، وهو موضوع يستهويني. وكانت أستاذتي الدكتورة نادية مصطفى أول من حدثتها، وأول من اقترحت عليها هذا الموضوع، فشجعتني. كتبت الفكرة في يومها، وقُبل الملخص من هيئة المسابقة، وكانت المدة المتاحة لإعداد الكتاب من مايو 2023 حتى آخر مارس 2024؛ وهي مدة كافية، ولكن داهمنا “طوفان الأقصى” من أكتوبر إلى نهاية المدة، بالإضافة إلى شدة انشغالي وانغماسي في أعمال كثيرة.

وبدأت عملية جمع المادة وسط انشغالات كثيفة، أخذت نحو شهرين حتى نهاية يوليو تقريبا؛ لأبدأ الكتابة في مباحث الكتاب بالتدريج. ولأن الطلعات الأولى عادةً ما تكون صعبة وثقيلة، مكثت في المبحث الأول حوالي شهر ثمّ توقفت بسبب اندلاع “الطوفان” 7 أكتوبر 2023؛ حيث كان رد الفعل أني نسيت هذه الدراسة نسيانًا تامًّا، ولم أضعها جانبًا قط، بل انمحت من ذهني تمامًا في مقابل الانخراط في يوميات ولحظات الطوفان ومقاومة العدوان. لم أفق للدراسة إلا متأخرًا جدًا في يناير 2024، وقد بقي أقل من شهرين، فأرسلت إلى اللجنة المنظمة أسأل عن إمكانية مدّ فترة التسليم، فأجابوا بأنه يتعين الالتزام بالتسليم في الموعد المُحدد (نهاية مارس 2024).

فمنحتني أستاذتنا د.نادية- وهي مديري في العمل- إجازة نصف تفرغ؛ للعمل على الكتاب. عكفت على القراءة والتلخيص والكتابة والاقتباس والتوثيق، والتفكير والتحليل، حتى قضى الله تعالى بإنهاء الكتاب قبل الموعد المحدد بـ13 دقيقة!

الحوار بأشكاله ومستوياته المختلفة داخل الأمة كان جاريًا غير منقطع

إنني عندما أطالع هذه الكتاب الآن بحجمه البالغ (467) صحيفة؛ أسأل نفسي: من الذي كتب هذا الكتاب؟ ومتى وأين وكيف كتبه؟ فلله الحمد والشكر أولاً وآخرًا، دائمًا وأبدًا.

مستند يتضمن عنوان "حوارات المعارف والبناء الاجتماعي" من جامعة قطر، مع خلفية هندسية وألوان خضراء وزرقاء. يظهر في الصورة بعض الكتب في الخلفية، مما يعكس موضوع التعليم والبحث الأكاديمي.
البحث الفائز بالمرتبة الثانية في الدورة الرابعة من جائزة قطر العالمية لحوار الحضارات للعام 2024م”حوار المعارف والثقافات وبناء العلوم الاجتماعية” تأليف: د. مدحت ماهر الليثي

ويجدر القول بأن هذا الكتاب هو ثمرة من ثمرات العمل في مدرسة المنظور الحضاري التي أعتز بالانتماء إليها.. حيث آمنا في مدرستنا ومركز الحضارة بأن العلم رحم إنساني كبير بين أهله وطلبته، وآمنا بذاتنا كأمة لها تاريخ وحاضر ولها مستقبل بإذن الله.. وبناءً عليه فلدينا دافع لأن يكون لدينا إسهام ووجود في عالم المعرفة بدءًا من مستوى المنظور العلمي، وحتى المفاهيم والمداخل المنهاجية.. ومدرستنا هذه هي معطى متجدد ولله الحمد رغم أن الواقع المحيط لم يعطها حقها حتى الآن.

ومما يشار إليه أن هذا الكتاب أُعد وأُخرج تحت القصف، ومن رحم المقاومة الحضارية، التي لا تقتصر على المقاومة السياسية والعسكرية، ولكن تشمل المقاومة المعرفية أيضًا.

– وكيف تلقيتم نبأ فوز بحثكم؟

بعد أن أرسلت الكتاب، حاولت التواصل مع اللجنة المنظمة لأعرف متى تظهر نتائج المسابقة، فلم تأتني إجابة لشهور، وفي أغسطس 2024 قيل لي ستظهر النتيجة عند التكريم نفسه، أي في شهر ديسمبر 2024. لكن في أواخر أكتوبر راسلني صديق بالخبر بأنني حصلت على المرتبة الثالثة، وتعد الثانية؛ لأن المرتبة الأولى حُجبت، فحمدت الله تعالى. ثم جاءني خطاب رسمي بأنني حصلت على المرتبة الثانية وتعد الأولى لأن الأولى حجبت، وتضاربت بعض الإنباءات. حتى راسلتني اللجنة بالنشر في الصحف والمواقع في دولة قطر، بهذا الترتيب الثاني بمثابة الأول. فزدت من حمد الله تعالى، خاصة مع ظروف إعداد الكتاب.

المخرج الآن من منظور الحضارة هو في حوار الثقافات والحضارات

بدأت أخبر المقربين تدريجيًّا، بداية طبعًا من أستاذتي د.نادية وزوجتي، حتى هنأني د.فتحي الملكاوي حفظه الله تعالى على ملأ في ندوة علمية، فانتشر الخبر، ووصل للفيسبوك، وتفجرت التهاني من حولي، وساعتها لم يشغلني سوى الشعور بتلك المشاعر الحميمة التي غمرتني، وكنت أبكي فرحًا بفرح الأحباب المحبين، وفي الوقت نفسه داعيًا بالفرح والفرج للأهل في غزة.

– نريد أن نعرف القارئ بأهم محاور الكتاب.

تجسدت الفرضية الأساسية لهذه الدراسة في: “أن بناء العلوم وتجديدها رهين عوامل من أهمها جريان الحوار فيما بين أهل العلوم، وفيما بينهم وبين أهل الأعمال، وفيما بين الجميع وبين مجريات الحياة التي يعيشونها”. ومن ثمّ، تمحور الكتاب حول التساؤلات الآتية:

  1. كيف مضت العلاقة بين فكرة الحوارية وبين بناء وتطور العلوم في الحضارة الإسلامية في نصفها الأول بين القرنين الأول والسابع تقريبًا؟
  2. كيف مضت العلاقة بين فكرة الحوارية وبين بناء وتطور العلوم في الحضارة الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة؟
  3. ما أهم سمات التجربتين التي خلصت بهما الدراسة؟
  4. كيف شهد القرنان الأخيران التاسع عشر والعشرون التقاء التجربتين حال نضوج الأخيرة منهما ثم تأزمها، وحال تراجع الأولى ثم محاولات نهوضها؟

وكانت المنهجية المتبعة هي: مدخل التتبع التاريخي المعرفي عبر الحضاري (في البابين الأول والثاني)، ثم المقارنة المعرفية الحضارية من خلال الحوار بين الحضارتين (وفي الباب الثالث)… وامتد النطاق الزمني للدراسة لأكثر من سبعة قرون من أول عهد النبي إلى ابن خلدون بالنسبة للحضارة الإسلامية، ثمّ تاريخ العلوم والحضارة الحديثة في الغرب في القرون الثلاثة الأخيرة.

الطهطاوي له كلام شديد الدقة في وصف حسنات وسيئات العلم في الغرب

وهذا الكتاب مكون من ثلاثة أبواب تتضمن تسعة فصول و22 مبحثًا؛ كل باب من ثلاثة فصول، وكل من فصول البابين الأول والثاني ثلاثة مباحث، وكل من الفصلين الأولين من الباب الثالث مبحثان. وتحمل العناوين التالية:

  • الباب الأول- حوارية المعارف الإسلامية والاستيعاب الثقافي.
  • الباب الثاني- حوارية المعارف الحديثة في الغرب والتفوق الحضاري.
  • الباب الثالث- نحو تجدد حضاري في المعارف الإنسانية والثقافات.
  • والفصل الثالث من الباب الثالث هو الختامي: من عصارة الخبرة والعبرة إلى حوارية معرفية جامعة.

وماذا عن الخلاصات والنتائج.. ولنبدأ بما يخص التجربة الإسلامية؟

اتَّسعت شجرة العلوم والمعارف في الحضارة الإسلامية لتضمَّ العلوم الدينية فالعلوم العقلية والطبيعية، ومن بينها برزتْ صياغاتٌ للمعارف الإنسانية والاجتماعية؛ في النفس والسلوك والسياسة والتربية والأخلاق والحروب والتجارة والصنائع والاجتماع الإنساني والعمران البشري.

