إذا كانت مجالات الحياة كلُّها تحتاج إلى الأخلاق، وتستقيم وترتقي بالأخلاق، فإن العمل الطبي هو في أصله وجوهره عمل أخلاقي، ولا تقوم له قائمة إلا بالأخلاق. وإذا كان علماء الشرع يقولون: “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”، فعلى علماء الطب أن يقولوا لبعضهم: “الطب كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الطب”. وإذا كان مقام الطبيب ومكانته يتحققان ويقدران بحسب ما له من علم وخبرة وتجربة ومهارة، فإن النجاح الفعلي في ذلك كله يتوقف على مقدار ما له من محاسن الأخلاق؛ من رأفة ورحمة وشفقة، ومن رقة ورفق ولين، ومن صبر وأناة وتواضع…

مقاصد الشرع ومقاصد الطب

من المعلوم أن مقاصد الشرع مدارها على حفظ الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

ولو أردنا أن نتحدث عن مقاصد الطب لوجدنا أنها لا تخرج عن حفظ النفس والنسل والعقل. فهي تشترك مع مقاصد الشرع في ثلاثة من خمسة.. ثم نجد أن حفظ هذه الضروريات الثلاث المشتركة يساعد على حفظ الدين والمال. وعلى هذا فمقاصد الطب مندرجة في مقاصد الشرع متلاحمة معها إلى حد كبير. ومعلوم أن حفظ النفوس – سواء في الشرع أو في الطب – لا يقف عند الحفظ المادي، بل يشمل الحفظ المعنوي، بما يعنيه من سلامة وصحة وتوازن في الحالة النفسية.

ثم يتقدم الشرع -فينفرد أو يكاد – بحفظه للصحة والعافية الروحية للإنسان. ولذلك نجد علماءنا يقررون أن “الشرع هو الطبيب الأعظم”.[1]

المهم أن مقاصد الشرع ومقاصد الطب تلتقي في أن الموضوع هو الإنسان، وأن الغرض هو الصحة البدنية والنفسية والعقلية للإنسان، وأن الغاية هي سعادة الإنسان. رسالة الطب هي نشر الشفاء والرحمة، ورسالة الدين هي نشر الشفاء الأوسع والرحمة الأعم. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء : 82]. فالشفاء والرحمة مقصدان مشتركان بين الرسالتين الطبية والشرعية، وإن تفاوتت الساحة والمساحة بينهما….

ولعلماء الشريعة تعبير آخر يختصر مقاصد الشريعة وضرورياتها في كلمتين جامعتين هما: حفظ الأديان، وحفظ الأبدان. فمصالح الخلق مدارها على حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس السعادتين (الدنيوية والأخروية) حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وعمدة الثقافات والحضارات حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس كل تنمية وترقية حفظ الأديان وحفظ الأبدان.

وعادة ما يتوقف المفسرون للتنبيه على المغزى فيما تضمنه  قوله تعالى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر : 13]، حيث تم الجمع والربط بين آيات الله ومعجزاته الدالة عليه وعلى رسله من جهة، وبين الامتنان بإنزال الرزق من السماء من جهة أخرى. وسر ذلك عندهم هو أن هذين الأمرين يشكلان جماعَ مقاصد الشرائع؛ فأحدهما فيه حفظ الأديان، والآخر فيه حفظ  الأرزاق والأبدان.

قال الفخر الرازي: “واعلم أن أهم المهمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان. فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان. وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات.”[2] ونقرأ في تفسير القرطبي قوله: “قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي دلائل توحيده وقدرته، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق؛ لأن بالآيات قوامَ الأديان، وبالرزق قوام الأبدان[3]”.

وقد استقر في الثقافة الدينية – الإسلاميةِ وغيرِها – أن العلوم كلها تتمحور حول حفظ الأديان وحفظ الأبدان، مع العلم أن جزءا كبيرا من الأديان مخصص مباشرة لحفظ الأبدان…

ويروى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد “كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}. فقال النصراني : ولا يؤْثَر عن رسولكم شيء من الطب، فقال علي : جمع رسول الله الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: “المعدة بيت الأدواء والحِمْية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عودته” . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا”.[4]

ومن القواعد المعروفة في الفقه ومقاصد الشريعة، قاعدة “تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة”. وفي تطبيقات هذه القاعدة نجد الاقتران والمقارنة بين حفظ مقاصد الطب وحفظ مقاصد الشرع، أو بين حفظ الأبدان وحفظ الأديان، حيث يقرر الفقهاء وجوب الحجر على الفقيه الماجن، وعلى الطبيب الجاهل، لكون الأول يفسد الأديان، والثاني يفسد الأبدان.  ولذلك قيل: “يُفسد الأديانَ نصفُ متفقِّه، ويفسد الأبدانَ نصفُ متطبب

والذي أراه أن الطبيب الذي لا خَلاق له، مهما كان علمه بالطب ودرجته فيه، يكون أشد خطرا وضررا على الناس من الطبيب الجاهل. وإذا كان الطبيب الجاهل يحجر عليه، فإن الطبيب الفاسد ينبغي أن ينكل به.

ولكي ندخل أكثر في المقاصد الخلقية للشريعة، وخاصة منها ما هو أكثر التصاقا بالعمل الطبي وأبلغ أثرا فيه، أتناول في الصفحات الآتية أصلين كبيرين من أصول الأخلاق الإسلامية، وهما: – – خُلُق التقوى،وخُلُق الرحمة.

أولافاعلية التقوى وآثارها

التقوى في استعمالات الشرع تعبر عن حالة خلقية، قلبية نفسية، تجعل صاحبها مرهف الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس، مقدرا لعواقب الأفعال وآثارها، فيتصرف بناء على ذلك، من تلقاء نفسه، سواء تعلق ذلك بنفسه، أو بربه، أو بأي كان من خَلْق الله.

