في بيئة عريقة ومن أسرة عُرفت بالعلم والثقافة والفقه وُلِدَ ابن رشد الفيلسوف (القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد) سنة 520 هـ ـ 1126م في قرطبة، فتربى في أحضان والده الذي كان من كبار القضاة في الأندلس، وفي رحاب سيرة جده الذي كان قاضي القضاة بالأندلس أيضا، ما أدى إلى نبوغه وتفوقه حتى بزَّ أقرانه في شتى العلوم.
فجدُّه الذي عُرف مثله بـ”ابن رشد” كان عالما وفقيها على مذهب الإمام مالك، وقد تقلد القضاء في قرطبة، وتوفي في العام الذي ولد فيه حفيده ابن رشد، وكذلك كان أبوه أحمد قاضيا بارعا في الفقه والعلم.
في مثل هذه البيئة نشأ ابن رشد الفقيه الفيلسوف، فاتجه منذ صغره إلى طلب العلم، فدرس الفقه وحفظ موطأ الإمام مالك، وروى عنه الحديث، وحصل على إجازة في ذلك من والده.
كما درس علم الكلام من خلال مذهب الأشاعرة، ودرس الطب والرياضيات، والمنطق والفلسفة التي برع فيها وتفوق ودافع عنها ضد الخصوم، ودعا إلى دراستها إلى أن توفي في مراكش في شهر ديسمبر من سنة 595 هـ ـ 1198م، ليدفن في قرطبة.
الشارح الأكبر
درس ابن رشد على أبرز علماء عصره من أمثال: أبي القاسم بن بشكوال، أبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سحنون، وأبي جعفر هارون.
كما تولى منصب “قاضي القضاة” بقرطبة، فلقب بـ”قاضي قرطبة”، كما كان من شُرَّاح المذهب المالكي، ولقب بـ”الشارح الأكبر” نظرا لقيامه بشرح كتب أرسطو، ولخص بعض مؤلفات أفلاطون مثل الجمهورية وغيرها.
تفوق ابن رشد في شتى المجالات والعلوم التي ولج بابها، فكانت له شهرته، ومكانته العالية التي نال بسببها إعجاب الكثيرين، ويبدو أن العلاقة بين العلماء والأمراء أمر حتمي، خاصة مع مشاهير العلماء، مثل ابن رشد الفقيه الفيلسوف الشهير.
لقد بدأت شهرة ابن رشد في ظل دولة الموحدين، وبالتحديد عندما استدعاه أول ملوك هذه الدولة “عبد المؤمن بن علي” إلى مراكش سنة (548 هـ)؛ وذلك ليسترشد برأيه في إنشاء عدد من المدارس هناك على غرار مدارس الأندلس، وعندما قابله ابن رشد أعجب به الأمير أيما إعجاب، وعظمت مكانة ابن رشد عنده، وكذلك عظمت مكانته في عصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
وكان لعلاقة الصداقة التي كانت بين ابن رشد وابن طفيل أثر في تعريف ابن رشد بالخليفة الذي كان يحترم العلم والعلماء.
وكان الخليفة قد سأل ابن رشد عن رأي الفلاسفة في السماء أقديمة هي أم حادثة؟ فامتنع ابن رشد عن الجواب في البداية، ثم أجابه بعد ذلك فأعجب به الخليفة أشد الإعجاب، وأثنى عليه وأمر له بهدايا وحُلَّة سنية، ثم كلفه الخليفة بعد ذلك بشرح كتب أرسطو فاستجاب ابن رشد، وقام بهذه المهمة على خير وجه؛ وذلك لجودة ذهنه وبراعته وحبه للفلسفة.
ثم مات الخليفة “أبو يعقوب” سنة 580 هـ وخلفه ابنه “أبو يوسف يعقوب” الملقب بالمنصور، وتوطدت العلاقة بين هذا الأخير وابن رشد، وعظمت مكانته عنده، وقربه إليه بطريقة أقلقت ابن رشد نفسه، ثم بعد ذلك انقلب الخليفة عليه وأمر بنفيه وإحراق كتبه.
