الاستثمار في الإنسان أساس أي تنمية اقتصادية، ومحور أي نهضة مجتمعية، وركيزة أي تطور ونماء، وقد شهدت الدول التي ركزت على بناء الإنسان والاستثمار فيه تطورا سريعا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب بل أيضا على مستوى تطور الوعي الوطني وعقليات الناس وتعاطيهم مع مختلف تحديات الحياة، فكانت الإمتيازات والنجاحات الاقتصادية التى حققتها هذه المجتمعات نتيجة طبيعية لبناء الإنسان وتكوينه ليكون أساسا للنهضة الجديدة ومحركا لها.
وما يميز نهضة المجتمعات التى ركزت على بناء الإنسان أنها نهضة علمية ذاتية تستمد قوتها من الإنسان، وليست نهضة اسمنتية تعتمد على استيراد تجارب الآخرين بدون وعي. هناك تجارب عديدة ملهمة في مجال الاستثمار في الإنسان، وقد حققت هذه التجارب نجاحات باهرة، وقفزت بالدول التى انتهجتها إلى مصاف الأمم الصناعية المتقدمة، سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على تجارب ناجحة في مجال الاستثمار في الإنسان.
الاستثمار في التعليم (التجربة التركية)
تعتبر تركيا من الدول الحديثة التى عرفت تطورات سريعة في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، وركزت تجربة النهضة التركية على بناء الإنسان والاستثمار فيه من خلال دعم مشاريع التعليم وتطوير وسائله وآلياته، حيث إن التعليم هو المفتاح الأساسي لأي تطور ونمو اقتصادي.
ركزت تركيا على تطوير برامجها التعليمية من خلال دعم حكومي كبير للجامعات ومراكز البحوث التابعة لها، وتسعى تركيا من خلال هذ الاستثمار إلى بناء أجيالها القادمة وتكوينهم كي يصبحوا قادرين على المساهمة في عملية التنمية. وتتمتع تركيا بفرصة كبيرة في هذا المجال حيث يوجد ما يقارب 20 مليون تركي تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 24 سنة، وتعتبر هذه الثروة البشرية فرصة كبيرة لتركيا من أجل ترسيخ نهضتها الاقتصادية من خلال الاستثمار في هذا الكم من الشباب وتكوينه وتطويره ليكون أحد محركات الاقتصاد التركي مستقبلا ، ولدعم جهودها في هذا المجال قامت الحكومة التركية بزيادة حجم الإنفاق على التعليم في ميزاينة 2018 ليصل هذا الرقم 37 مليار دولار، وليشكل بذلك أكبر بند في النفقات الحكومية.
تشمل خطة الحكومة التركية أيضا دعم وتطوير المراكز التقنية والتدريبية وجعلها قادرة على استيعاب عدد أكبر من الشباب وتكوينهم حسب احتياجات السوق. وبهذا استطاعت تركيا أن تجعل من الاستثمار في الإنسان أساس نهضتها التنموية التى جعلتها ضمن الدول التى حققت نموا سريعا وقويا خلال السنوات الأخيرة.
بناء سلوك الإنسان (التجربة السينغافورية)
سينغافورة دولة صغيرة مرمية في خليج شبه جزيرة مالاوي لا تتعدى مساحتها 719.9كم² استطاعت هذه الدولة عبر عقود خمس بناء امبراطورية مالية وصناعية جعلت منها وجهة للاستثمارات الدولية وسوقا رائجة لصناعة الالكترونيات.
ركزت سينغافورة خلال سنوات استقلالها الأولى على بناء الإنسان، وذلك من خلال التقويم السلوكي للمواطن وتهيئته لتأدية دوره المنوط به في عملية التنمية، حيث ركزت فكرة مؤسس سنغافورة “لي كوان يو” على اتباع نهج جديد في التنمية، فسنغافورة لا تمتلك موارد طبيعية ولا أراضي زراعية شاسعة، لذلك كان بناء الإنسان السلوكي وزرع قيم الجد والإخلاص والكفاءة فيه هي أساس ومعتمد ثورة التنمية التى عرفتها البلاد.
وهكذا عملت الحكومة على غرس القيم الوطنية والانتماء للأرض، وقد ساهم نشر هذه القيم في المجتمع السينغافوري المتعدد العرقيات إلى خلق نوع من التعايش والانسجام بين مختلف العرقيات والثقافات، وشكل هذا الانسجام أساسا قويا وركيزة متينة لعملية النهوض. بعد نجاح سينغافورة في بناء مجتمع متسامح منسجم مع ذاته وملتزم بحقوقه وواجباته جاءت المرحلة الثانية التي تمثلت في خلق ثورة صناعية من خلال تشييد المصانع ودعمها من القطاع الحكومي.
استطاعت سينغافورة تجنب تداعيات الفجوة بين التطور الاقتصادي السريع وبين سلوكيات المجتمع حيث قلصت من هذه الفجوة من خلال توعية وتطوير الإنسان ثقافيا وقيميا كي يكون قادرا على مسايرة التطورات الجديدة.
الاستثمار في الإنسان يرسم مستقبل البلدان
في ندوة أقيمت 21 أبريل في مبنى مجموعة البنك الدولي في واشنطن تحت عنوان: ”بناء رأس المال البشري مشروع من أجل العالم” حاضر فيها كل من رئيس مجموعة البنك الدولي جيم يونغ كيم، بيل غيتس رئيس مؤسسة بيل، ميليندا غيتس ووزيرة الدولة للتنمية الدولية بيني مورداونت، وعالج المتدخلون إشكاليات التنمية وركزوا على ضرورة الاستثمار في الإنسان كنعصر فعال وركيزة من ركائز التنمية.
ركزت توصيات المؤتمر على ضرورة وضع الاستثمار في الإنسان ضمن الاستراتيجيات الوطنية والدولية حيث يعتبر هذا الاستثمار فرصة لخلق فرص تعليمية جديدة، وخلق فرص عمل من خلال التركيز على تدريب العنصر البشري وتكوينه لكسب مهارات أكبر تمنحه المساهمة في تحقيق أهداف التنمية في بلده.
صناعة الإنسان أصبحت أكثر تأثيرا ومردودية من الثروات الطبيعية التى تزخر بها بعض البلدان، واستطاعت دول عديدة من حولنا أن تحول عامل الندرة في مجال الثروات الطبيعية إلى عامل نجاح من خلال التركيز على رأس المال البشري وصناعة عقول مبدعة ساهمت في ابتكارات جديدة، كانت تأثيراتها كبيرة في المجال الصناعي، فمثلا دول مثل اليابان وسنغافورة وتايوان وغيرها لا تمتلك ثروات طبيعية، ومع ذلك يفوقه دخلها القومي يساوي دخل الدول التى تمتلك ثورات طبيعية كبيرة، حيث أن نجاح هذه الدول في بناء العنصر البشري بشكل جيد مكنها من التغطية على غياب عنصر الثروات الطبيعية.