عرفت الأمة الإسلامية العديد من العلماء البارزين الذين برعوا في علوم الدين، وفقهوا في الشريعة وأجادوا، ومن هؤلاء العلماء الأعلام هو العالم الجليل ابن قيم الجوزية، الذي يعتبر من العلماء النادرين القلائل الذين عرفهم التاريخ الإسلامي. فقد كان عالما فذا رزقه الله فكرا و علما لا مثيل له، ولا غرو في ذلك فقد كان ابن القيّم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية.
ابن قيّم الجوزية هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللِها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة. كان كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كمن بليت بهم الأمة ممن ينتسب إلى العلم زورا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ، فلقد كان ابن القيم رحمه الله ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر.
ويُعرف ابن القيّم بغزارة علمه وسعة اطّلاعه حيث برع رحمه الله تعالى في علوم عديدة من أبرزها علوم الحديث والفِقه والتفسير والسيرة، كما أنه أجاد العربية وفنونها فكان هذا بابا لسعة فهمه لعلوم الشريعة من خلال فهم كلام الله تعالى وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام.
من هو الإمام ابن القيّم؟
هو شمس الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب بن سعد بن حزيز الزرعى الدمشقى، ولد في السابع من صفر 691هـ – 1292م في مدينة دمشق، وتوفي في الثالث عشر من رجب 751هـ – 1349م.
عاش حياته في طاعة الله وطلب العلم، فقد اشتهر بالورع والتقوى وشدّة عبادته، وخصوصا في الصلاة التي هي ميزان المؤمن الحقّ، وكذلك تعرّض رحمه الله تعالى للعديد من الابتلاءات والمحن من أبرزها السجن الذي قضى جزءا من حياته فيه، بسبب بعض الفتاوى حيث إنّه سجن مع شيخه ابن تيمية في سِجن القلعة، ولكن في حجرة أخرى وخرج من السجن عقب وفاة ابن تيمية.
سمع ابن القيّم على التقى سليمان وأبى بكر بن عبد الدائم وغيرهما، وقرأ العربية على ابن أبى الفتح والمجد التونسى. وقرأ الفقه على المجد الحرانى وابن تيمية. وقرأ فى الأصول على ابن تيمية والصفى الهندى وكان جرىء اللسان واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف وقد غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شىء من أقواله، بل كان ينتصر له فى جميع ذلك وهو الذى هذب كتبه ونشر علمه، وكان له حظ عند الأمراء المصريين، وقد اعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات ابن تيمية أفرج عنه.
سبب تسميته بابن القيّم
سبب تسميته بابن قيم الجوزية أو ابن القيم: كان والده رحمه الله قَيِّماً على “المدرسة الجوزية” بدمشق، والقيّم هو الناظر أو الوصي، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا، وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق. فكان أبوه قيم الجوزية فأطلق عليه ابن قيم الجوزية، والبعض يقول ابن القيم وهو الأكثر لدي المتأخرين.
والجدير بالذكر أن ابن القيم أو ابن قيم الجوزية ليس هو ابن الجوزي، وأن ابن الجوزي سبق ابن القيم بحوالي مائة وثمانين عاما، وقد ولد ابن الجوزي في 510ه/1116م وهو: أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن، ومن أشهر كتبه: (تلبيس إبليس، صيد الخاطر، صفوة الصفوة).
شيوخه وتلاميذه
تلقى الإمام ابن القيم رحمهُ الله تعالى العلوم على عدد من الشيوخ والعلماء الأجلّاء ولعلّ من أبرزهم وأوثقهم صلة بابن القيّم هو شيخه الإمام تقيّ الدين ابن تيميّة، والمعروف بشيخ الإسلام، حيث لازمَ ابن قيّم الجوزيّة شيخ الإسلام ابن تيميّة وسمعَ منه العلم مُشافهةً ولازمه حتّى وفاة شيخه ابن تيميّة، ومِن هؤلاء العلماء الأعلام أيضاَ الذين تلقّى ابن القيّم العلوم على أيديهِم الشهاب النابلسيّ، وابن الشيرازي وغيرهِم. ولابن القيّم العديد من التلاميذ الكِبار كذلك، من أشهرهم هو الحافظ ابن رجب الحنبلي الذي اشتهر بحفظه وروايته لحديث رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم.
شرع ابن القيم في طلب العلم في سن مبكرة وعلى وجه التحديد في السابعة من عمره كما يذكر المؤرّخون. سمع من عدد كبير من الشيوخ، منهم والده أبو بكر بن أيوب فأخذ عنه الفرائض، وأخذ عن ابن عبد الدائم، وعن أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية أخذ التفسير والحديث والفقه والفرائض والأصلَين (أصول الدين وأصول الفقه)، وعلم الكلام، وقد لازم ابن تيمية سبعة عشر عاما تقريبا.
وسمع من الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمن النابلسي في سنٍ جدّ مبكرة، في السادسة أو السابعة من عمره. وعن ابن الشيرازي والمجد الحراني وأخذ عنهما الفقه وقرأ عليه مختصر أبي القاسم الخرقي وكتاب “المقنع” لابن قدامة وأخذ عنه الأصول وقرأ عليه أكثر “الروضة” لابن قدامة. وسمع من إسماعيل أبي الفداء القيسي وأيوب زين الدين الكحال والبهاء بن عساكر..وأخذ الفقه عن شرف الدين بن تيمية وفاطمة أم محمد بنت الشيخ إبراهيم البطائحي وقرأ العربية على مجد الدين التونسي وبدر الدين بن جماعة وأخذ العربية والفقه عن محمد شمس الدين البعلبكي فقرأ عليه “الملخص” لأبي البقاء و”الجرجانية” و”ألفية ابن مالك“.. وغيرهم كثيرون.
