في أواخر تسعينيات القرن الماضي شهدت البورصة الآسيوية تطورا مذهلا جعلها قبلة للمضاربين بالعملات والمستثمرين في قطاع البورصة، وعلى الرغم من أهمية هذا التطور السريع في حركية السوق المالية الآسيوية إلا أنه كان تطور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
ففي صيف 1997 ضربت أزمة إقتصادية خانقة أطنابها في هذه الدول مسببة دمارا اقتصاديا هائلا ، إرتفاعا في معدلات التضخم، ضعف القوة الشرائية، إنهيار العملات ، إرتفاع معدلات البطالة ، انهيار بنوك وإفلاس مؤسسات، كانت تسونامي حقيقة حولت مستقبل هذه البلدان إلي جحيم وكبحت آمالها التي بنت منذ سنين في تحقيق الرفاه والإزدهار الإقتصادي.
تسلسل أحداث الأزمة (حرب العملات)
في مايو 1997 أستيقظت البورصة التايلاندية على إنهيار كبير للأسهم عقبه هبوط شديد في العملة المحلية، وفي إجراء إستعجالي قامت الحكومة التايلاندية بمساعدة الحكومة السينغافورية بإنفاق مليارات الدولارات من إحتياطي العملات من أجل وقف هجوم المضاربين على العملة التيلاندية (البات). بعد ذالك بشهرين كانت العملة التيلاندية قد فقدت أكثر من 20% من قيمتها فطلبت الحكومة تدخلا عاجلا من صندوق النقد الدولى لتقديم المساعدة التقنية.
في يوليو 1997 ، تدخل البنك المركزي الماليزي لحماية العملة الماليزية ” رينجت” وبعدها مباشرة شهدت العملة الفيليبينة تدهورا شديدا ، أعقبها إعلان صندوق النقد الدولى وضع مليار دولار لمساعدة الفلبين على حماية عملتها من المضاربين وكان هذا أول قرض في سياسة البنك الجديدة Emergency Funds Mechanism .
بعدها بدأت الأزمة تنتشر إنتشار النار في الهشيم ، حيث إنهارت العملة الإندنوسية مسببة خسائر إقتصادية كبيرة للإقتصاد الأندنوسي وشهد الشارع الأندنوسي مظاهرات طلابية عنيفة تنتقد سياسات الرئيس سوهارتو وتطالبه بالإستقالة ، حاول سوهارتو تلافي الوضع من خلال مطالبته بقرض من صندوق النقد الدولي لإنعاش الإقتصاد الأندنوسي الذي فقدت عملته المحلية 30% من قيمتها خلال شهرين.
في أكتوبر بدأت الأزمة تتوسع حيث أنهارت بورصة هونغ كونغ و تأثرت بورصت طوكيو بشكل كبير وأنهار أحد أكبر البنوك اليابانية بنك Hokkaido Takushoku Bank تحت تأثير الأزمة ، توسعت الإحتجاجات في أندنوسيا ووصلت الأزمة ذروتها وواصلت عبثها بإقتصادات هذه الدول وسط صدمة كبيرة وذهول من حكومات هذه الدول وشعوبها.
عنصر المفاجأة و سياسات المواجهة
نتيجة لعنصر المفاجأة في هذه الأزمة فقد فشلت الكثير من الدول في تعاطي ايجابي يتماشي مع الظرف الطارئ، وقد إنقسمت هذه الدول بين فريقين :
الأول: ركز على الحلول الداخلية و مواجهة الأزمة بسياسات تقشف داخلية وحماية للعملة الوطنية من خلال تثبيت سعرف الصرف ،ودعم الصناعات المحلية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة ومن أمثلة هذه الدول ماليزيا حيث نجحت رغم التحديات في التقليص من آثار الأزمة.
الثاني : ركز على قروض صندوق النقد الدولى رغم سياساته المجحفة التى تصاحب تلك القروض ، ومن الدول التى سلكت هذا الطريق أندونسيا ، و كوريا الجنوبية ، و الفلبين. هذه القروض تسببت في الكثير من اللغط و أدرت للمزيد من التوتر السياسي أنتهي في أندنوسيا بإغلاق 16 مؤسسة مالية و بنك ثم تلى ذالك إستقالة سوهارتو الذي حكم أندنوسيا 32 سنة.
ماليزيا في مواجهة الأزمة (عبقرية القبطان)
كانت ماليزيا إحدى الدول القليلة في جنوب شرق آسيا التي استطاعت تقديم إستراتيجية سريعة لمواجهة الوضع الجديد.
في إبريل سنة 2009 وأمام حشد كبير من طلاب جامعة بكين – بالصين خاطب رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد الحضور قائلا : لقد شكلت الأزمة الإقتصادية 1997-1998 عامل تحد حقيقي لإقتصاديتنا وجعلتنا نعيد النظر في إستراتيجياتنا الإقتصادية وحتى إندماجنا في الإقتصاد العالمي.
إن السبب المباشر لأزمة 1997 كان التلاعب الكبير بالعملات من طرف المضاربين في السوق المالية لقد أدى هذا التلاعب إلي فقدان عملتنا المحلية لقيمتها وضعف قوتها الشرائية، تجارة العملات يجب أن تقتصر على التمويل التجاري فقط كما يجب علي البنوك أن تحدد سقف للإقتراض. ثم يسترسل قائلا : من الدروس المهمة التي قدمتها أزمة 1997 أنه علي الآسيويين أن لا يتقبلوا الإستراتيجيات الغربية كما هي؟ بل يجب أن تخضع لإختبارات وإنتقادات وإذا أثبتت فشلها أو عدم صلاحيتها لوضعيتنا رفضناها.
في ماليزيا كانت أولي الخطوات للتخفيف من آثار الأزمة هي تثبيت معدل الصرف من خلال منع المضاربين من المتاجرة بالعملة المحلية ، على الرغم من أن هذه الخطوة تعتبر خاطئة من منظور البنوك الغربية إلا أنها ساعدت في تطوير المشاريع الإقتصادية وحفزت المستثمرين على الدخول في السوق من دون خوف من إنهيار العملة في أية لحظة.
كما رفضت ماليزيا مقترحات صندوق النقد الدولي والتي منها زيادة فائض الميزانية لرفع معدلات الفائدة وكذالك رفض القروض المقدمة من البنك على أساس أن شروطها تجعل الإقتصاد الماليزي يدار من داخل مكاتب صندوق النقد الدولي وليس من الماليزيين أنفسهم.
استطاعت ماليزيا تقديم إستراتيجية سريعة للحد من آثار أزمة 1997-1998 وعلى الرغم من أن هذه الإستراتيجية كانت لها نتائج ايجابية مع بعض الثغرات إلا أن بعض المحللين يرون أنها كانت إستراتيجية قوية أسست على قرارات جريئة.
يري مهاتير أن النتائج الكارثة لإنهيار النظام المصرفي الغربي يجب أن يكون درسا لنا جميعا وأن نعمل على تطوير منظومتنا المصرفية بما يتماشي مع وضعيتنا، ثم يضيف قائلا: قد نكون حققنا نجاحا في المحافظة على توازن إقتصادي في عالم تعصف به الأزمات من كل جانب لكن هذا لا يعني أن إستراتيجيتنا المتبعة كانت مقدسة بل بالعكس مهما كانت النتائج يجب دائما أن نخضع هذه الإستراتيجيات للمزيد من النقد والدراسة والتمحيص.