ابن رشد في محنته
لقد نال ابن رشد مكانة عالية عند الخليفة “أبي يوسف” الذي لقب بالمنصور، ورفع هذا الخليفة منزلته إلى درجة عالية بالقدر الذي جعله يقلق لعلمه أن كل ذي نعمة محسود، وأن أعداءه الحاقدين عليه لن يتركوه هكذا، فوقع ما توقعه ابن رشد بحدوث الفتنة عندما قام بعض الفقهاء والحاقدين عليه فأوقعوا بينهما، وهو ما أزرى به وجعل الخليفة يسومه سوء العذاب، ويعريه من كل نعمة كان قد أعطاه إياها، فنفاه إلى بلدة معظم سكانها من اليهود إمعانًا في العقاب والتعذيب.
ولقد اختلف الباحثون والمؤرخون في أسباب هذه المحنة التي حلت بابن رشد، وأرجعوها لأسباب ثلاثة: سياسية مردها إلى الخليفة ذاته الذي أراد أن يجمع قلوب الرعية حوله، وأسباب شخصية تتعلق بالخليفة ذاته، وهي أن ابن رشد عندما شرح كتاب “الحيوان” لأرسطو “ذكر الزرافة، وقال إنه رآها عند ملك البربر، ومثل ذلك لم يَرُقْ للخليفة الذي كان يسمي نفسه ويسميه من حوله أمير المؤمنين”، وإن كان ابن رشد قد رد على هذا، وقال إنه أملاها ملك البربن، فصُحِّفت إلى البربر. وهناك أسباب ثقافية مردها إلى خصومة الفقهاء والمتكلمين، والتي أفرزت حقدا وكيدا من الفقهاء، والذين كانوا ينقمون عليه بسبب مكانته من الخليفة الذي كرمه وغمره بعطفه ورفع منزلته؛ وهو ما دفعهم إلى الوقيعة به عند الخليفة بتحريف بعض آرائه، ودس آراء أخرى عليه، واتهامه بالكفر والزندقة؛ وذلك لأنهم “رغبوا في الاستيلاء على الجو الفكري والنظر إلى علوم الأوائل على أنها علوم مهجورة لا يصح الاشتغال بها”.
وهكذا وقعت المحنة لابن رشد التي ظل يعاني من آثارها إلى أن عفا عنه الخليفة وأحسن إليه، ولكن بعد ذلك بقليل توفي ابن رشد عليه رحمة الله (سنة 595 هـ).
التوفيق بين الشريعة والفلسفة
قضايا مهمة عمل عليها “ابن رشد” كان من ضمنها مسألة التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وهي المسألة التي احتلت حيزًا كبيرًا في اهتماماته ودفعته للتوفيق بينهما (أي الشريعة والفلسفة) وذلك لأسباب كثيرة من ضمنها أنه فيلسوف متدين، وذلك ما دفعه إلى أن يحرص على إظهار التوافق بين الدين والفلسفة، كما أنه تميز عمن سبقوه؛ لأنه كان فقيها وقاضيا، وكان عليه أن يبين للناس أن انشغاله بالفلسفة لا يتعارض مع هذه الوظيفة الدينية التي يتقلدها، والتي يجب عليه بمقتضاها أن يكون حارسا للشريعة عاملا على تطبيق أحكامها، إضافة إلى مجيء ابن رشد بعد حملة الغزالي وهجومه الضاري على الفلسفة والفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”، وذكر الغزالي أن الفلسفة أدت بكثير من الناس إلى الكفر والإلحاد؛ فكان لزاما على الفقيه الفيلسوف أن يرد على هذا الزعم مبينا خطأه من صوابه.
تضاعف ذلك في ظل الظروف التي عاشها ابن رشد، وهي ظروف اقتضت أن يتصدى لهذه القضية بالذات نظرا لأن المذهب المالكي كان سائدا في الأندلس، وأن فقهاء المالكية لا يتحمسون للفلسفة، بل كثير منهم كانوا يعادونها، ويحرمون الاشتغال بها.
أما المبادئ التي اعتمد عليها ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة فكانت: أولا أن الدين يوجب التفلسف، وثانيا أن الشرع فيه ظاهر وباطن، وثالثا أن التأويل ضروري للتوفيق بين الشريعة والفلسفة أو بين الدين والفلسفة.
أولا: الدين يوجب التفلسف
توصل ابن رشد إلى “أن الدين أو الشرع يوجب النظر العقلي أو الفلسفي، كما يوجب استعمال البرهان المنطقي لمعرفة الله تعالى وموجوداته”.