فالشخص المتقي: يستشعر مدى فضل الله ونعمه عليه فيتقيه، وهو يَهَابُ ربه ويخاف مقامه فيتقيه، وهو يستحيي من ربه الذي يراه – وقد أمره ونهاه – فيتقيه، وهو يخاف غضب الله وعقابه فيتقيه. وهو يرى ويدرك قبح الأفعال السيئة وعواقبها عليه أو على غيره، فيعتبر بها ويتعظ منها فيتقيها …

وتظهر معاني التقوى وآثارها الإيجابية الشاملة على سلوك الإنسان في كل أحواله، وأحوج الناس إلى التحلي الدائم بخلق التقوى ومقتضياتها، هو مَن يضع الناسُ أرواحهم وأبدانهم وأسرارهم وأعراضهم أمانةً بين يديه. إن ما يمكن أن يقدمه ويحققه الطبيب التقي بتقواه وإخلاصه،من حفظ لأرواح الناس وأبدانهم، وتخفيفٍ لآلامهم ومعاناتهم، وتوفير لأموالهم وحهودهم، لا يقل حجما ولا أهمية عما يقدمه من ذلك بعلمه وحنكته. فالطبيب التقي – بفضل تقواه وأمانته – يصبح رقيبَ نفسه وحسيبَ نفسه، فيستقيم باطنه وسِرُّهُ، قبل ظاهره وجَهْرِه.  فنزاهةُ الطبيب التقي وأمانته لا تتوقف على القسم الطبي، مثلما أن نزاهة الحاكم التقي وأمانته لا تتوقف على القسم الدستوري. وأما من حُرم فضيلة التقوى وتركَ محاسبةَ نفسه بنفسه، فلا ينفع معه قسم يوناني ولا إسلامي.

ثانيا: الطب والشرع رأفة ورحمة

من الأخلاق التي لا يستقيم بدونها شرع ولا طب: خُلُق الرحمة. وقد لخص بعض العلماء تكاليفَ الشرع ومقاصدَه كلها في كلمتين هما: “تعظيم الحق، والشفقة على الخلق”.

ومعنى الرحمة يشتمل على معاني: الرقة، والرأفة، والعطف، والحنان، والمغفرة، والشفقة، والمودة، وما يتبع ذلك من دفع ضر أو أذى، أو جلب نفع، أو إسداء نصح، أو دفع ألم، أو تخفيفه، أو تقديم مساعدة أيا كانت … ويشتمل كذلك على نفي أضداد هذه الصفات، مثل القسوة والشدة والغلظة والإذاية …

الرحمة ومسألة القتل الرحيم ؟

من القضايا الطبية ذاتِ الصلة بخُلُق الرحمة، قضية ما يسمى بالقتل الرحيم، وهو قيام الطبيب بالإجهاز على حياة المريض المعذب الميئوس منه طبيا، وذلك بطلب من المريض نفسه، أو بطلب من ذويه، إذا كان هو في غيبوبة تامة متواصلة. ويتم هذا القتل “الرحيم”، بداعي الرحمة والشفقة وإنهاء المعاناة.

وهذه القضية قد أخذت حظها من البحث الفقهي، وأجمع فقهاء الإسلام على تحريم هذا الفعل وأنه قتل للنفس لا يجوز بحال. ولذلك لا حاجة بي للاستطراد في هذا الاتجاه، كما أن ذلك ليس من طبيعة هذا البحث ولا هو من غرضه. ولكني أعرج فقط على الجانب الخلقي والمقاصدي، الذي تسوَّغُ به هذه القضية، على أساس أن فيها رحمة للمريض وتخليصا له من عذابه الذي لا فائدة ترجى من وراء تحمله.

والحقيقة أن هذه نظرة قصيرة وقاصرة…

فهي أولا تفتح باب المجازفة والاستهانة بالأرواح البشرية وحرمتها، خاصة وأن احتمالات الشفاء – مهما تضاءلت – تظل قائمة.

ثم إنه ليس هناك ألم يمكن أن يكون وزنه أرجحَ من حفظ الروح البشرية. ولو جاز تقديم رفع الألم على حفظ النفس، لجاز الانتحار والمساعدة عليه، لمن اشتدت بهم الآلام، وسدت في وجوههم الآمال.

وقد ذكرتُ من قبل أن الرحمة في العقيدة الإسلامية تشمل رحمة الآخرة وما يفضي إليها من ثواب وتوبة ومغفرة. وقد صح في الأحاديث النبوية أن الآلام فيها محو السيئات ورفع الدرجات، تخفيفا من ربكم ورحمة. فقد قال عليه الصلاة والسلام: “ما يصيب المسلمَ من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه”[5].

وقال أيضا: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة”[6]..  وهذه رحمة أيُّ رحمة.

وكل هذا من أجل أن يصبر المصاب ويتَقَوَّى على محنته، ويتشبث بأمله، ويحافظ على حياته.


** المقال مختصر من دراسة “الأخلاق في الطب .. تأسيس مقاصدي”، للدكتور أحمد الريسوني، مقدمة لندوة (الأخلاق الإسلامية والطب)،المنظمة من قِبَل مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، بالدوحة، في 5 – 7 يناير 2013.

[1]  الموافقات للشاطبي – (3 / 14).

[2]  مفاتيح الغيب (27 / 38)  – نشر دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى –  1421هـ – 2000 م

[3]  تفسير القرطبي (15 / 299) تحقيق هشام سمير البخاري – الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية – 1423 هـ/ 2003 م

[4]  تفسير القرطبي (7 / 192).

[5]  الحديث متفق عليه.

[6]  رواه الترمذي وقال حسن صحيح.