كلمة عجيبة قرأتها عن الصحابي العظيم سيدي معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وأرضاه، حين حذر من (زيغة الحكيم) أو الكلمة من (الضلال) تقع على لسان العالم.
حين قرأتها انبهرت لما فيها من توفيق، وظننت أنها تشكل دستورًا أخلاقيًا يضبط العلاقة بين الأستاذ والتلميذ، أظنـنا في حاجة ماسة لأن نفقهه، ونُـنَزله واقعًا في حياتنا، قال رضي الله تعالى عنه :”اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، التي يقال: ما هذه؟ ما أراد بهذه الكلمة؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع. وتلقّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورًا”.
ألا تشكل هذه الكلمات منهجًا مستنيرًا، وفّق الله إليه هذا الصحابي الفذ للتعامل مع العلماء : منهج النقد والتمييز، والوعي في القبول والرد؟!
وتعني هذه الكلمات – فيما فهمت – جملة أمور:
أولها: تلقي الحكمة من الحكيم، مع الانتباه إلى أنه ربما تورط – بقصد أو بغير قصد – في (زيغة) أي في شعبة من الضلال (في الرأي) اقتضاها التعجل في الفتوى، ولا أستبعد الهوى أو العصبية أو الكبر أو غير ذلك.
ثانيها: عدم الوقوع في العالم إذا زل، وعدم لَوْكِ زلته، والتحدث بها، ثم الإعراض عنه واجتنابه، فإنه – لكونه حكيمًا – لعله أن يراجع نفسه، وربما وفقه الله للعودة للصواب، ويومئذ يفرح المؤمنون.
ثالثها: تفريغ القلب لتلقي الحق المبين الذي لا يواريه دخن ولا دخل، والإقبال على الحق بمجرد سماعه. والحق واسع المداخل إلى القلوب، سريع الاستقرار فيها.
وهذا منهج أقسم بالله إننا محتاجون إلى إشاعته، والترويج له، والعمل به، تطهيرًا للصدور، ودفعًا للشرور، وحسمًا للفتن. فكم في ضعاف العقول من يتربص بكلمة يقولها العالم – صريحة أو محتملة – لينفخ فيها، ويضخمها، ويتخذها ذريعة للتطاول وإساءة الأدب و”شطب” كل حسنات الرجل، وتحويله إلى خائن أو فاسق أو عميل، وينسى في غمرة تجنيه كل حسنات الشيخ، ومواقفه، واجتهاداته، وكتبه، ومحاضراته، بكلمة واحدة.
وهذه بلية أكاد أقول إنها عامة كالإنفلونزا.
– فهذا شيخ جليل، معروف بجهاده الطويل (قارب التسعين أو تجاوزها) وبعلمه وورعه، يفتي بفتوى (مالية) تستثمرها صحيفة خضراء الدمن، لتؤرث اشتباكًا بينه وبين عالم آخر، ليخرج كل منهما مجروحًا. وليتضح أنهما استُخدما كبشي نطاح!
– وهذا محدث جليل يتحدث عن الذهب المحلق – وله في رأيه سلف على كل حال – فكأنما أتى كبيرة من الكبائر، ليوصف بصفات ليس أهونها ضيق العطن، والجهل، والجرأة على ما لا يُحسِن (!). ويتكلم عن شيء له علاقة بالصابرين في فلسطين المباركة (فك الله أسرها)؛ ولو أخطأ، فيوصف بأنه يهودي! ويكون مادة لحديث أعشار المتعلمين من المتحذلقة (وأهل الفتاكة)!
– ثالث تصطنع له مقالة لئيمة تساق ألفاظها بدهاء ومهارة، لتصوره الجريدة على أنه (فاضي) لمجالس الأنس وساعات الحظ و “الفرفشة”، ليبلغني أن المقالة صورت لتوزع هنا وهناك! وهات يا “تمريغ” في سمعته.
وبعض البشر حقود يختزن سوء أخلاقه مثل (الدب) ويذكر للعالم كلمة ربما صدرت منه قبل أربعين أو خمسين سنة، وهو في مقتبل عمره، ألم يُفتِ سنة ستين بكذا، ألم يصرح في صحيفة كذا، بأنه يتفرج على السينما، ويحب العزف على الدربكة؟!