ولقد ذكر ابن رشد آيات كثيرة من القرآن الكريم تدعو إلى التفكر والتدبر، منها على سبيل المثال: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”، “أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء”، وصرح ابن رشد بأن الاعتبار ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس العقلي أو الشرعي والعقلي معا.
ثم دعا ابن رشد إلى مبدأ القياس، وصرح بأنه لا استغناء عنه، وعده ضروريًّا، وقال بأنه لا مانع من الاستعانة بما قاله الفلاسفة السابقون حتى ولو كانوا على غير ملتنا، ورد على من قالوا بأن الفلسفة تؤدي إلى الكفر بأن السبب ليس هو الفلسفة، ولكن من يتناول الفلسفة، وضرب مثلا على ذلك بمن يموت بسبب شرقة الماء، فليس الماء هو الذي سبب الوفاة، ولكن حدوث أمر عارض عند شربه هو الذي أدى إلى الوفاة.
ثانيا: الدين أو الشرع له ظاهر وباطن
يذهب ابن رشد إلى أن نصوص الشرع لها معنى جلي قريب وواضح، وأيضا لها معنى خفي، أو بعبارة أخرى لها معنى ظاهر ومعنى باطن.
ويصرح ابن رشد بأن الله تعالى راعى اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم فجعل للشرع ظاهرا وباطنا، فعلى العامة أن يقبلوا ظاهر النصوص دون جدل أو تأويل؛ لأنهم ليسوا أهلا لذلك، وإنما التأويل هو من شأن البرهانيين وحدهم لأنهم أهل لذلك، ولا ينبغي أن تذاع التأويلات على العامة، بل يجب أن تكون في وسط الخاصة فقط لمناسبتها عقولهم.
ثالثا: ضرورة التأويل
ذهب ابن رشد إلى أن التأويل ضروري لصالح الدين والفلسفة، فإذا كان الدين يوجب النظر العقلي أو الفلسفي، فإنه من الواجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص.
ولقد صرح ابن رشد بأن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فإن هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل.
ولقد قسم “ابن رشد” المعاني من حيث التأويل وعدمه لأقسام أربعة هي: ما لا يجوز تأويله لموافقة ظاهره باطنه، وما لا يجوز أن يؤوله إلا الراسخون في العلم، وذلك عندما يكون المعنى الظاهر ليس مرادا من النص، وما لا بد من تأويله وإظهار هذا التأويل للجميع، وذلك إذا كان المعنى الظاهر رمزا لمعنى خفي، وما يؤوله العلماء لأنفسهم، وذلك إذا كان ظاهر المعنى رمزًا ولا يُعرف مدلوله إلا بعلم بعيد، مثل الحديث الشريف “الحجر يمين الله في الأرض” يؤوله العلماء لأنفسهم، ويقال للعامة إنه من المتشابه.
ابن رشد والغزالي
القضية الثانية التي كتب فيها ابن رشد كانت دفاعه عن الفلسفة والتنظير لها بعد أن هاجم أبو حامد الغزالي الفلسفة والفلاسفة هجوما ضاريا في بعض كتبه، وبخاصة كتابه المشهور “تهافت الفلاسفة”، ولقد ذكر الغزالي “أن بعض معاصريه قد أعرضوا عن العبادات الدينية، واستهانوا بحدود الشرع، وأهملوا شعائره، بل خرجوا بالكلية عن العقائد الدينية دون أن يكون لديهم برهان يقيني أو بحث نظري، وإنما كان مدار كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، وأمثالهم.
ومن ثم ألَّف الغزالي كتابه “تهافت الفلاسفة”، وهاجم فيه الفلاسفة اليونانيين وكذلك من تبعهم من فلاسفة المسلمين، خاصة الفارابي وابن سينا، وفي كتابه خالف الغزالي الفلاسفة في عشرين مسألة، وحكم عليهم بالبدعة في سبع عشرة مسألة، وحكم عليهم بالكفر في ثلاث مسائل، وهي: قولهم بقدم العالم، وقولهم بأن الله لا يعلم الأشياء الجزئية، وإنكارهم بعث الأجساد وحشرها في الآخرة اكتفاء بالبعث الروحاني وحده.
ويرى الإمام أبو حامد الغزالي أن هذه المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام مطلقا، ومن يعتقد في هذه الآراء فإنه يعد مكذبا لأنبياء الله تعالى، ويكون بذلك خارجا عن العقيدة الإسلامية.