وكان الحوار بأشكاله ومستوياته المختلفة- داخل الأمة وعبر حدودها الجغرافية والثقافية والحضارية- جاريًا غير منقطع، داخل كل حقل معرفي: بين علمائه، وبينهم وبين تلاميذهم، والحكام أحيانًا، والعامة، وقضايا الواقع، وداخل كل صنف أو مجموع معرفي، وبين بعض المجاميع. وتميزت حوارات العقيدة، وحوارات الفقه، وحوارات المنهج خاصة مع الفلسفة والمنطق، بميزات القوة والحرارة والاستيعاب والصدام، واتصل بعضها بالسياسي والثقافي العام بقوة.

من أبرز أمثلة هذه الحوارات:

  • حواريات تأسيس المعارف: فقد أرسى القرآن الكريم حوارية لتأسيس المعارف، قادها في أوائلها النبي الكريم ، فمن يبحث في سيرة وحياة النبي يجد حالة حوارية غزيرة، وسار على هديه الصحابة والصدر الأول؛ ومنه انبثقت أصول العلوم النقلية والتأويلية والاستنباطية وخاصة الفقه واللغوية والأدبية والتوثيقية والتأريخية والتطبيقية في الإفتاء والقضاء والسياسة وما شابه. وفي الدراسة أمثلة، منها: حوارية العلوم الأصلية وفيها يقول الخليل بن أحمد (100- 175ه):
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا مُحاوَرَةُ الرِجالِ ذَوي العُقولِ وَقَد كانوا إِذا عُدّوا قَليلاً فَقَد صاروا أَقَلَّ مِنَ القَليلِ
  • حوارات بين الأقران: وفيها مثال حوارات الشافعي وأحمد، وهما في هذا الوقت رأسان في الفقه، وبينهما اختلافات في الفهم والتأويل، فهي حوارات أنشأت المدارس بدءًا من صورة المدرسة من العهد النبوي، مرورًا إلى حوارات أبي حنيفة وتلاميذه، وتطور المدارس الفقهية بعد ذلك.. كما ظهر أيضًا مفهوم الفريق البحثي (ومنهم أولاد موسى بن شاكر وفريق أبي بكر الرازي، وظهور الاختراعات العلمية في عصورهم بمنجزات وأشكال مختلفة).
  • حوارات الترجمة والحوار مع معارف الآخرين: استقبل المسلمون العلوم الطبيعية والرياضية استقبالًا استيعابيًا مع التحذير من حواشي كتاباتها العقدية الفلسفية كالفلك أو الطبيعة، وبعض اللاأخلاقية كالسيمياء. ولم يوثق موقف لتحريم الحساب أو الرياضيات أو الطب أو الصيدلة أو تعلم اللغات.. إلخ. لكن شجرتها ستتسع مع الزمن. ولكن بعد هذه الحالة الكبيرة من الحوارات، اتضح أن معارف الآخرين أحدثت بعض الإشكاليات في لقائها مع معارفنا، إذ كان الحوار غير متكامل في بيان المفيد وغير المفيد أثناء الحوار المعرفي مع الآخرين، فوقف الغزالي يكتب “مقاصد الفلاسفة”، ثم كتب في حوارية التهافت “تهافت الفلاسفة” وليقابلها ابن رشد بـتهافت التهافت. وهكذا.
  • حوارية التصنيف: التي ستظهر فيها لبنات العلوم الاجتماعية في الحضارة الإسلامية: الكتابة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية؛ فمثلاً كتب أحمد بن علي بن يوسف “مفاتيح العلوم” في منتصف القرن الرابع الهجري لتصنيف هذه العلوم عبر نوع من الحوارية فيما بينها.
  • حوارية العلوم في شخص عالم أو طالب معرفة: البيروني نموذجًا؛ الذي كان يتناول الموضوعات والأمور بطريقة موسوعية تجمع بين العلوم الإسلامية والاجتماعية والطبيعية.
  • حوارية تأسيس أصول الفقه/ علم منهج النظر عند المسلمين: فمنذ القرن الثالث الهجري تكاملت شجرة العلوم الإسلامية، خاصة الدينية ثم أصول العلوم الاجتماعية والطبيعية والرياضية، وبين الرابع والسادس صار المسلمون أمراء المعرفة في العالم أو أولياء أمرها. وعندما قرأت مقدمة كتاب “المناظر”، وبعض القراءات للبيروني والخوارزمي أجد المقدمات فيها نفس أصول فقه، تأكد لدي هذا المعنى. كما اتضح أن الشافعي كان منهجه في “الرسالة” حواريًا، وكان دافعه يُقدم كتابًا يجمع فيه الفقهاء على قول، فكتب الرسالة كلها بطريقة سؤال وجواب (يقول، فأقول)؛ لكن الأكثر أنه وضع في وسط الرسالة فكرة “القياس”. والقياس باللفظ مستعملة في المعارف الاجتماعية والطبيعية في هذا الوقت. وعلماء المسلمين بتنوع تخصصاتهم يستعملون القياس بشكل كبير جدًا؛ فاتضح أنها آلية البحث الأساسية.
  • حوارية التخصص: ثمّ مضت حوالي ثمانية قرون، معها أخذت المعارف الاجتماعية تخرج من رحم الكتابات الإسلامية والفقهية، فاتضح أن هناك معارف مُتخصصة في هذه العلوم.
  • خفوت الحوارية وتراجع المعارف: جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) ليعلن أن حالة العلوم في العالم الإسلامي أصابها الإرهاق، وتراجعت الحوارات الصحية، ودعا إلى منهج تجديدي لكنه لم يجد له آذانًا واعية كافية وقتها. فزحفَ دبيبُ الوهن والذبول في أوصال الحضارة وعلومها وحواراتها الداخلية والبينية والعابرة للحدود الثقافية؛ لتتراجع تدريجًا مكانتها من الصدارة إلى مواقع متأخرة.

– وماذا يمكن أن نرصد من خلاصات ودلالات في التجربة المقابلة، أي حوار المعارف في ظل الحضارة الغربية؟

لما ذهبنا إلى أوروبا وجدنا أن أوروبا اليونانية كانت مشحونة بالحوارات، ولكن حينما دخلت إلى العصور الوسطى (عصور الظلام) انكتمت الحوارات. ثم لما بدأت مفاهيم الإحياء والنهضة نجد أن هناك صراعًا بين الحوارية وبين التسلط المعرفي والثقافي ثم السياسي.

ولما بدأت الحوارية تغلب (حتى وهي مأزومة في أولها) بدأت النهضة تتحرك معها فعلًا بداية من العلوم الطبيعية. ونتيجة لأن التسلط أخذ شكلاً دينيًّا؛ أصبحت المعارف ضد الدين، فكان ازدهار العلوم الطبيعية على حساب العلوم الدينية.

ومن ثمّ، برزت حواريات مأزومة مرتبطة بأزمة الضمير الأوروبي بين نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، ونظرية معرفة عبر حوارية صراعية (بول هازار، ونموذج جون لوك)؛ فكانت فكرة الأزمة حاضرة في أصول النظرية المعرفية الغربية؛ تبلورت في صورة ثنائيات متضاربة. تمثلت هذه الثنائيات منذ القرن الثامن عشر في:

  • التراوح بين المنهج العقلي (الاستنباطي) ونسبة الإبداع المعرفي إليه، وبين تقديس المنهج التجريبي الاستقرائي، والميل الأغلب إليه.
  • التأرجح بين تعظيم قيمة الإنسان والقيم الإنسانية خاصة الفردية، وبين تحييد القيم خاصة في البحث العلمي تجردًا للحقيقة (المجردة).
  • الجمع بين استفادة ضئيلة من الفلسفة القديمة والدين، وغلبة العلمانية المعرفية التي تراوحت بدَورها بين الحياد الديني (اللاأدرية) والإلحاد (إنكار العلَّة والغيب).

