غالبا ما تلجأ الدول إلى مراجعة هيكلة اقتصادها لاكتشاف مكمن الخلل وإصلاحه ولتوسيع النشاط الاقتصادي وتنويعه، ليحقق مزيدا من الأهداف التنموية وليخرج من حالة الركود ويواكب تطورات المنظومة الاقتصادية الإقليمية والدولية، ويطلق على هذه الظاهرة “إعادة هيكلة الاقتصاد Economic Restructuring” وتعني التحول من نمط اقتصادي إلى آخر حسب المتغيرات التى يفرضها الواقع.

 

يمنح هذا التحول فرصة لتحقيق أهداف أشمل واستراتيجيات أبعد تنعكس على حياة الناس ومستوى معيشتهم وعلى النشاط الاقتصادي ومكانة الدولة في السوق الإقليمية والدولية. ومن أمثلة إعادة الهيكلة التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي  أو التحول من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الخدمي.

تركز هذه المقالة على سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية التى تبنتها سينغافورة والتى قادها رئيس الوزراء السابق ورئيس اللجنة النقدية لي هسين لونغ الذي استطاع رفقة طاقمه إقناع لجنة مراجعة السياسات الاقتصادية المعروفة ب Economic Review  Committee بإعادة هيكلة اقتصاد الدولة.

تطوير القوة التنافسية للاقتصاد

أولى خطوات إعادة الهيكلة كانت تطوير القوة التنافسية للاقتصاد السينغافوري وذلك من خلال الحفاظ على الضرائب المباشرة منخفضة قدرالإمكان، وذلك لجذب الشركات العالمية والإقليمية والمستثمرين بشكل عام ، وتعتبر هذه الخطوة ذات أهمية كبيرة لإنتعاش الاقتصاد، كما اتبعت الحكومة أيضا سياسة خفض معدلات الضرائب على الأفراد لتحفيز روح المبادرة، والمخاطرة، وخلق الثروة، و لجذب المواهب ودعمها لدخول مشاريع تنموية تسهم في خلق قيمة مضافة للاقتصاد.

تركيز الحكومة على إعادة هيكلة النظام الضريبي شكلت فرصة هامة لتحفيز الاقتصاد حيث ساهمت السياسة الضريبية الجديدة إلى جذب الاستثمارت الخارجية و صعود ونمو للمشاريع الداخلية التى استفاد أصحابها من الامتيازات الضريبية ، فقد تم تخفيض معدلات الضريبة على الشركات والأفراد من 25% إلى 20% على مدى ثلاث سنوات، بينما تمت مراعاة ضريبة الأفراد الذين لا يقيمون عادة في سنغافورة، استنادًا إلى عدد الأيام التي يقضونها في العمل داخل الدولة وذلك لتعويض جزء من عجز الإيرادات ، وفي هذا السياق أيضا قامت الحكومة بزيادة ضريبة الاستهلاك من 3% إلى 5%.

كما شملت إعادة الهيكلة مراجعة أساسية ومحكمة لخطة صندوق الادخار المركزي (CPF)، وهو أهم مشاريع الدولة حيث يختص  بالضمان الاجتماعي ونظام التقاعد. و تم التركيز على إعادة صياغة الهدف الأساسي للصندوق والذي ينص على ضرورة التكفل بالاحتياجات الأساسية لغالبية السنغافوريين ، ومنها التقاعد المريح ، نفقات الرعاية الصحية ، وملكية العقارات السكنية.

في هذا الصدد قامت الحكومة باقتطاعات من حصة شراء العقارات لصالح احتياجات التقاعد وذلك من خلال بتخفيض أسهم المواطنين ذوي الدخل المرتفع لصالح الطبقات الأخرى. هذه الاصلاحات ساهمت في انتعاش الاقتصاد السينغافوري ومنحته المرونة والقوة على التنافس إقليميا ودوليا.

