ثمة مشكلة في تعريف المتدين(لكل الأديان)، فهل من يؤمن بوجود ” الله” لكنه لا يمارس الشعائر الدينية يعد مؤمنا؟ او من يؤمن بوجود قوة ” ما” خلف الكون لكنه لا يؤمن بالأديان ، وهل اللاأدريون ( الغنوصيون) الذين ليس لهم اجابة هم متدينون ام غير متدينين لأنهم لا ينكرون الاديان ولا يقرونها؟
يمكن ان نقسم العالم في موقفه من الدين وفقا لسُلّم ديني يبدأ من المتدين الملتزم بشعائر دينه وينتهي بالمنكر تماما لوجود الاله وبالتالي لا يمارس الشعائر الدينية، وبقية المجتمع يتدرج بين هاتين المنزلتين.
فإذا رصدنا استطلاعات الرأي العام الدولية ( وهي بالعشرات) او الدراسات الاكاديمية( من العلماء او من الأطروحات الجامعية) او تقارير مراكز أبحاث أو غيرها من الجهات ، فإن تحديد مستقبل الدين يكون على اساس نقطتين هما:
أ-اتجاهات الرأي العام : هل تسير توجهات الأفراد نحو أي من درجتي السُلم الذي اشرنا له، فهل الزيادة هي نحو الانكار او الاعتراف؟
ب- رصد المؤشرات الخاصة مثل العمر او مستوى التعليم او الدخل أو الميدان العلمي(التخصص) او شرائح العلماء (العلوم الطبيعية او الاجتماعية والانسانية).
القياس الكمي:
ماذا تقول النتائج خلال الفترة من عام 1990(انهيار الشيوعية كأحد القوى المناهضة بقوة للدين) الى عام 2018 ، أي خلال 28 سنة؟
أولا:
ما زالت نسبة المتدينين( أي الذين يؤمنوا بوجود الله بين كل سكان العالم ) هي الاعلى بنسبة 63% يقابلهم 11% يعتبرون انفسهم ملحدين(لا يؤمن بوجود الله) بينما يتأرجح الباقون بين هاتين المجموعتين، لكن مقارنة هذه النتيجة بنتائج الاستطلاعات خلال الفترة من 1950 الى 1990 تشير الى ان نسبة التدين في العالم تراجع حوالي 9% كمعدل لنتائج كافة الاستطلاعات التي تم الاطلاع عليها او الدراسات الكمية ( 19 استطلاعا لجهات مختلفة طيلة الفترة كلها و7 دراسات لعلماء اجتماع ).
ذلك يعني – طبقا لهذه النتائج إن الاديان تخسر مواقعها بشكل هادئ وتدريجي وهو ما قد يكون له تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية وعلمية كبيرة لكنها لن تظهر بشكل مفاجئ بل نتيجة تحول تدريجي تخالطه بعض الاضطرابات .
وتعد تايلاند ونيجيريا وبنغلاديش واندونيسيا هي الاعلى تدينا في العالم (كلها فوق 90%) بينما الاعلى الحادا هي الصين (67%).
ثانيا:
إذا قارنا بين الأديان الكبرى والاساسية في العالم( المسيحية والاسلام والهندوسية والبوذية والطاوية والكونفوشية واليهودية) فإن الزيادة السكانية السنوية بين المسلمين هي الاعلى، وهو ما سيرفع نسبة المسلمين( او من يصنف نفسه مسلما) بين سكان العالم من 24% حاليا الى 31% خلال النصف قرن القادم تقريبا، وهو ما يجعل الاسلام الدين الاكبر عددا في السكان ، ويعود التزايد الى ان نسبة الانجاب عند المسلمين هي الاعلى، فمعدل الانجاب للمرأة في العالم هو 2.2 طفل للمرأة الواحدة مقابل 2.9 للمرأة المسلمة، وهو ما يستدعي عدم الخلط بين ” الانتشار الديني ” وبين ” الزيادة في النسبة السكانية .
من ناحية أخرى يبدو لنا ان الدين المسيحي مقبل على تحولات عميقة من هذه الناحية، فعند المسيحيين في جنوب الصحراء الافريقية او امريكا اللاتينية يزداد العدد بشكل كبير على حساب تعثر الزيادة في اوروبا المسيحية،بل ان النسبة الكبرى من ” رجال الدين المسيحيين” من كافة مراتب الأكليروس الديني هم من العالم الثالث وهو ما يؤسس لمسيحية اقل نزعة اوروبية مستقبلا، فالدراسات المتخصصة تشير الى التناقص بحوالي مليون نسمة سنويا في مجمل القارة الاوروبية ، وفي بعضها مثل المانيا يزيد عدد الوفيات عن المواليد حوالي 1,4 مليون نسمة. واعلى زيادة للمسيحيين هي لمسيحيي جنوب الصحراء الافريقية(افريقيا غير العربية) إذ يتزايدون بمعدل 7 مليون فرد كل سنة.
كذلك قد تكون الديانة البوذية تواجه مأزقا أكثر حدة، فهي تتراجع في نسبة معتنقيها ،ومن المرجح ان يتناقص عددها الكلي بحوالي 7% خلال السنوات الخمسين القادمة.
