تحديات القرن الحادي والعشرين تفرض نفسها على الأسرة المسلمة، وتوجب التفكير في خطاب دعوي جديد، يستوعب المتغيرات والتحديات، ويعيد تحصينها وفعاليتها للنهوض بدورها في تنشئة أفرادها وتزكيتهم، فهذا القرن هو الوحيد الذي تراجع فيه تأثير الأسرة في التنشئة، تراجعا لم تختص به دولة أو مجتمع معين، لكنه ظاهرة عالميا، بعدما أصبحت وسائل الإعلام والرقمية مركزية في التنشئة، ولا تستطيع الأسرة أن تنفك عنها، أو تختبأ منها، أو حتى تضعف تأثيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تحتاج الأسرة المسلمة إلى خطاب دعوي جديد، يكون نواة لعمليات إصلاح ونهوض ديني وإنساني، بعدما باتت الانسانية تتآكل بفعل الضغوط الساعية لمسخ الإنسان وطمس دوره ورسالته الكونية، خطاب ينبه الإنسان حتى لا يعيش حياة غافلة بنشوة الانتصار بالعلم؟
التحديات الجديدة
يشهد هذا القرن فجوة عظيمة بين الأجيال، فلم يعد التقارب بين الأجيال مساحة يمكن عبورها بسهولة، أو حتى قبول وجودها، لكن الفجوة أصبحت متسعة بين الآباء والأبناء، وتلك ظاهرة عالمية، وهي تُصعب العلاقات داخل الأسرة وتشحنها بالغضب وعدم الارتياح والانعزال، وانتظار اللحظة التي يرحل فيها أحد الطرفين.
الفجوة بين الأجيال، تُعرف بأنها الاختلاف في القيم والآراء والسلوكيات والطموح، ولعل ذلك يعود في أحد جوانبه إلى اختلاف الأفكار والتصورات عن الذات والحياة، خاصة مع توسع الرقمية ومركزيتها في تشكيل الأجيال الجديدة، على مستوى الوعي والاهتمامات والأفكار، وتلقي المعلومات، ولعل هذا ما دفع الباحثين في علم الاجتماع للبحث في صعوبات الأبوة والأمومة في هذا القرن، والتأكيد بأنها الأشد صعوبة مما سبقها في تاريخ الإنسان.
فوجود التكنولوجيا الرقمية في أيدي الأبناء طوال 24 ساعة، من خلال الهواتف الذكية، أعاق التواصل في الأسرة، وفي استطلاع للرأي في المجتمع الأمريكي اعترف ثلثي الآباء بأن الأبوة والأمومة أصبحت أكثر صعوبة مما مضى، ربما لأن الآباء مطالبين بتوفير أنواع من الحماية أكثر مما كانت عليه في السابق، ومن تلك الحمايات الجديدة، مخاطر الانترنت من حيث الاستغلال بأنواعه، وولوج الأبناء إلى المواقع الإباحية والضارة، وإهدار الأبناء لساعات يومهم وليلتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يضر بصحتهم ونومهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية، ومن ناحية أخرى فيلاحظ أن الغالبية من الآباء مطالبين بالتعامل مع مخاطر لم يعهدوها من قبل، وبوسائل تكنولوجية سريعة التطور، وفي مناخ يُقدس الخصوصيات ويكافح ضد من يقتحمها حتى ولو كان الآباء، وإدراك الآباء أن حجبهم لأبنائهم عن الواقع الجديد في عالم الرقمية المتسارع يُضر بهم.
الأسرة المسلمة ليست ببعيدة عن تلك التحديات والمخاطر؛ بل تزيد معاناتها، نظرا لتآكل منظومة الدين والأخلاق في المجال العام في كثير من المجتمعات، وهو ما يفرض مضاعفة الجهد لتربية الأبناء على التحلي بالقيم الإسلامية، في بيئات قد تعتبر الالتزام الديني والأخلاقي نوعا من التزمت والتشدد.
ومن تحديات هذا القرن، تصدع الأفكار والسلوكيات التي كانت تحفظ تماسك الأسرة، مثل: تراجع مفهوم الاحترام للكبير، وهي ظاهرة تضرب الكثير من المجتمعات، فلم يعد الآباء يتمتعون بالاحترام والهيبة التي كانوا يحظون بها في السابق، وهذا يصعب مهمة الآباء التربوية، فالأبناء باتوا يشعرون باستقلال أكبر عن آبائهم في تدبير حياتهم وصياغتها، مكتفين بالاعتماد على الآباء في مسألة الانفاق، ولعل ذلك يرجع إلى الخلط ما بين مفهومي التربية والرعاية، فالتربية هي عملية إكساب للقيم والأخلاق والسلوكيات والمهارات وغرس للاهتمامات، أما الرعاية فهي توفير الطعام والشراب والسكن والحماية والنفقات وما يرتبط بها من حفظ الجسد وتنميته.
والغريب أن هذا الاختلاط المفهومي رضي به بعض الآباء، ربما لأنه الأيسر، نظرا لأن إكساب القيم يحتاج إلى تخلق من الآباء والأمهات، وتجسيدا لها في سلوكياتهم داخل البيت، كما يحتاج إلى رعاية وصبر دائم وابتعاد عن اليأس، ولذلك أمر القرآن الرجل أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر على تلك المهمة الشاقة، فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه : 132) ، جاء في تفسير الظلال أن “أول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم؛ وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله، فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة” لذا جاء القرآن بفعل “اصطبر” وهو اصطناع الصبر، لأن مخزون الصبر قد ينفذ من الأب من كثرة حضه لأسرته على الصلاة والمواظبة عليها والالتزام بأخلاقها ومقتضياتها، لذلك احتاج إلى معين آخر يستزيد منه في الصبر، حتى تثمر الصلاة ثمارها سلوكا في الأرض وارتباطا علويا بالسماء.