استمرت الحوارات بين تلك الثنائيات: حوارية القديم/ الجديد، الدين/ العلم، التحكم/ السعادة، المادي/ الإنساني، وظلت مقولة الحديث هي الحاضر الأهم في حواراتهم، كما برزت في أفكار التقدم، والثقافة الحضارة (الأنا الحاضر والمستقبل). وقادتهم كل هذه الحوريات إلى وضع فلسفة للعلم تجسدت في مفهوم “الوضعية”، الذي ارتبط باسم أوجست كونت. ولم يقتصر تأثير “كونت” (الوضعية) على أوروبا، وإنما سيرتبط اسمه مع أقرانه في تكوين مصر “الحديثة”، ممثلة في مجموعة “السان سيمونيين”، الذين كان من بينهم “ديليسبس”، وهذه المجموعة هم من كونوا مدارس محمد علي الحديثة.

ثمّ كانت لكتب كونت تأثير كتأثير كتاب الرسالة؛ فقدم قانون تقدم المعرفة، وقرر يمحو الماضي ويمحو الآخر، ويصبح العلم هو دراسة الواقع والانطلاق منه.. ولن يستطيعوا- أي الغربيين- التخلص من هذا القانون ربما حتى الآن، رغم مقولات ما بعد الوضعية. ووضع مُخططًا لتصنيف العلوم له دلالته، فوضع أوله الرياضيات والفيزياء والفسيولوجي وآخره تطورًا وانضباطًا العلوم الاجتماعية.

نريد أن نبني المنظور الحضاري عبر التفاعل مع ما هو داخل العلم

وخلاصة المقارنة هنا على مستوى الرؤية وتصنيف العلوم، أنه في الحضارة الإسلامية يأتي الدين ثمّ العلوم الإسلامية فالعلوم الاجتماعية منبثقة عنها، فالعلوم الطبيعية مُستقبَلة من الدين باستيعابية وبعض المحاذير. أما في السياق الغربي فستكون العلوم الطبيعية هي الأساس وينحى الدين، وتأتي العلوم الاجتماعية مادية لادينية.

وعلى هذا الأساس ظهرت حوارية تأسيس العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر. فمثلًا أصبحت المادة والقيمة المادية والرقم محور علم الاقتصاد (تجسدت في أعمال جون ستيوارت ميل، ماركس، ريكاردو)، وأخذ علم الاجتماع والتربية والأخلاق (على يد هربرت سبنسر ثمّ دوركايم) نفس الخط المنهجي في السير على العلوم الطبيعية ومنهج البيولوجي (التطوري)، والحوارات بين البيولوجي والسوسيولوجي.

انتقلت العلوم الاجتماعية من الأفكار الفلسفية إلى بناء التخصصات، ومن التخصصات إلى التخصص الدقيق، وصولًا إلى “التفصص”. وضربت الدراسة مثالاً بعلم السياسة، بدءًا من صانع التخصص الأكبر: ماكس فيبر، وكيف أنه بنى العلم عبر حوارات حياة، فهو أكثر ما يتكلم كان يحاضر. وانتقلت العلوم من أوروبا إلى أمريكا. فزادت من “وضعية” العلوم، وبخاصة السياسية، فأنتجت السلوكية التي لم تكمل سوى عقدين حتى أعلنت عن أزماتها: ما بعد السلوكية، وما بعد الوضعية، وما بعد الحداثة، وما أتبعها من حوارات نقد ونقد النقد من أواخر الستينيات حتى الآن.

– كيف تناول البحث واقع المسلمين وحواريات المعارف والثقافات في القرن العشرين؟

وقعت العلوم الاجتماعية في القرن العشرين في أزمة كبيرة؛ فطُرحت الفينومينولوجيا على يد إدموند هوسرل، وكانت العودة إلى أسئلة الهوية والماهية، ومركزية الفيزياء، ونقد الوضعية المنطقية عند كارل بوبر، واستمرار الحيرة في ظل أطروحات ما بعد الوضعية والثنائيات المتجددة: الفرد والجماعة، الذات والموضوع، القيم والمصالح…

هذه الحوارات أدركناها- وكثير من علمائنا- مبكرًا، ومنهم حامد ربيع ومنى أبو الفضل، وهناك أساتذة عرب ومسلمون أدركوا مبكرًا إشكالية العلوم الاجتماعية بدءًا من النصف الأول للقرن العشرين، وكتبوا عن إشكالياتها من منظور الإسلام. وناقشت مدرسة المنظور الحضاري الأمور نفسها، ووصلت إلى موقف علمي متصل بالواقع. بينما الغرب متصاعد في حالة الأزمة، ينتقل من أزمة العولمة إلى عولمة الأزمة.