اما اليهودية فمعتنقوها يشكلون 0.2% من سكان العالم..وستبقى نسبتهم ثابتة من اجمالي سكان العالم حتى عام 2050. وسيكون عددهم حوالي 16 مليون..لكن اهم المؤشرات لهم هي:
ا-تراجع نسبة المتدينين اليهود بنسبة 0.8% سنويا..
ب- درجة جاذبية اسرائيل ليهود العالم تراجعت بنسبة 2.1 سنويا.
ثالثا:
العلاقة بين التطور العلمي والنزعة الايمانية: أجمعت الاستطلاعات المشار لها سابقا على ان نسبة التدين تتراجع كلما ارتفعت المؤهلات العلمية للافراد، ، وعند الانتقال للمستويات العلمية العالية نجد ما يلي:
أ- 71% من علماء الفيزياء و59% من علماء الكيمياء لا يؤمنون بوجود الله، وعند حساب نسبة العلماء من كل التخصصات الطبيعية والاجتماعية والانسانية يتبين ان 39% من علماء العالم يؤمنون بوجود الله، وهو ما يجعل التحدي امام المقولات الدينية يزداد ضراوة ، علما ان إكتشافات معينة قد تعزز هذه النسبة او تقلبها تماما نحو الطرف الآخر .
ب- لو اعتبرنا ان الحاصلين على جائزة نوبل عينة لعلماء العالم ، وحسبنا نسبة الملحدين او اللا ادريين بينهم سنجد انها حوالي 11% موزعين على النحو التالي:
-10% في الطب
-7.3 في الكيمياء
-35% في الآداب
-5.1 في الاقتصاد
-4.8 % في الفيزياء
-3.8% في السلام
وقد تبدو نتائج عينة نوبل (نوبل نفسه كان ملحدا) مناقضه للنسب العالمية، لكن الضرورة تقتضي التنبيه الى ان الاعتراف بوجود الله من عالم معين قد لا يجعله في خانة المتدينين لانه قد يقر بوجود اله لكنه مثلا لا يقر بكل الاديان ويعتبرها انتاجا بشريا، فمثلا 29% من علماء الفيزياء يقرون بوجود الله لكن أغلبهم لا يقر بوجود حياة بعد الموت او جهنم وجنة..الخ…وهو ما يستدعي التمييز بين المتدين وبين المعترف بوجود الله فقط( او ما يسمى الربوبيون – Deist ) .
ت- إذا انتقلنا الى المجتمعات بشكل عام نجد ان الدول الاكثر تقدما في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي الاقل تدينا والعكس صحيح( وهو امر يحتاج لنقاش موسع فهل الدين هو السبب ام لا ؟) كما ان الخلفيات التاريخية للمجتمعات تؤثر بشكل واضح في النتائج ، فلو ذهبنا الى امريكا اللاتينية حيث الغالبة السكانية من المسيحيين الكاثوليك نجد ان نسبة المؤمنين في كولومبيا والاكوادور تصل 88% بينما تنخفض في التشيلي والارجنتين الى 46%، وإذا اتجهنا لآسيا سنجد ان نسبة المؤمنين في الفلبين تفوق 90% بينما في كوريا الجنوبية تنخفض الى 36%.
اما في اوروبا فيبدو الامر بنفس التوجه(التباين الكبير) ، فمثلا تتوزع نسبة المتدينين في اوروبا بين الادنى مثل الدنمارك(9%) او بريطانيا(11%) فرنسا والمانيا(12%) لكنها ترتفع في اليونان (58%)، وإذا قارنا المجتمع الاوروبي بالولايات المتحدة نجد الفارق عاليا بشكل ملحوظ ،إذ تصل نسبة المتدينين في الولايات المتحدة الى 83%. لكن بعض الدراسات تشير الى ان استمرار الاتجاه الاعظم(Mega-trend) قد يوصلنا الى وجود 9 دول خلال الخمسين سنة القادمة مكونة من مجتمع ” لا دين له ” وأغلبها في الشمال الاوروبي.
رابعا:
المؤشرات الاجتماعية:تشير هذه الاستطلاعات والدراسات الى أنه كلما زاد مستوى التعليم للفرد اهتزت قناعاته الدينية ،فقد تبين أن 83% من ذوي المستويات التعليمية المتدنية متدينون بينما 49% من ذوي المستويات التعليمية الاعلى وصفوا انفسهم بأنهم متدينون.
اما موضوع العلاقة بين التدين والدخل ، فالنتيجة العامة تشير الى انه كلما زاد معدل الدخل الفردي تراجع مستوى التدين، وتشير النتائج الى أن 66% ممن وصفوا انفسهم بأنهم متدينون هم من ذوي الدخل المتدني، و 50% من ذوي الدخل المرتفع وصفوا انفسهم بأنهم متدينون.
خامسا:
أداء الشعائر الدينية(بخاصة الصلاة)، تبين ان المسلمين هم الاكثر اقبالا على الصلاة بانتظام ، فقد تبين ان 64% من المسلمين يؤدون الصلاه، واعلى الدول الاسلامية في نسبة المصلين في العالم الاسلامي هي افغانستان وايران واقل المسلمين ممارسة للصلاة هم مسلمو الصين 1%.
الخلاصة:
يبدو ان ثقافة ما بعد الحداثة تسير نحو نظرة علمانية اقل “حتمية” …ونظرة دينية أقل ” يقينا”، وهو ما سيؤسس لجدار جديد من جدران مبنى العولمة …ربما.