النزعة الاستهلاكية وضرورة التزكية
التربية في هذا القرن أكثر إرهاقا، رغم تشابه الأطفال في الحاجات داخل البيت، ويكمن جزء من صعوبة التربية خارج جدران المنزل، فخيارات الترفيه والاستهلاك أصبحت أكثر توسعا وتنوعا واستحوذت على الاهتمام والانشغال، لكن الخطورة أنه مع الترفية إزدادت النزعة الاستهلاكية لتطغى على غالبية الناشئة، وأصبح التحكم في الأبناء صعبا، من جانب آخر فإن توفير الجانب المالي لتلبية النزعة الاستهلاكية المتصاعدة والترفيه المتنوع، ضغط على الآباء لبذل الكثير من الجهد وساعات العمل خارج المنزل لتوفير تلك النفقات، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فالكثير من الأمهات خرجن –أيضا- لسوق العمل للمساهمة في توفير تلك النفقات، وهو ما عمق الفجوة داخل الأسرة، وحصر جهود الوالدين في توفير نفقات الرعاية، فغابت التربية .
ومن الأمور التي أخذت تتسرب إلى بعض الأسر المسلمة، من خارج نطاقها الثقافي والديني، أن مسألة الإنجاب لم تعد أمرا ضروريا، ولكن خيار يمكن الاستغناء عنه، كما أن غاية الأسرة المسلمة من التربية أصابها الغبش، فلم تعد مسألة الاصلاح والتبليغ والصلاح غايات كبرى، ولكن اكتفت الكثير من الأسر بواجب الرعاية، وتحصيل الابناء لدرجة علمية معينة لادماجهم في سوق العمل، ومن ثم تراجعت رسالية الأسرة المسلمة.
ومن الفجوات المهمة في العلاقة بين الأجيال هي أن الأجيال الجديد قد تمتلك قدرا أوفر من المعلومات، ومهارات أعلى في التعامل مع التكنولوجيا الرقمية، وهي حالة معاكسة للخبرة الإنسانية السابقة، إذ كان الكبار والآباء يمتلكون معلومات ومعرفة أكثر، وهو ما وضعهم في موقع تعليم الأبناء لسنوات طويلة، ودفع الأبناء ليستمعوا إليهم بعناية، لكن الأجيال الرقمية نظرت لآبائها أنهم ليسوا مصدرا جيدا ووحيدا لمعلوماتهم ومعرفتهم، ومع تراكم هذا الاتجاه كانت العزلة والفجوة كبيرة بين الأبناء والآباء، هذه الظاهرة العالمية، الأسرة المسلمة ليست ببعيدة عنها، خاصة أن جزءا من المعلومات الدينية أصبحت متوفرة من مصادر متعددة على الانترنت، لكن هذا الواقع انعكس في ضعف الروابط الأسرية، وأصبحت الأسرة تُلبي جزءا صغيرا من الاحتياجات المعلوماتية لأبنائها، وهذا الجزء يتآكل مع مرور الزمن حتى يتلاشى.
لكن الأسرة المسلمة يجب أن تلفت أن عطاءها لأبنائها ليس معلوماتيا فقط، ولكن وجدانيا وتزكويا، يعيد موضعة تلك المعلومات والمعارف بما يخدم غايات المسلم الدينية في الاصلاح والتزكية والعمران، فالأسرة يجب أن توفر القدوة السلوكية من خلال الخلق القويم المتين، والتزكية التي تنقي من الداخل شوائب وحظوظ النفس والشيطان، لتنتج مسلكا رحيما ونافعا.
يجب أن يمنح الخطاب الدعوي الجديد نصائح للأسرة لكيفية تربية أبنائها للتعامل مع مجتمع مختلط، بل قد يكون نافرا من ضوابط العلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة، ومن ثم يصبح الواجب توجيه الأسرة كي يتمسك الأبناء بتعاليم دينهم خاصة السلوك العفيف، بنوع من الاعتزاز وعدم التشنج، والنظر للعفة من خلال منظور المراقبة الذاتية الإيمانية، التي تستحضر مراقبة الخالق، سبحانه وتعالى، للإنسان، والاعتقاد أن الله ينظر للإنسان من داخله، وليس من أعماله الظاهرة فقط، وهو ما يفرض انفتاح الخطاب الدعوي على تراث التزكية والسلوك، والاستفادة من هذا الرافد العظيم في بناء الذات المسلمة، وألا يكتفي الخطاب الدعوي في مجال الأسرة باستعراض الأحكام الفقهية والشرعية فقط، بل لابد من استحضار الوجدان الإيماني عند طرح الخطاب الشرعي، مع ضرورة تقديم المنتقي من هذا التراث، في ثوب عصري يثير المشاعر، ويبعث الإيمان المتواري في القلوب، فأهل التزكية يرون أن أصل كل مخالفة نابع من القلب، وأن القلب السليم هو الضابط للجوارح والسلوك، وهو خطاب يعصم الأسرة من التشتت والانحرافات.