والمخرج الآن- من منظور الحضارة ومفكرين في الغرب- في حوار الثقافات والحضارات؛ ومن هنا بدأت تظهر مفاهيم وأفكار التداخلية والتقاطعية والبينية (طرح جو موران)، وتُسهم فيه بشكل قوي مدرسة المنظور الحضاري.

– في أزمة مفصلية مثل العدوان الأخير على غزة، رأينا أصواتًا تضع الغرب في سلة واحدة وتريد أن تُحدث قطيعةً مع الغرب على كل المستويات؛ السياسية والمعرفية… إلخ، كيف ترون ذلك؟

رغم العدوان المستمر من الغرب على أمتنا لنحو ثلاثة قرون، إلا إن موقفنا من الغرب لم يكن أعمى، ولم نقلده في عدوانه. إن علماء المسلمين في القرنين الأخيرين استقبلوا الغرب بنفس منطق المسلمين الأوائل عند التعامل مع العلوم والمعارف اليونانية؛ فاستقبلوه بالاستيعاب والتفاعل والحوار، مع إدراك خطر سياساته واعتداءاته الاستعمارية والاستشراقية، وبالأخص الصهيونية.

في رسالة الطهطاوي: “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، كلام شديد الدقة في وصف حسنات العلم في الغرب ووصف سيئاته من منظور إسلامي كبير. ولذا فإن الطهطاوي يحتاج إلى تحليل معرفي لما كتبه عن العلم في القرن التاسع عشر؛ كيف كتب هذه الجمل شديدة الدقة.. يصعب علينا أن نكتب في توصيف الغربي مثلما كتب الطهطاوي ونحن في الربع الأول من القرن الحادي العشرين. إنه يرى عندهم ضلالات وهرطقات، ولكن لا يرفضهم رفضًا مطلقًا، فلديهم علماء متميزون في كذا وكذا، ونحن كان لدينا مثلهم لكننا وصلنا إلى تراجع كبير.

ما بعد الطهطاوي، في القرن العشرين، ظهرت مثلاً حالة غريبة من الحوار بين مسلمين- لكن غربيون ينتمون إلى الثقافة والحضارة الغربية– وبين الغرب. قرأ هؤلاء الغربيون المسلمون الغرب وثقافته وحضارته من منظور ما وصلوا إليه في الإسلام؛ من مثل رينه جينو وروجيه جارودي، وعلي عزت بيجوفيتش ومراد هوفمان، ويكمل معهم من المسلمين الشرقيين أمثال محمد إقبال، وعبد الوهاب المسيري، وغيرهم كثيرون. وقراءتهم للغرب تؤكد مفهوم الاستيعاب والتجاوز، والانتقاء بالرفض والقبول، وقد وضعوا أيديهم على أمور أعتقد أن الغرب نفسه هو أحوج إلى الاستماع إليها.

– الدعوة لما يمكن أن نسمية “توطين المعرفة الاجتماعية” كما هو الحال مع “توطين المعرفة العلمية”.. كيف تنظرون لذلك في إطار معادلة: الحوار الحضاري مع الاستقلال الحضاري؟

إن ثمة حوارًا آخر داخل العلم والمعرفة الاجتماعية، يسعى لإنهاض الطاقات الفكرية والاجتهادية الإسلامية للإسهام وللريادة في توليد العلوم، والإنتاج المعرفي الأصيل المتصل بالواقع. وقد تبارت فيه تيارات: التأصيل الإسلامي للمعرفة من الأصول الإسلامية وانفصالاً عن المنتج المعرفي الغربي الحديث، والتوجيه الإسلامي للمعارف التي أنتجها الغرب بعرضها على الأصول الإسلامية فما قبلته أجيز وما رفضته لم يؤخذ، وأخيرًا تيار إسلامية المعرفة فالتكامل المعرفي، فالمنظور الحضاري. والأخيرة تراجع المعرفة الاجتماعية الغربية مراجعة نقدية على ثوابت الإسلام وثقافة مجتمعاتنا، وتراجع التراث الإسلامي على ثوابت الإسلام وثقافة مجتمعاتنا، وانطلاقًا من النموذج المعرفي الإسلامي الكبير؛ لكي تنتج معرفة عن -ومن وفي- وإلى العالم.