ويشير الحافظ ابن رجب إلى أخذ الكثير العلم من ابن القيم وتتلمذهم على يديه، وبين تأثيره في عصره، فيقول: “وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه، وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاءُ يعظمونهُ ويتتلمذون له.” ومن أشهر تلاميذه:
ابنه برهان الدين إبراهيم، ابنه شرف الدين وجمال الدين عبد الله، الحافظ ابن رجب الحنبلي، ابن عبد الهادي، محمد بن عبد القادر بن عثمان النابلسي الحنبلي، محمد بن محمد بن محمد بن الخضر الغزي الشافعي، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، محمد بن محمد القرشي المقري التلمساني، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، زين الدين علي بن الحسين بن علي الكناني الحنبلي.
أبرز مؤلفاته
لعل أهم ما يميز ابن القيم هو التراث العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية، فلقد رزقه الله عز ذهنا سيالا وقلما دفاقا وبركة في اوقاته التي كانت عامرة كلها بالنافع والصالح لنفسه وللأمة كلها. ورغم تبحره في علوم كثيرة واتليفه في شتى ابواب العلم خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه هي كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق وأدواء النفوس ومقامات الإيمان. لقد اشتهر الإمام ابن القيّم الجوزية بكثرة مؤلفاته وتنوّعها، فقد كتب في الحديث والسيرة النبوية وكتب في رقائق القلوب، وما يتعلّق بالعبادات القلبيّة والعقيدة، وتطرّق كذلك للطب مستخلصا الحكمة من كلام الله تعالى وكلام نبيّه عليه الصلاةُ والسلام، ومن أهم هذه الكتب نذكر ما يلي:
- زاد المعاد في هدي خير العباد
- مدارج السالكين
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
- القضاء والقدر
- عدّة الصابرين
- إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين
- الروح
- الداء والدواء
- تحفة الودود في أحكام المولود
- الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم
- إعلام الموقعين
- بدائع الفوائد
- طريق السعادتين وشرح منازل السائرين
- جلاء الأفهام فى الصلاة والسلام على خير الأنام
- مفتاح دار السعادة والروح
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
ومما دل أيضا على سعة علمه وشغفه بالتأليف والكتابة أنه كان رحمه الله دائرة معارف تمشي على رجلين فقد ألف بعض المؤلفات وهو في سفره، بعيدا عن داره ومكتبته وهي:
- روضة المحبين ونزهة المشتاقين
- مفتاح دار السعادة ومنشور ألوية العلم والإرادة
- بدائع الفوائد
- تهذيب سنن أبي داود
- الفروسية
قالو عن ابن القيم
يقول عنه تلميذه ابن كثير: “كان حسن القراءة والخلق، كثير التودد، لا يحسد أحدا ولا يؤذيه ولا يستعيبه، ولايحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظر في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة”. وكان يعتز بصحبته ومحبته فقال: “وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه”. وقال ابن كثير: “لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا، ويمد ركوعها وسجودها”.
قال ابن رجب: “كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ”.
وقال ابن حجر: “وكان إذا صلي الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالي النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي”. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف.
ويقول تلميذه الذهبي: “عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين”.
وقال السيوطي: “وقد صنف وناظر واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية.
وقال الشوكاني: “برع في شتي العلوم وفاق الأقران واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف”.
ابن القيم وابن تيمية
عاش ابن قيم الجوزية مقلدا لابن تيمية ومحافظا على مسلكه فى الدين والعلم، ينال من علماء عصره وينالون منه، وقد ذكره الذهبى فى المختص فقال: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم ولكنه معجب برأيه جرىء على الأمور، وكانت مدة ملازمته لابن تيمية منذ عاد من مصر سنة 712 هـ إلى أن مات. وقال فيه ابن كثير: كان ملازما للاشتعال ليلا ونهارا، كثير الصلاة والتلاوة، حسن الخلق، كثير التودد. لا يحسد ولا يحقد. ثم قال: لا أعرف فى زماننا من أهل العلم أكثر عبادة منه، وكان يطيل الصلاة جدا، ويمد ركوعها وسجودها.
وكان إلى هذا مغرما بجمع الكتب، فحصل منها ما لا يحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم. وكتبه كلها كما قال ابن حجر مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعانى الإيضاح جهده فيسهب جدا، ومعظمها من كلام شيخه ابن تيمية بتصرف فى ذلك.
ويقول الشيخ عبد المتعال الصعيدى فى كتابه المجددون “يرى كثيرون أن ابن قيم الجوزية لم يأت بجديد غير ما أتى به أستاذه ابن تيمية قبله، لأنه كان لا يخرج عن شىء من أقواله، وكانت كتبه معظمها من كلامه، وليس له فيها إلا تصرف فى الألفاظ وتفنن فى العبارة”.
وكان لابن تيمية تأثير كبير على ابن القيم، وله أثر واضح في ثقافته وتكوين مذهبه، فأخذ عنه علما جمّا واتسع مذهبه ونصره، وهذب كتبه، وقد كانت مدة ملازمته له سبعة عشر عاما. يقول ابن حجر العسقلاني في ذلك: “وهو الذي هذّب كتبه – أي كُتب ابن تيمية – ونشر علمه، وكان ينتصر له في أغلب أقواله”.