سياسة وطنية لتشجيع ريادة الأعمال

من خطوات إعادة الهيكلة التي تبنتها السلطات السينغافورية سياسة تشجيع ريادة الأعمال، وذلك من أجل خلق المزيد من الفرص للشركات الناشئة المحلية والعالمية، إن العمل على خلق قاعدة اقتصادية قوية من الشركات الوطنية والشركات متعددة الجنسيات يعتبر إنجاز اقتصادي مهم للدولة يساعدها على تنويع اقتصادها و تطوير قوة دفعه في ظل التغيرات المتسارعة في الاقتصاد العالمي والتي يصعب التنبأ بها.

أدرك صناع القرار في سينغافورة بأن أفضل وسيلة لاستغلال واكتشاف الفرص هي دعم ريادة الأعمال من خلال منح المزيد من المزايا للشباب ودعم مشاريعهم وابتكاراتهم. في هذا الإطار ، قامت الحكومة بدعم الشباب من خلال برامج تكوينية وتدريبية لخريجي الجامعات والمعاهد من أجل مساعدتهم على تحويل أحلامهم إلى مشاريع حقيقة تخلق قيمة مضافة في الاقتصاد ، هذا الدعم الذي حظي به القطاع الخاص شمل خفض الروتين الحكومي ومنح حيز اقتصادي أكبر للمشاريع الخاصة وتنمية المؤسسات المحلية ذات الإمكانيات العالية.

وهكذا ساهم نشر ثقافة ريادة الأعمال المدعومة عبر برامج حكومية خاصة إلى تحفيز الشباب على الابتكارات وخلق شركات قوية وذات قدرة تنافسية كبيرة ، تجلت أولى نجاحات هذه السياسة في تسجيل عدد كبير من الشركات السنغافورية في فوربس العالمية وهي منصة تضم 200 شركة متميزة من مختلف دول العالم ويصل حجم أعمالها مليار دولار أمريكي.

مجالات نمو جديدة في قطاع الصناعة والخدمات

سعت سياسة إعادة الهيكلة التى تبنتها الحكومة السينغافورية إلى وضع استراتيجية معمقة من أجل تعزيز مجالات استثمارية جديدة في كل من قطاع الخدمات والتصنيع، وتعتبر هذه القطاعات هي المحرك الديناميكي للاقتصاد السنغافوري. قامت الاستراتيجية الجديدة بتحديث أساليب التصنيع ومراجعة سياسات الاستثمار في القطاع الصناعي ، كما أصدرت قرارات دعم فورية للابتكارات وتحديد ميزانية للبحث والتطوير.

يشكل قطاع الخدمات دورا تكامليا مع قطاع التصنيع حيث توجد في جزيرة جورونغ 70 شركة للبتروكيمتويات يشكل عمل هذه الشركات أرباحا كبيرة لقطاع الخدمات وذلك من خلال استيراد المواد الأولية من خارج الدولة وتوفير البينة التحتية للازمة لتسهيل خدمات الشحن البحري والنقل البرى وحتى الجوي.

كذلك يعتبر قطاع الخدمات من أهم روافد الدخل القومي ويزداد الطلب الإقليمي بشكل ملحوظ على خدمات التعليم والصحة والخدمات المالية والسياحية ولهذا قامت إعادة الهيكلة الجديدة في الاقتصاد السينغافوري على خلق مجالات استثمارية جديدة وتطوير الأساليب الضرورية للاستفادة القصوى من هذه المجالات.

 

تركت عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية التى اتبعتها سينغافورة آثار عميقة على مختلف قطاعات الدولة وعلى مؤشرات التنمية فيها، فتغيرت التركيبة السكانية بسبب تحسين سياسات توزيع الدخل ، وسياسات التوظيف وتقلصت الفجوة بين فئات المجتمع، وكذلك شملت الآثار الإيجابية لإعادة الهيكة  توسع المؤسسات وانتشارها وتطور الخدمات وتحسنها كما شمل التأثير حركة رؤوس الأموال، النفقات العامة، الاستثمارات وغيرها من مختلف مجالات الاقتصاد.