كتاب بعنوان من أصول التفسير إلى إشكالات التأويل، يغطي موضوعات تفسير القرآن وتأويله، مع خلفية مكتبة تحتوي على مجموعة من الكتب.
كتاب (أمين الخولي من أدبية التفسير إلى إشكالات التأويل)

وأسجل هنا خبرة تعلمية مع أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفى- أستاذ العلاقات الدولية ورائدة المنظور الحضاري في هذا التخصص- فقد كانت لها جملة قالتها منذ ثلاثة عقود: “لا مخرج من هذه الأزمة للعلوم إلا بالحوار الثقافي”، ثم جملة ثانية شديدة الأهمية وهي: “أننا لا نريد أن نبني المنظور الحضاري خارج العلم، ولكن عبر التفاعل مع ما هو داخل العلم”، وكنت أتساءل وأنا لا زلت طالبًا في الماجستير في محاضراتها: لماذا ينبغي أن نبني منظورنا من داخل المنظومة العلمية الحديثة (الغربية)؟ ولماذا ليس من خارجها وانفصالاً عنها؟

الإسلام قادر على الإجابة عن أسئلة الأزمة الحضارية المعاصرة

وقد ثبت لي بالتجربة صحة مقولة دكتورة نادية؛ كما ثبت أن الطريقة الحوارية هي التي تُنتج شيئًا مفيدًا.. وقد جُربت الطريقة الأخرى (إنتاج العلوم الاجتماعية من رحم العلوم الإسلامية فقط) ولم تؤد هذه الجهود إلى نتائج ترتقي بالعلوم. وكانت الغلبة للتيار الوسط، الذي قال: نتمسك بما عندنا.. ونطلع على ما عند غيرنا، فننتج من داخل الموجود ولا نهدر ما قامت به الأمم، انطلاقًا من فريضة الاجتهاد، الذي اعتبره الشافعي مشروعًا بل واجبًا على كل إنسان على قدر علمه وحاجته وقدرته..

– الأزمة الحضارية المعاصرة.. ماذا يمكن أن يقدم لها الإسلام؟

الأزمة الحضارية المعاصرة لها مستويان: مستوى عالمي، نشترك فيه مع بقية البشر على هذه الأرض المتناقصة من أطرافها بفعل ثورة الاتصالات؛ ومستوى أمتنا؛ حيث أزمات المعرفة والواقع، وإشكاليات الهوية والمرجعية، والتخلف المادي، والتجزئة، والاستبداد والفساد. وتعد أزمة القيم أكبر مشترك في الأزمة الحضارية المعاصرة.

ولا شك أن الإسلام هو أقوى وأبرز مفاعل فكري حي قادر على الإجابة عن أسئلة تلك الأزمة، وتفكيك تركيبيتها، واستعادتها إلى حالة الفطرة الأولى، مع مواكبة الزمان. وهنا، يقدم الإسلام:

  1. رؤية للإنسان والحياة والعالم والأمم تقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر، ووصل الإنسان بربه رب الوجود كله.
  2. فتح آفاق السماوات والأرض والنفس أمام الاجتهاد المعرفي الإنساني، من غير قيد إلا المقاصد الحسنة والقيم الفاضلة.
  3. تكريم الإنسان بتكريم الله تعالى له، وهو أعلى مصادر التكريم وأقدسها، وبشرط التزام الإنسان فردًا وجماعةً الأخلاقَ والقيم الفاضلة، وإلا فإن القيم تفرض مواجهة المجرمين والمعتدين.
  4. إقامة نظام العالم على العدل والتعاون والإحسان، من كل إنسان إلى كل إنسان، ومواجهة الفحشاء والمنكر والبغي، من أهل العدل والإحسان ضد أهل الإثم والعدوان.
  5. إقامة الأمة الإسلامية على الصراط المستقيم وإخراجها للناس أنموذجًا لأثر الإيمان والعمل الصالح في إصلاح الاجتماع الإنساني وتوسيع العمران البشري.