ومما يدمي القلب أن يتورط في هذه الطفولة الخلقية كبار، قد أسنّوا وتعبوا من صبغ لحاهم الثغام، وهم أولى الناس بأن يعذروا ولا يهجروا، وينصحوا ولا يفضحوا، ويحسنوا ولا يسيؤوا.
والناظر في كتب الفقه خلال الألف سنة الماضية سيجد فيها -إن شاء- غرائب وشواذ من الفتاوى، ومع ذلك فلم تجر سنة السلف أن يتهموا أصحاب هذه الآراء بالتفاهة والبلاهة وقلة العقل، بل كانوا يصونون ألسنتهم ما وسعتهم الصيانة، ولو حدث أن أفلت لسان أحدهم فإنه سرعان ما يبادر بتصحيح أمره.
أتعرف الوزير الإمام العالم يحيى بن هبيرة الفقيه الحنبلي؟
حضر عنده فقيه مالكي فذكرت مسألة، فخالف فيها الجمع، وأصرَّ، فقال (الوزير!) -بعزة السلطان- أحِمَارٌ أنت؟ أما ترى الكل يخالفونك؟
فلما كان من الغد قال للجماعة: إنه جرى مني بالأمس في حق هذا الرجل ما لا يليق، فليقل لي كما قلت له، فما أنا إلا كأحدكم! فضج المجلس بالبكاء، واعتذر للفقيه الذي قال له: أنا أولى بالاعتذار.
فجعل ابن هبيرة يقول له: القصاصَ القصاصَ.
فلم يزل حتى قال أحد الجالسين، إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمُه، فقال الفقيه: نعمك عليّ كثيرة، فأي حكم بقي لي، قال: لا بدّ، قال: عليّ دين مائة دينار، فأعطاه مائتي دينار، وقال: مائة لإبراء ذمته، ومائة لإبراء ذمتي.
وكان العالم يعرف منزلة أخيه، ولا يبالي بما يبلغه عنه، يروي الحافظ الذهبي في “السير” قول أبي صالح الصراري:
بلغنا ونحن بصنعاء أن أصحابنا (يحيى بن معين و أحمد بن حنبل وغيرهما) تركوا حديث عبد الرزاق الصنعاني وكرهوه، فلم أزل في غم إلى وقت الحج، فخرجت إلى مكة فلقيت بها يحيى بن معين فقلت له:
يا أبا زكريا: بلغنا أنكم تركتم حديث عبد الرزاق ورغبتم عنه.
قال: يا أبا صالح مبالغًا: لو ارتد عبد الرزاق عن الإسلام ما تركنا حديثه!
ووقع أحدهم في الإمام عبد الرزاق – أيضًا – فقال هو والله كذاب، فقال الإمام العظيم الحافظ الذهبي: والله ما برّ في يمينه، ولبئس ما قال! يعمد إلى شيخ الإسلام ومحدث الوقت، ومن احتج به كل أرباب الصحاح – وإن كانت له أوهام مغمورة، وغيره أبرع بالحديث منه – فيرميه بالكذب!؟
وفي دفاعه عن داود بن علي الظاهري، بعد أن رد المسائل التي ينفرد بها داود من غرائب فتاواه قال: فداود بن علي بصيرٌ بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعةٌ لهم علم باهر، وذكاء قوي، فالكمال عزيز.
ثم يشير الذهبي رحمه الله إلى أصل (الأخذ والرد) من كل أحد غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول: ونحن نحكي قول ابن عباس – رضي الله عنهما – في المتعة، وفي الصرف، وفي إنكار العول، ونحكي قول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج وأشباه ذلك، ولا يجوز لأحد تقليدهم.
بل كان بعضهم يمسك عن رأيه الذي يعتقده، ويتبع رأي صاحبه عند الاقتضاء، تأدبًا مع قرينه، وحسمًا لمادة الخلاف:
كان أحمد وإسحق رحمهما الله ضيفين على الإمام عبد الرزاق، وخرجا معه لصلاة العيد، فلما انتهت الصلاة دعاهما إلى الغداء ثم قال لهما: رأيت اليوم منكما عجبًا: لم تكبّرًا، فقالا: يا أبا بكر: كنا ننتظر هل تكبر فنكبر، فلما رأيناك لم تكبر أمسكنا.
قال: وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر.