محمد وصفي مصطفى جلاد5>
منذ نعومة أظفاري، وكلما قرأتُ سورة يوسف، وخَلَصْتُ من فصول الظلم والاضطهاد والألم والحزن في القصة، منتهيًا إلى بَلَجِ الحقّ، مُسْتَرْوِحًا إلى إعلان براءة يوسف -عليه السلام- على الملأ، حين تعترف امرأة العزيز صاغرة لبهاء الحقّ: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] ، كنتُ أَجِدُنِي أَعْجَبُ أشدّ العجب من هذه الكلمة: (حَصْحَص)، بما في نُطقها من صعوبة، وما في تصريفها من تكرار، وما في جَرْسِها من إيقاع قوي غريب، ولم يكن في قولهم لنا: «إنها تعني: ظَهَرَ الحقُّ» ريٌّ من ظَمَأ، ولا ظِلٌّ من رَمَض.
فقلتُ: بالله المستعان، ويَمَّمْتُ وجهي شطر مفتاحِ فهمِ القرآن، العربية تَرْجُمان القرآن، في رحلة شائقة ماتعة، بدأتُها بجولة مع عين الفراهيدي، ثم عطفت على تهذيب الأزهري، فصحاح الجوهري، وغيرها من أصول معاجم اللغة. ثم قفلتُ إلى كتب التفسير، من نُكت الماوردي، إلى بسيط الواحدي، إلى كشاف الزمخشري، إلى مُحَرَّرِ الأندلسي، وغيرها من أسفار إخوانهم، فإذا بالمعاني تَتَفَتَّقُ بعد الصدور عن ينابيعهم، تَفَتُّقَ السماء بالماء، وتفتُّقَ الأرض بالنماء، ثم رَصَّعْتُ ذلك بما يلزم من ربطٍ للمعاني بالحياة والواقع؛ إذ الغاية من تَعَلُّم القرآن لا تقف عند شاطئ جمال البيان، بل تسبح منه إلى عمل وجهاد في الميدان، ثم حلَّيْتُ ذلك بما تَعَلَّمْنَاه في الدَّرْس الصوتي، فازداد الفهم عِرفانًا، وازدان البيانُ بيانًا، وازَّيَّــنَت المعاني جمالًا وإحسانًا، فأَبْرَقَتْ ثماني إضاءات:
أولًا: (الحصحصة) ظهور بعد كتمان:
يُقال: حَصْحَصَ الشيء، إذا ظهَر بعد خفاء، أو تبيَّن بعد كتمان[1]، وعلى هذا فإن (حَصْحَصَ الحق) لا تعني مجرّد ظهور الحقّ، وإنما تعني ظهوره بعد خفاء وكتمان.
وهذا ما كان في قصة يوسف -عليه السلام-؛ فرغم ظهور دليل براءته، إلّا أن عزيز مصر قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}[يوسف: 29]، فأمره بالسكوت وكتمان الأمر وعدم الحديث فيه[2]، ثم مَكَرَت امرأة العزيز لنسوة القصر، فقطعن أيديهن، وعاهدنها على الكتمان، ثم سجنوه بضع سنين؛ إمعانًا في إخفاء الحقيقة، ورغم كلّ هذه المحاولات لكتم الحقّ إلّا أن الله أظهر نبيَّه، ورفع شأنه، ومَكَّن له في الأرض.
إن كلمة (حَصْحَصَ) فيها إيماضٌ لأهل الحقّ، أن لا ييأسوا من ظهور الحقّ مهما طال تَغْيِيبُه عن الناس، ومهما تفنّن أهل الباطل في كتمانه وإخفائه، ومهما طال ظلام السجن والمنع والقهر، ومهما بذلوا من مال وجهد وكيد لكتم الحقّ وخنقه، فما مكرهم عند الله إلّا كطفل ينفخ على نور الشمس ليُطفئها، واللهُ غالب على أمره، قاهر فوق عباده، لا يُصْلِح عمل المفسدين، وإذا قال: «كُنْ»؛ انقلب كيدهم إلى نحورهم، وارتدّ سحرهم عليهم، وحَصْحَص الحقُّ فوق رؤوس الظالمين، ليُدَمْدِم السقف على عروشهم.
ثانيًا: (الحصحصة) تمايز ووضوح:
اشتقاق لفظ (حَصْحَص) أصله من الحِصَّة، بمعنى النصيب أو القسمة، قال الزجّاج: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ: أي بَرَزَ وتَبَيَّن، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة، أي: بَانَتْ حصَّةُ الحقّ وجِهَتُه من جِهَة الباطل»[3]، وقال الليث: «الحِصَّة: النَّصِيب، وجَمْعها: الحِصَص. وَيُقَال: تحاصّ القَوْم تَحَاصًّا، إِذا اقْتَسَمُوا»[4]. والمُلاحَظ في الواقع، أنه عندما يشترك الناس في مالٍ، أو في ميراث أرض، فعادة ما تكون حِصَصُهم في المال أو الأرض مُختلطة، وإذا دام هذا الاختلاط بلا فَصْلٍ ولا وضوح ولا تمايز، لربما دَخَلَتْ بينهم نزغات الشيطان، فإذا تحاصَصُوا تَمَيَّزَتْ حِصَّة كلّ إنسان، وانتَفَت الريبة.
قال الماوردي: «حَصْحَصَ الحقّ، أي: انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه»[5]، فكأنما كان الحقّ مُخْتلطًا مع الباطل في أذهان الناس، متصلًا به، قطعةً واحدة؛ وهذا من عمل المُبطلين المفسدين، الذين يلبسون الحقّ بالباطل، فيُلْصِقون الشبهاتِ والأكاذيبَ بالحقّ وأهله، فيتوهم الناسُ الحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا، ويُكَذِّبون الصادق، ويُصدِّقون الكاذب.
واستنادًا لما سبق، فإنّ (حَصْحَصَ الحقّ) لا تعني مجرد ظهور الحقّ بعد كتمانه، بل هي تعني مع ذلك، أنه انفصل عن الباطل، وتمايَـز عنه، وظهر للناس أنّ هذا هو الحقّ الناصع، لا ريب فيه، ولا شُبهة ولا غَبَش يعتريه، وأنّ ذلك هو الباطل القاتم، عاريًا مما كان يُموِّه به على الناس.
إنّ كلمة (حَصْحَصَ) توحي بأن مسألة براءة يوسف -عليه السلام- كانت قد أُلْقِيَت فيها شبهات وغشاوات، ورغم ظهور الحقّ على لسان شاهدٍ من أهلها، ورغم تَيَقُّن كلّ مَنْ خالط يوسف -عليه السلام- بعفّته ونزاهته وبراءته، إلّا أن الملأ سعوا جاهدين في كتم الحقيقة، فأمروا -وعزيزُ مصر- يوسفَ بالإعراض عن ذكر ما كان، وتعاهدت امرأة العزيز مع النسوة على الكتمان، وسجنوه ليُكمّموا أفواه الحقيقة، واستمروا في التدليس والتلبيس والتخليط، فلما حَصْحَص الحقّ، تمايَز الحقّ عن الباطل تمايُزًا لا شُبهة فيه، ووقع كالقول الفَصْل.
ويزيد الثقة بهذا الأمر، أن رسول الملك حين جاء إلى يوسف -عليه السلام- ببُشرى الخروج من السجن، لم تأخذه نشوة الفرح ليطير سريعًا إلى أجواء الحرية، بل طالب بإقامة الحجة البالغة التي تَفْصِمُ كلّ شُبهة، وتَقْصِم كلّ ريبة: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[يوسف: 50]، وهذا يدلّ على أن يوسف -عليه السلام- كان يعلم أن الحقيقة يكتنفها غموض وتلبيس، فأبَى أن يخرج قبل أنْ يُفْصَل الحقّ عن الباطل، وتنجلي الغشاوة عن العقول والعيون.
وتعود كلمةُ (حَصْحَصَ الحقّ) لتُبْرِقَ لأهل الحقّ، فتقول: إنّ أهل الباطل في كلّ زمان ومكان يعلمون أن باطلهم كَرِيهٌ قبيح، فلا يضرهم أن يخلطوا باطلهم بالحقّ، أمّا الحق فهو أبيض ناصع، لا يقبل ذرة من اشتباهٍ بالباطل؛ ولذا تجد أهل الباطل يرضون بمساومة أهل الحقّ مقابل تنازلهم عن شيء من نصاعة حقّهم، وههنا المقتل، إن لم يكن أهل الحقّ على بصيرة تدفعهم للحرص على نصاعة فكرهم، وتمايز مبادئهم، واستعلاء قِيَمِهم، ولْيَعلموا أن كلّ خطوة للمساومة على نصاعة الحقّ تُؤَخِّرُ حَصْحَصة الحقّ، ألَا فليحذروا وليتقوا الله على ما استأمنهم من حقّ ورثوه عن أنبياء الله، على محجة بيضاء.
ثالثًا: (الحصحصة) محقٌ ودمغٌ:
قال أبو عُبيد في معنى الحَصِّ: «الحاصَّة: مَا يحُصّ شَعرهَا: يَحلقه كلَّه فَيذْهب بِهِ»[6]، فالحاصّة مرض يصيب الشعر، فيُذهبه، و«ناقة حصَّاء؛ يعني: ليس عليها وَبَرٌ»[7].
ويؤخذ من هذا أن (حَصْحَصَ الحق) لا تعني مجرّد ظهوره بعد كتمانه مُنفصلًا عن الباطل، متمايزًا عنه، بل هي مع ذلك تعني: ظهوره ظهورًا يُذهب الباطل، ويمحقه كما ينمحق الشَّعْرُ إذا أصابته الحاصَّة، ويدمغه فإذا هو زاهق، بلا أثر، فلا تُحِسُّ له همْسًا، ولا تسمع له رِكْزًا.
وهذا المعنى يُبْرِقُ للدعاة مَعْلَمًا من معالم الصراع بين الحقّ والباطل، يقول: إنّ الباطل لا يمكن أن يتعايش مع الحقّ في مكانٍ واحدٍ، في زمانٍ واحدٍ، حتى لو أراد أهل الحقّ ذلك، فإنّ أهل الباطل لا يرضَوْن بذلك، وسرعان ما يقذفون أهلَ الحقّ بأذاهم، فلا بد من صراع، ولا بد من دمغ، ولا بد من حصحصة، إمّا أن يَحُصَّ الحقُّ الباطلَ فيحصده ويدمغه، وإمّا أن يَحُصَّ الباطلُ أهلَ الحقّ، إلى أن يأذن الله ببعث طائفة مؤمنة تَرُدُّ للحقّ صَوْلَته، وتَسْحَتُ للباطل جولتَه، وتدمغه فإذا هو زاهق، والدعاة الذين يتوهمون رضًا من الباطل عن حقّهم، واهمون، عسى أن يُبْصِروا في كلمة (حَصْحَص الحق) نورًا يكشف الحقائق، ويُجلي البصائر، وفيما قَصَّه القرآن من أنباء الأنبياء مع أقوامهم شاهدٌ ودليل.
وبالعود إلى قصة يوسف، نجد تعبير (حَصْحَص) يناسب سياق القصة أتمَّ مناسبة وأَحْكَمَها؛ ذلك أن ظهور الحقّ في قصة يوسف رافقه دمغٌ للباطل وصَغارٌ لأهله، بل وتَبَدُّلٌ في الموازين؛ فإذا بالمحصور في السجن يَتَقَلَّبُ في الأرض كيف يشاء، وإذا بمَن سجنوه ليُسكتوا صوتَه يُصْغُون لصوتِه طالبين سماعَ كلمته، وإذا بالحاكمين عليه يُمْسُون راضين بحُكْمِه، وإذا بمَن كان سيّدَه يرجو الآن قُرْبَه ويُقدِّم رأيَه.
ولك الآن أن تتساءل: لو جاء التعبير في القصة بلفظ آخر مما يقارب لفظ (حَصْحَص) في المعنى، نحو: جاء الحقّ، أو استبان الحقّ…إلخ، هل كان سيؤدي هذه الوظيفية التي أدتها كلمة (حَصْحَص)؟! ألَا فسَبِّح بحمد ربك الذي أنزل كتابًا أُحكِمَتْ آياتُه.
رابعًا: (الحصحصة) ثباتٌ واستقرارٌ:
ذكروا في معاني (حَصْحَص): «الحركةُ في الشيء حتى يَسْتَقِرَّ فيه ويَستَمْكِن»[8]، ويقولون: حَصْحَصَ البعير، إذا فَرَكَ رُكبَتَيه في الأرض؛ ليثبتهما عند النهوض بحمل ثقيل[9]، أو إذا أراد البروك ففرك صدره بالأرض؛ ليُفرِّق الحصى ويُلَيِّنَ ما تَحتَه، فيستقر في بروكه ويتمكن[10]، فالحصحصة هي الاحتكاك الشديد، الذي يَصْدُر عند إرادة تثبيت شيء في الأرض وتمكينه.
وتأسيسًا على هذا، فإن (حَصْحَص الحق) لا تعني مجرّد ظهوره بعد كتمانه وتمايزه عن الباطل ودمغه له، بل تعني مع ذلك ظهوره بقوّة وثبات واستقرار، وكأنَّ الحقّ فَحَصَ الأرض، وفَرَكَها، وحَرَّكَها لينغرس فيها كالوتد الذي لا يُقلع.
وفي هذا المعنى بُشرى لأهل الحقّ، تقول: رابطوا على صبركم وثباتكم على حقكم، فإنما تَلَبُّثُ الحقّ امتدادٌ للجذور في الأرض، حتى إذا حَصْحَص، ثَبَتَ واسْتَقَرَّ آمادًا وأحقابًا، ولئن كانت دولة الباطل ساعة، فإنّ دولة الحق إلى قيام الساعة.
وعودًا إلى قصة يوسف، فإن هذا التعبير يناسب سياقَ القصة، وتمامَها، حيث لم يقف الأمر عند ظهور الحقّ، بل أَيْقَنَ الجميع ببراءة يوسف -عليه السلام-، وطارت أخبار براءته وصِدقه في الآفاق، ثم تَبِعَ ذلك تمكينٌ ليوسف في الأرض: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ… وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}[يوسف: 54-56]، وهذا الظهور الصارخ للحقّ وما تبعه من تمكين لا تُوَفِّيهِ حقَّه كلمةٌ أخرى، نحو: ظهر الحق، أو انجلى الحق، أو ما شابهها.
خامسًا: (حصحصة الحق) تكرار ظهوره:
يُلاحَظ في البِنية التركيبية لكلمة (حَصْحَص)، أنها جاءت على تصريف الفعل الثنائي المُكرر، على وزن (فَعْلَل)، وهذه الصيغة تدلّ على تكرار حدوث الفعل، قال ابن جِنِّي: «…وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المُضَعَّفة، تأتي للتكرير، نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة… فجعلوا المثال المُكرر، للمعنى المُكرر»[11].
وهذا الصوت المُكرر، فيه تصويرٌ دقيق لمراحل ظهور الحقّ في قصة يوسف -عليه السلام-، وتَكَرُّرِه مرة تلو أخرى إلى أن استقرَّ وثبت ثباتًا راسخًا متميزًا لا غبش فيه، داحضًا للباطل؛ فقد كان أول ظهور للحقّ حين شهد شاهد من أهلها بالقميص، ثم تكرّر مرة أخرى حين جَمَعَت امرأة العزيز نساء رجال بلاط القصر، وكان ما كان من تقطيع أيديهن، ثم قولها: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}[يوسف: 32]، وحتى بعد أن سجنوه، توالَتْ علاماتُ الحقِّ؛ سيماه في وجهه: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: 36]، وصِدقُه في دَلِّهِ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}[يوسف: 46]، فكان وجهه شاهدًا يُسْفِرُ عن الحقّ كلما نظر إليه إنسان، وكان هديُه ناطقًا بالبرهان، يُفند كلّ اتهام، وهكذا تتوالى دلائل الحقّ في كلّ يومٍ وآنٍ، إلى أنْ تمايَز الحقّ عن الباطل، وانجلَتْ كلّ شبهة، ودُمغت كلّ تُهمة، وقالت امرأت العزيز: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف: 51].
إنّ ظهور الحقّ في قصة يوسف، وإنْ كان معروفًا من أول يوم، إلّا أنّ ظهورَهُ ذلكم الظهور الذي لا لبْسَ فيه، ظهورًا يدمغ الباطل ويُمَكِّن للحقّ =جاء على مراحل متتالية؛ من شهادة القميص، إلى شهادة نساء المدينة، إلى شهادة أصحاب السجن، انتهاءً بقول امرأة العزيز؛ وهذا التكرار يناسبه لفظ (حَصْحَص) بما في تصريفه من تكرار، أكثر من أيّ لفظ آخر.
وفي هذا التكرار، وصية لكلّ عامل للحقّ، أن لا يَملَّ من تكرار الصّدع بالحقّ، وأن لا يَكِلَّ من مجاهدة الظالمين به جهادًا كبيرًا.
سادسًا: التصوير الصوتي في حصحصة الحقّ:
سبق وذكرنا أنّ من معاني (حَصْحَصَ) فَرْك البعير للأرضِ بصدره، وفَحْص الترابِ ليُلَيِّن موضع بُرُوكِه، وهذا الفرك للتراب فيه احتكاك قوي.
ويُلاحَظ في البِنية الصوتية للكلمة حرفُ الحاء، وهو حرف احتكاكي مهموس، وحرفُ الصاد هو الآخر حرف احتكاكي صفيري، وهذه الأصوات بما فيها من صفات الاحتكاك والهمس والصفير تُجَسِّد بصوتها صورةَ عملية الحصِّ، بما فيها من فركٍ واحتكاكٍ وصوتٍ يُشْبه صوت صرِّ الحصى.
وهذا الصوت في حصحصة الحقّ يُضْفِي على معنى رسوخ الحقّ واستقراره في الأرض صوتَ الاحتكاك الشديد، المُعَبِّر عن قوة الرسوخ والثبات.
سابعًا: التناسب بين صعوبة اللفظ ومشقّة الطريق:
يلاحِظ كلّ من ينطق الكلمة (حَصْحَصَ) ما فيها من مشقّة في النطق؛ ومرجع هذه المشقة إلى ثلاثة أمور:
الأول: حرفَا الحاء والصاد؛ فكلاهما احتكاكي مهموس، والحروف الاحتكاكية وإن كانت أضعف من الانفجارية صوتًا، إلّا أنها أصعب منها نطقًا -بحسب ما تُظْهِر مختبرات علم الأصوات-، فالمُكَوِّنات الصوتية في الكلمة من أولها إلى آخرها احتكاكية، فيها مشقّة نسبيّة.
الثاني: ترتيب الحروف فيها؛ من حرف الحاء الذي يُلفظ مُرققًا -بحسب قواعد علم تجويد القرآن الكريم-، ثم حرف الصاد المفخم، ثم الحاء المرقّقة لفظًا مرة أخرى، فالصاد المفخمة مرة أخرى، وهذا التوالي من الترقيق إلى التفخيم فيه مشقّة، يستشعرها كلّ مُرَتِّلٍ للقرآن وفق أحكام التجويد، حيث يضطر لبسط فمه، ثم تكويره، ثم بسطه، ثم تكويره.
الأخير: توالي الحركة فالسكون فالحركة في الكلمة؛ من الفتحة إلى السكون إلى الفتحة، ومعلوم أن تغاير الحركات، يسهم في صعوبة لفظ الكلمة، بعكس الكلمات التي تتوالى فيها الحركات نفسها، نحو (نَزَلَ) و(ذَهَبَ) و(رَكَعَ).
إنّ هذه المشقّة اللفظية في نطق كلمة (حَصْحَص)، تحاكي المشقة التي رافقَتْ ظهور الحقّ، فلم يكن ظهور الحقّ سهلًا ولا هينًا، وإنما جاء بعد مخاض عسير، عَبَّر عنه القرآن الكريم بهذا اللفظ (حَصْحَص)، الذي تتعانق بِنيتُه الصوتية مع دلالاته اللغوية؛ لتنبئ كلَّ متذوّق للجمال بسموّ كلام الله، الذي تأتي فيه كلّ مفردة عاشقة لمكانها، وفيَّة لسياقها، لا ينوب عنها شيء من كلام البشر.
وإذا كان نطلق كلمة (حَصْحَصَ الحقّ) فيه هذه المشقة اللفظية، فليت شعري، كيف يرجو حصحصة الحقّ في الميدان من «ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه»، أو من أعطى قليلًا ثم أكْدَى؟!
ثامنًا: الحصحصة سرعة في ظهور الحقّ حين يشاء الله:
ومن معاني الحصحصة: «الإسراع في السير»[12].
وكذلك كان في قصة يوسف، فرغم تطاول الأمد على طَيِّ الحقيقة وكتمانها، إلّا أنه كان أجلًا عند الله له كتاب، فلمَّا جاء موعده أتى سريعًا لا يحجبه شيء، ولا تردُّه قوة الباطل ولا مكره، وإن كان مكرًا لتزول منه الجبال.