والمؤكد أن الإمام الغزالي بآرائه هذه -برغم أنه كان يهاجم الفلسفة والفلاسفة- قد أذكى الفكر الفلسفي وذلك لصدى الآراء الهائل؛ ولتبوئه مكانا عاليا بين العلماء والفقهاء، وهو ما أدى إلى دراسة آرائه باهتمام، وواجه الفلاسفة بعد ذلك -خاصة ابن رشد- آراءه بالنقد والتمحيص.
وهناك من الباحثين من قال بأن هجوم الغزالي على الفلسفة كان ضربة قاضية لها، ولكن هذا الكلام ليس صحيحا على إطلاقه، فلقد تطور الفكر الفلسفي بعد الغزالي، ولمع الكثير من فلاسفة الإسلام، بل إن فكر الغزالي نفسه يعد فلسفة وكان سببا في تطور الفكر الفلسفي سواء في الشرق أو في الغرب.
ففي الغرب اطلع ديكارت -أحد فلاسفة الغرب المشهورين- على كتب الغزالي وتأثر بها وأثر ذلك بالطبع على فكره ومؤلفاته.
وفي الشرق درس كثير من الفلاسفة فكر الإمام الغزالي، وتأثروا به وأيدوه في بعض آرائه وانتقدوه في البعض الآخر، وأشهر هؤلاء فيلسوفنا “ابن رشد” الذي استطاع أن يدافع عن الفلسفة، وصحح كثيرا من المفاهيم الخاطئة، وأزال اللبس عن كثير من المسائل التي كانت تفهم خطأ، وصرح بأنه لا خوف على الدين من الفلسفة، وأورد كثيرا من آيات القرآن التي دعت إلى التفكر والتدبر في الكون وما فيه من مخلوقات.
ومن ثمرة حملة الإمام الغزالي على الفلسفة وجدنا مؤلف ابن رشد الشهير “تهافت التهافت” الذي ألفه ردا على “تهافت الفلاسفة” للغزالي.
لم يشأ ابن رشد أن يسمي مؤلفه “تهافت الغزالي”؛ لأن ذلك يعني أن فكر الغزالي متهافت، فسماه “تهافت التهافت” ليثبت بذلك ما ورد في كتاب الإمام الغزالي “تهافت الفلاسفة” من تناقض وتعارض، فابن رشد إذن هاجم ما في الكتاب من آراء – ووافق الغزالي في بعض الآراء – ولم يهاجم فكر المؤلف على عمومه.
ولقد كان الدافع الرئيسي الذي دفع ابن رشد إلى تأليف هذا الكتاب هو ما أحدثه كتاب الغزالي من ضجة وتعارض في أذهان الناس، فقد جعلهم ينقسمون قسمين: فريق يهاجم الفلسفة، وفريق آخر يناصر الفلسفة ويعمل على تأويل الشرع لكي يتفق مع العقل.
كما أن طابع الحياة الفكرية في الأندلس الذي كان يتسم بالحذر من الفلسفة وهو ما قاد إلى تعرض الفلاسفة للاضطهاد، واتهامهم بالزندقة من قبل أئمة الشريعة، كما كانت هناك مراسيم تحذر الناس من الفلاسفة لأنهم أشبه بالسموم السارية في الأبدان، فاضطر الفلاسفة في بعض الأحيان إلى عدم إظهار علومهم خشية الاضطهاد والانتقاد والتعذيب.
لهذا كله كان يتوجب على أبي الوليد ابن رشد أن يهتم بقضية العلاقة بين الدين والفلسفة، ولقد نهض ابن رشد بهذه المهمة فقام بها خير قيام، وهو ما جعل مؤرخي الفلسفة ينظرون إلى ما قدمه حولها بأنه واحد من أكثر جهوده أصالة.
أهم مؤلفاته
ألف “ابن رشد” مجموعة كبيرة من المؤلفات كان من ضمنها: كتاب “التحصيل” وفيه جمع اختلاف أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. وكتاب “المقدمات”، وكتاب “نهاية المجتهد وبداية المقتصد”، وهما كتابان في الفقه. وكتاب “الكليات” وهو كتاب في الطب، وكتاب “الحيوان”، وكتاب “الضروري في المنطق”، وكتاب “تهافت التهافت” ردًّا على كتاب “تهافت الفلاسفة” للغزالي، وكتاب “منهاج الأدلة في عقائد الملة” في علم الأصول، وكتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.