ولا أدلّ على السرعة في ظهور الحقّ حين شاءت إرادة المولى -عز وجل- من ملاحظة أسلوب الحذف البلاغي في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف: 54]، فقد انتقل بسرعة من أمر الملك إلى مشهد جلوس يوسف -عليه السلام- مُعزَّزًا مُكرمًا بإذن الله في مجلس الملك، وحذف مشهد استجابة رسول الملك لأمره، ثم انتقال الرسول من القصر إلى السجن، ثم إخبار يوسف بالأمر، ثم حضور يوسف إلى المجلس. حذف كلّ هذا وانتقل مباشرة، من أمر الملك إلى محادثته ليوسف -عليه السلام- مباشرة، وهذا الحذف البلاغي فيه إشارة لسرعة حدوث الأمر، وهي السرعة التي تُنبئ عنها كلمة (حصحص)، وما كانت كلمة أخرى نحو (جاء) أو (حضر) لتدلّ على شيء من ذلك.
فأَصْغِ لكلمة (حصحص) وهي تقول لك:
«ما بين غَمْضَةِ عَيْنٍ وانْتِبَاهَتِها .. يُغَيِّرُ الله من حالٍ إلى حالِ».
لفظٌ كريم من كتاب كريم:
فقل لي بِرَبِّك، ألَا ترى هذا اللفظ (حصحص) لفظًا كريمًا؛ إِذْ وهبك كلَّ هذه المعاني والإشارات؟! وكيف لا يكون كريمًا وهو في كتاب سماه الله قرآنًا كريمًا؟!
لعلك تقول لي: إن هذه المعاني المُكتنزة في كلمة (حَصْحَص) موجودة فيها قبل استخدام القرآن لها، فلماذا يُنسب هذا الكرم في الدلالات، وهذا السموّ في البيان للقرآن، ولا ينسب لأيّ نصّ آخر يحوي مثل هذه الكلمة؟
أقول لك: إنّ إعجاز القرآن ليس في مجرّد تضمُّنه مثل تلك المفردات، وإنما هو في تَخَيُّرها في مواضعها، وإِحكامها في سياقها، وما كانت البلاغة ولا الفصاحة يومًا في تضمين النصوص ألفاظًا فخمة، وإنما هي في انتقاء المفردة التي تناسب السياق، فرُبَّ كلمة تراها متناغمة تَبْرُقُ ألَقًا، وتتوهج ضياء في سياق، وهي نفسها تراها سببًا للنشاز في سياق آخر، فالسموّ البياني في النصّ القرآني الذي احتوى كلمة (حَصْحَص)، إنما هو لمناسبتها للسياق الواردة فيه من كلّ جهة، جعلَتْ جميع معاني الحصحصة مؤتلفة مع السياق، متعانقة معه متعالقة، بحيث لو أُبدلت أيّ كلمة أخرى مكانها لأصبح النظم نشازًا في صوته، خداجًا في معناه، وكما أن الدُّرَّ والياقوت في جِيدِ الحسناء يزيدها حُسنًا، فهو نفسه على جذع القبيحة لا يستر من دمامتها شيئًا؛ وكذلك هي الكلمات الفصيحة، يظهر جمالها وسُمُوّها وكرمها بحسن انتقائها في مواضعها بما يناسب سياق الكلام، وهو ما تجده في القرآن على نحو يحطم ما دونه من الكلام، وكما أن الشمس لا يُجَلِّيها إلّا صُبْحُ الأرض، فلا يُرى إشراقها من الكواكب الأخرى إلّا نُكتة خانسة من ضوء خافت، بينما هي في الأرض سراج وهَّاج؛ فكذلك الألفاظ العربية، لا يكون إعجازها إلّا من انتظامها في فَلَكِها من آيات الكتاب العزيز.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[1] العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، (3/ 14)، والمحرر الوجيز، لابن عطية الأندلسي، (3/ 253).
[2] الكشاف، للزمخشري، (2/ 461).
[3] معاني القرآن، للزجّاج، (3/ 115).
[4] تهذيب اللغة، للأزهري، (3/ 259).
[5] النكت والعيون، للماوردي، (3/ 47).
[6] تهذيب اللغة، للأزهري، (3/ 258).
[7] المصدر السابق نفسه.
[8] العين، للفراهيدي، (3/ 13).
[9] تاج اللغة، للجوهري، (3/ 1033).
[10] التفسير البسيط، للواحدي، (12/ 147).
[11] الخصائص، لابن جنّي، (2/ 155).
[12] تاج اللغة، للجوهري، (3/ 1033).